**
يبدأُ انقلابُ الحواسِّ على العقل، حينَ يَجْمَحُ «الهوى» عبر الحواسِّ ثمّ الجوارحِ إلى تعزيز ثقافةِ «اللّذّة، والرَّغبة»، جناحَي «الأنا» الحميدةِ أو الخبيثة.
«الأنا» الحميدة، ثمرةُ خطِّ سلامةِ العقل والقلب، والتزامِ الجوارحِ قرارَ العقل الذي تلقَّفَه القلبُ وعُقِدَ عليه، فصارَ عقيدتَه وهَواه، وانتظمتِ الجوارحُ في صراطِه وهُداه.
أمّا «الأنا» غير الحميدة فهي نِتاج خطٍّ معكوسٍ هو التزامُ قرارِ هوى الحواسّ، لِتَعتديَ الجوارحُ على سلامةِ القلبِ فيَهوى ما يُمْرِضُه، ويعتدي على العقلِ لِيُدْخِلَه في «سُباتِ العقل» أو يصرَعَه، أو يَأْسُرَه، أو يُخرِّقَه، كما تحدّث المعصوم عن هذه الأمراض. يجمعُها قولُ عليٍّ عليه السلام: «كَمْ مِن عقلٍ أسير، تحتَ هوىً أمير».
بالإمكانِ الحيلولةُ دونَ استلابِ العقلِ كَمُقدّمةٍ لاستلابِ الحقّانيّةِ والإخلاص، إنْ تَوَفَّرَ ترميمُ كلِّ نقصٍ طارىءٍ يؤدّي إلى إضعافِ حكومةِ العقل. أبرزُ وسائلِ هذا التَّرميم هو تثبيتُ الإخلاصِ بالصَّوم.
**
يتحقَّقُ تثبيتُ الصَّوم للإخلاص بتعزيزِ العقلِ عبرَ تهذيبِ الحواسّ، وإقامةِ العَدل في دولةِ النّفْس، فلا تستبدَّ الحواسُّ بالقلب فيَمرض، ولا يطغى القلبُ على العقل فيُؤْسَر، أو يُصرَع، أو ينام، ويُقال.
صومُ الحواسِّ والجوارحِ تدريبٌ لها على مُساكنةِ العقلِ وطاعتِه، وتحفيزٌ للعقلِ على إعمالِ سُلطَتِه.
الصّومُ مُناخُ الحِكمة. والحِكمةُ إعطاءُ كلٍّ من العقلِ والقلبِ والجوارحِ ما يناسبُه وِفقَ ميزانِ العدل.
عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:
* «نورُ الحِكمةِ الجوع، والتَّباعدُ من الله الشَّبَع، والقُرْبَةُ إلى الله حبُّ المساكينِ والدُّنُوُّ منهم. لا تشبَعوا فَيُطْفَأ نورُ المعرفةِ من قلوبِكم».
* لجابر بن عبدِ الله: «يا جابر، هذا شهرُ رمضان، مَن صامَ نهارَه وقامَ وِرْدَاً من ليلِه، وعفَّ بطنَه وفرْجَه، وكفَّ لسانَه، خرجَ من ذنوبِه كَخُروجِه من الشَّهر، فقال جابر: يا رسولَ الله ما أحسنَ هذا الحديث! فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: يا جابر! وما أَشَدَّ هذه الشّروط!».
* السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام: «ما يصنعُ الصّائمُ بصيامِه إذا لم يَصُن لسانَه وسَمْعَه وبصرَه وجوارحَه؟!».
*الإمام الحسين عليه السلام: «.. لِيَجِدَ الغنيُّ مسَّ الجوع، فيَعودَ بالفضلِ على المساكين».
«يَجِدُ الغنيُّ مسَّ الجوع» في مناخ الإمساكِ، والكفِّ، والجوعِ
-مُناخِ الحِكمة- حيثُ يتمُّ تعزيزُ العقل عبر تهذيبِ الحواسِّ والجوارح، فلا تَفتِك عبرَ القلبِ بالعقل، لِيَسْلَما، ويتحقَّقَ تثبيتُ الإخلاص.
**
أَشدُّ الحواسِّ فتكاً بالقلب وعدواناً -عبرَ هوى القلب- على العقلِ وسُلطتِه وحكومتِه، هي السَّمْعُ والبَصَر، وأَشدُّ الجوارحِ فتْكَاً وبطْشاً هو اللّسان.
يحْملُنا هذا التّدبُّر إلى خطبةِ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله:
«وَاحفَظوا ألسِنَتَكُم، وغُضّوا عَمّا لا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيهِ أبصارَكُم، وعَمّا لا يَحِلُّ الإستِماعُ إلَيهِ أسماعَكُم».
أن يكونَ البديلُ عن مرجعيّة العقل، مرجعيّة هذه الحواسّ الأدوات، فذلك يعني نصبَ المتَّهمِ حَكَماً واللِّصِّ قاضياً.