الخطابُ الحسينيّ، مقوّماته البنائيّة
ــــــــــــــــــــــــــــ
الشيخ د. محمد شقير* ــــــــــــــــــــــــــــ
لا ريب في أهميّة الخطاب الحسيني ودوره في بناء الوعي
العامّ والثّقافة المجتمعيّة في شتّى المجالات، باعتبار أنّ هذا الخطاب يلقى
انتشاراً كبيراً، سواءً في المواسم العاشورائيّة أم في غيرها من المناسبات
المختلفة طوال العام.
ومن هنا نجد من الأهميّة بمكان البحث في أهمّ تلك المقوّمات
أو الميزات، التي ينبغي أن يراعيها الخطاب الحسيني، وينبني على أساسها.
أمّا أهم تلك المقوّمات، أو الميزات، فهي ما يلي:
1) فضائليّة الخطاب وتكامليّته:
المراد بفضائليّة الخطاب أو الخطاب الفضائلي، هو ذلك الخطاب الذي يتمحور
حول فضائل أهل البيت عليهم السلام ومناقبهم. ومن المعلوم أهميّة هذا البعد
الفضائلي، الذي يعرّف بأهل البيت ومقامهم، ومراتبهم وجملة من خصائصهم، وهو يعبّر
عمّا جاء في تراث أهل البيت عليهم السلام من أحاديث تؤكّد هذا الجانب من فضائلهم،
وهو ممّا لا شكّ فيه وفي جدوائيته، ومطلوبية العناية به.
لكن ما ينبغي الإشارة إليه، هو أنّ هذا البعد الفضائلي أو المناقبي، الذي
يؤكّد على أفضليّتهم وتقدّمهم على غيرهم، وأنّهم يمثّلون المرجعيّة الدّينية
والمعنويّة والسياسيّة بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله إنّما جاء ليقول للنّاس إلى أين يجب أن
ترجع في دينها، وأخلاقها، وسلوكها، ومعارفها، وقيَمها وبناء مجتمعاتها من أجل أن
تأخذ منهم كلّ ذلك، وتستمدّ من تراثهم كلّ ما تحتاج إليه، في ثقافتها، واجتماعها،
وسياستها، وتربيتها، وحياتها المعنويّة والدّينيّة.
أي إنّ القضيّة هنا تحتوي على شطرين:
الأوّل: هو من
يجب أن نرجع إليه؟ وهو ما يتولّاه البعد الفضائلي والمناقبي.
والثّاني: هو ما الذي يجب أن نأخذه ممّن نرجع إليه، وما الذي ينبغي
أن نتعلّمه منه، لنتعرّف عليه، ونعمل به؟ وهو ما يتولّاه التّعريف بعلوم أهل البيت
عليهم السلام، وأخلاقهم، ومحاسن كلامهم، ومعارفهم، ومجمل ما يتّصل بهم.
والاقتصار هنا على الشّطر الأوّل، لا يوصل إلى المقصود، لأنّه اذا كان
المطلوب أن نعرف عمّن يجب أن نأخذ، فذاك من أجل أن نأخذ عنه، ونعمل به، أمّا إذا
علِمنا عمّن نأخذ معالم ديننا ومن أين نأخذ معارفنا وأخلاقنا؛ لكنّنا لم نأخذْها،
ولم نتعلّمْها، ولم نعملْ بها؛ فما الذي نكون قد فعلناه؟
ألا يكون حالُنا كحال من علِم من أين ينبع الماء الزلال، لكنّه لم يذهب إلى
ذلك النّبع، ولم يستقِ منه، ولم يرتوِ من عذب مائه، شراباً سائغاً للشاربين؟
وعليه، هل يصحّ الاكتفاء بتعريف النّاس من أين تأخذ ثقافتها، دون التّعريف
بتلك الثّقافة ومحتواها؟ وهل من الحكمة تعريف النّاس من أين تأخذ أخلاقها وقيمها،
دون التّعريف بتلك الأخلاق، وتلك القيم؟ وهل من الصّحيح تعريف النّاس من أين تأخذ
معالم دينها، دون تعريفهم بتلك المعالم، والمعارف والسّنن؟
2) تاريخيّة الخطاب ومعاصرته:
من الواضح أنّ جانباً من موضوع الخطاب الحسيني، هو ما حصل مع الإمام الحسين
عليه السلام وخروجه، وصولاً إلى شهادته. وهذا قد حصل في التّاريخ، فمن الطّبيعي أن
يكون هناك بُعد تاريخي في الخطاب الحسيني، لكن ما ينبغي التّأكيد عليه، هو أنّ
أهداف ثورة الإمام الحسين عليه السلام وقيمها، ورسالتها، وجميع دروسها؛ هي مفاهيم
وقيم تتعدّى الماضي إلى الحاضر، وتتجاوز التّاريخ إلى المستقبل. بل هي في مدَياتها
متعالية على الزمان والمكان والحدود، ومن هنا ينبغي أن يكون ذلك الخطاب متضمّناً
لذلك البُعد المعاصر، غير مقتصر على الماضي، وشاملاً لذلك البُعد الحاضر، غير
مكتفٍ بالتّاريخ. بل ينبغي في ذلك الخطاب الوصلُ بين الماضي والحاضر، بين التّاريخ
والمستقبل. وذلك بأن يتمّ تناول الوقائع التّاريخيّة بشكل هادف، يصل بينها وبين
الحاضر، من خلال جسور القيم والأهداف.
أي إنّ أهداف ثورة الإمام الحسين عليه السلام وقيمَها ورسالتها، ينبغي أن تؤدّي ذلك الدّور،
الذي يربط بين ما حصل في التّاريخ مع الإمام الحسين عليه السلام وأئمّة أهل البيت
عليهم السلام، وبين ما يحصل اليوم في عصرنا ودهرنا. وهذا الوصل يجب أن يكون وصلاً
هادفاً إلى تحفيز الالتزام بتلك القيم، والعمل بتلك الرّسالة، وتحقيق تلك الأهداف،
من خلال الاستعانة بأحداث التّاريخ، وما حصل في الماضي.
أمّا تناول أحداث التّاريخ بشكل
منفصم عن الحاضر، والاستغراق في الماضي دون ربطه مع الحاضر - فعدا عن كونه قد يبني
ثقافة منفصمة عن حاضرها وغريبة عنها - فهو يتجاهل أهداف الثّورة الحسينيّة، ويُهمل
قيمها، ويتجاوز رسالتها. فضلاً عن أنّه يعطّل دور الخطاب الحسيني، ويُبعده عن
مقاصده التي يسعى إلى تحقيقها.
3) العاطفة والفكر:
أو ما يتمّ البحث فيه تحت عنوان «العِبرة والعَبرة»، أو «الدّمعة والفكرة»،
أو «القلب والعقل»؛ والمراد البحث في البعدين العاطفي والفكري في الخطاب الحسيني،
وطبيعة العلاقة بينهما.
بدايةً لا بدّ من الإقرار بأنّ البُعد العاطفي والوجداني هو بُعد حاضر بقوّة
في الخطاب الحسيني، بل وفي القيم الحسينيّة المؤسِّسة لذلك الخطاب. وهو يقوم بأكثر
من دور من خلال تموضعه في ذاك الخطاب ومطاويه:
أولاً: هو يحفر
عميقاً في القلوب محبّةَ الإمام الحسين عليه السلام ومودّته، ومودّة أهل البيت
عليهم السلام.
ثانياً: يستثير
مشاعر التّعاطف مع مظلوميّة الحسين عليه السلام وأهله.
ثالثاً: يستولد
النّقمة على المشروع الذي قتلَ الحسين عليه السلام ورموزه، ورجاله.
رابعاً: يُعِدّ النفوس لتلقُّف قيم الثورة الحسينية، ومعانيها
ورسالتها.
خامساً: يهيّء القلوب لتقبّل جميع المعاني الدينية والعمل بها.
وبالتالي، لا بدّ من القول إنّه لا غنًى عن هذا البُعد العاطفي
والوجداني في الخطاب الحسيني، لكن ما يجب التأكيد عليه، هو أنّ هذا البُعد العاطفيّ
هو بُعد هادف في جملة من مقاصده، وهو ما يتطلّب الوصل بين ذلك البعد والأهداف التي
يسعى إليها، وعدم الاكتفاء بإشباع البعد الوجداني، دون الالتفات الى المقاصد التي
ينبغي الوصول اليها.
فإذا كنّا نرى أنّ من وظائف الخطاب الحسيني زرعَ القيم الدينية
الأصيلة في النفوس، واذا كان البعد العاطفي يُسهم في تهيئة تلك النفوس لتقبّل تلك
القيم والعمل بها؛ فهل سوف يكون من الصحيح أنْ نعمل على تهيئة تلك النفوس دون
الاستفادة من تلك الفرصة، لزرع القيم الصالحة والهادفة فيها؟
ألا يكون حالُنا عندها، كمن هيّأ أرضاً للزراعة، وبذل جهداً في
إعداد تربتها؛ لكنّه لم يزرع البذور المنتجة، ولم يغرس فيها الأشجار المثمرة؟
4) الواقع أم الانفصام عنه:
لقد بيّنا أنّ الخطاب الحسيني يهدف إلى تحقيق قيم الثّورة الحسينيّة
ومقاصدها، في الإصلاح، والعدالة، ومواجهة الظّلم والفساد، وعليه، سوف يكون من
الطبيعي أن يسعى إلى تحقيق تلك القيم ومقاصدها في الواقع الذي يتوجّه إليه، ويتفاعل
معه، وأن يعمل على الوصول إلى أهدافه، في المجتمعات التي يقصدها ويخاطبها، وتتلقّى
هي مضمونه ومحتواه. فلربّما تجد مجتمعات تعاني من الفساد القيمي والأخلاقي، أو من
الفساد السياسي أو الاقتصادي أو المالي، أو من الفساد الإداري والمؤسّساتي. فسوف
يكون عندها من الطبيعي، أن يتوجّه ذلك الخطاب بشكل أساس إلى مواجهة ذلك الفساد
المستشري في تلك المجالات والميادين.
ولربّما تجد مجتمعات تعاني بشكل أساس من غياب العدالة الاجتماعيّة، أو
العدالة الاقتصاديّة، أو العدالة في توزيع الفرص والثروات، أو العدالة السياسيّة،
وأنّ الظّلم (اللاعدالة) قد استشرى بشكل أكبر في هذا الجانب من الحياة الاجتماعيّة
أو ذاك؛ فهنا، سيكون من الطّبيعي جدّاً أن يتوجّه الخطاب الحسيني إلى مواجهة طبيعة
الأزمة أو المشكلة كما هي عليه في المجتمع. أمّا أن نبقى نتحدّث في الإصلاح الذي
خرج من أجله الإمام الحسين عليه السلام في التّاريخ، ثمّ نتغافل عن تحقيق الإصلاح
في مجتمعنا المعاصر، فهذا يعني تعطيلاً للخطاب الحسيني عن دوره وغاياته.
أن نشرح جميع أوجه الفساد الذي ثار لمواجهته الإمام الحسين عليه السلام، ثمّ
نتجاهل الفساد، الذي ينخر مجتمعاتنا، ومؤسّساتنا، وأنظمتنا السياسيّة؛ فهذا نوع من
الإقصاء الذي يمارس بحقّ الخطاب الحسيني عن وظيفته وأهدافه.
أن نبحث في اللاعدالة أو الظّلم الذي استشهد في سبيل مواجهته الحسين عليه
السلام، ثمّ نتعامى عن الظّلم أو اللاعدالة الاجتماعيّة أو الاقتصاديّة التي تعاني
منها مجتمعاتنا؛ فهذا يعني إسقاط نوع من الغربة على هذا الخطاب عن مقاصده، وقيَمه.
قد يقال إنّ في ذلك إقحاماً لخطاب ديني يتميّز بقداسته في شؤون دنيويّة،
وفي قضايا السياسة والاجتماع وما يمكن أن يترتّب على ذلك من محاذير!
في الجواب ينبغي القول: إنّ في ذلك توجيهاً للخطاب الحسيني ليؤدّي وظيفته،
ولا يصحّ لأيّ تبرير أن يُخرج الخطاب عن دوره. لكنّه عندما يؤدّي الخطاب تلك
الوظيفة، فينبغي أن يكون ذلك بمنتهى الحكمة، والوعي، والرّشد، والدّراية بظروف
الزّمان والمكان، وخصوصيّات المجتمع وأزماته، وطبيعة الأولويّات.
أمّا الحديث عن القداسة، فأيّة قداسة هي تلك القداسة التي تُهمل شؤون الناس
وآلامهم، وآمالهم، ومشاكلهم وأزماتهم؟ واذا لم تعمل القداسة على تطهير المجتمع من
الفساد والظّلم واللاعدالة فما الفائدة منها؟ وأين هي وظيفتها؟ أو ليس من دروس
كربلاء أنّ الحسين عليه السلام، قد خرج بقداسته إلى ميدان المواجهة، ليواجه الظّلم
والفساد، واستشهد هو وأهله وأصحابه في طريق العدل والإصلاح؟
5) رساليّة الخطاب وقدرته التّعبيريّة:
من الواضح أنّ للخطاب الحسيني قيَمه وأهدافه ورسالته ... مثله مثل أيّ خطاب
آخر. لكن ما يميّز الخطاب الحسيني أنّ موضوعه هو الإمام الحسين عليه السلام وثورته
ورسالته، والمدرسة التي ينتمي إليها، ويعبّر عنها. ومن هنا ينبغي أن يكون الخطاب
الحسيني بمستوى موضوعه. أي أن يكون - ما أمكن إلى ذلك سبيلاً - تعبيراً صادقاً عن
ثورة الحسين وأهدافها ورسالتها. بل أن يكون تعبيراً وافياً عن مدرسة أهل البيت
عليهم السلام وقيمها ومبادئها، ووسيلة ناجحة في بيان علومها، وأخلاقها، وما يمكن
أن تقدّمه للإنسان والإنسانيّة.
ما يجب قوله هنا، هو أنّ المبدأ الأساس في بناء الخطاب الحسيني يتمحور حول
هذا السؤال: كيف ينبغي أن نعمل حتّى يكون ذلك الخطاب تعبيراً صادقاً عن قيم
الثّورة الحسينيّة وأهدافها، بل تعبيراً وافياً عن مدرسة أهل البيت عليهم السلام
ورسالتها ومعارفها؟
إنّ ما ينبغي طرحه هنا هو: هل من الصحيح أن يكون الخطاب بحجم واقعة، أم يجب
أن يكون بمستوى رسالة؟
هل من الصّحيح أن يكون الخطاب مجرّد تعبير عن مظلوميّة، أم ينبغي أن يكون
تعبيراً عن مدرسة في جميع قيمها، ودروسها، وعبرها؟
هل من الصّحيح أن يكون الخطاب مجرّد حاكٍ عن حدث أو راوٍ لسيرة، أم ينبغي
أن يحكي أيضاً عن أهداف الخروج، ويروي مقاصد السيرة وغاياتها، وما قبلها وبعدها؟
وإلّا فإنّنا نمارس عمليّة تحجيم لثورة الإمام الحسين عليه السلام، عندما
نختزلها في واقعة، أو نحبسها في يوم، أو نفصلها عن معانيها ودلالاتها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* عالم دين وأستاذ في الجامعة اللبنانية