الشيخ علي جابر*
بين أمير المؤمنين عليِّ بنِ أبي طالب عليه السلام والظُّلم، حكايةٌ طويلةٌ من العَداوة يملؤها الأَسى والشَّجَن. فَقُبْحُ الظُّلم يُناقِض جمالَ وجودِ عليٍّ عليه السلام، الذي هو من جمال الله تعالى، ويُنافي حُسنَ عدلِه الذي هو من عدلِ الله تعالى.
نجدُ في السّيرة العلويّة حرصاً على البراءة من كلّ أشكال وألوان الظُّلم، معلناً بذلك مع الأقربين والأبعدين، مُبدياً الإستعداد لتحمُّل كلّ الأثمان الباهظة حتى لا يلقى الله بظلامةِ أحدٍ من عبادِه، لأنّ هذه النفْس التي هي سائرة إلى معادها وفانية عن دنياها، لا يجدر أن يُرتَكب لأجلها الظلم، حيث يقول:
«وَاللهِ لأنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً، أَوْ أُجَرَّ فِي الأغْلاَلِ مُصَفَّداً، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللهَ وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ، وَغَاصِباً لِشَيْء مِنَ الْحُطَامِ، وَكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى الْبِلَى قُفُولُهَا، وَيَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا؟!» (خطبة 224).
قد نُحابي، فنَظلِم
قد نجدُ في بعض الأحوال المبرّر لأنفسنا لِفعل ما لا نراه ظلماً، حينما يتعلّق الأمر بالأهل والأقارب بعناوين متعدّدة (خدمة – صِلة رَحِم – فِعل معروف..)، على الرّغم ممّا في الفعل من المحاباة والانحراف عن جادّة العدل والسّويّة. لذلك يحذِّرنا الإمام عليه السلام من مغبَّةِ ظُلمِ الناس وسوء عاقبتِه، سواءً كان ذلك حاصلاً من معاملة أم سياسة أم سوى ذلك، لأنّه يُرتِّب حقّاً للغير وقصاصاً بالمثل يوم القيامة، وأنّى للإنسان تحمُّل ذلك، وقد خُلِق الإنسان ضعيفاً، فظُلم الناس ممّا لا تسقط تبعتُه بالاستغفار فقط، بل بإصلاح ما أفسدَه العبدُ مع العباد أيضاً. يقول عليه السلام: «وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لاَ يُتْرَكُ، فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً. ألْقِصَاصُ هُنَاكَ شَدِيدٌ، لَيْسَ هُوَ جَرْحاً بِالْمُدَى، وَلاَ ضَرْباً بِالسِّيَاطِ، وَلكِنَّهُ مَا يُسْتَصْغَرُ ذلِكَ مَعَهُ». (الخطبة 176).
الظُّلم حربٌ على الله تعالى
هل يخطرُ في بال الإنسان أنّ الله تعالى يغارُ على عباده المظلومين ويغضبُ لهم؟ وأنّ معنى غضبه تعالى أنّه يُعلِنُ حربه على الظّالم حتّى يردَّ عليه ظلمَه ويُوردَه ما أتى؟
قال عليه السلام: «مَن ظلمَ عبادَ الله كان اللهُ خصمَه دون عبادِه، ومَن خاصمَه اللهُ أدحضَ حُجَّتَه، وكان لله حرباً حتى ينزعَ أو يتوب..» (من عهدالأشتر).
ظُلمُ الأهلِ والعِيال
من أقبح الظلم أن يظلم الإنسان أهله، وهم الأقرب إليه والأولى لديه بالتكريم والعطف، فينالهم تعسّفاً ويلحق بهم الأذى، أو يحرمهم حقّاً، ماديّاً أو معنويّاً. وهو من سوء الخُلق مع الأهل الذي يورث ضيقاً في اللّحد وضغطة في القبر كما جاء في الأحاديث الشريفة. ويجدر بنا حينئذٍ أن نلحظ منظومة الحقوق والواجبات التي فيها حقّ الولد والوالد. يقول أمير المؤمنين عليه السلام : «إنّ للولدِ على الوالد حقّاً، وإنّ للوالدِ على الولد حقّاً: فحقُّ الوالدِ على الولدِ أن يُطيعَه في كلِّ شيء، إلّا في معصيةِ اللهِ سبحانَه، وَحَقُّ الولدِ على الوالدِ أنْ يُحسِنَ اسمَه، وَيُحسِنَ أدبَه، وَيُعَلِّمَه القرآن» (الحكم و المواعظ: 388)
قد نسمّي الظُُّلمَ سياسة
ولم تَضطرّ أميرَ المؤمنين الحاجةُ إلى النُّصرة وكفِّ يد الأعداء عنه إلى قبول المهادنة أو المُسايرة في ما يُسمّونه اليوم بالدبلوماسيّة، وهو في أوّل خلافتِه، والأوضاعُ مضطّربة والأمرُ لم يستتِب له، وقد تألَّب عليه أصحابُ المصالح والمنافع، فجاءَه عبدُ الله بن عبّاس يُشير عليه أن يدعَ ما في أيدي بعضِ وجوهِ القَرشيّين من الأموال لِيَرضوا ببيعتِه ولا يخرجوا عليه، فأجابه: «أَتُريدُني أنْ أطلبَ النَّصرَ بِالجَور؟ لا يكونُ ذلك أبداً»، إذْ كانت هذه الأموالُ والأسهُم قد أُعطِيت لهم عن غير عدلٍ بين المسلمين.
بل ذهبَ إلى بعد من ذلك، فَأَعلنَ عن عزمه على ردّ ما أقطعه عثمان بن عفّان لِبعضهم إلى بيت مال المسلمين: «وَاللهِ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ، وَمُلِكَ بِهِ الإمَاءُ، لَرَدَدْتُهُ؛ فَإِنَّ في العَدْلِ سَعَةً، وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ العَدْلُ، فَالجَوْرُ عَلَيْهِ أَضيَقُ» (خطبة 15).
إنّ سياسةَ الإمام عليه السلام هي دين، وليست شيئاً آخر، ومن هذه المبدئيّة تمّت صياغة المقولة المشهورة: «سياستُنا عينُ ديانتنا»، فهي مقولة علويّة من مَعين الإسلام المحمديَ الأصيل، يَستهدي بها العاملون في الشأن العامّ للأُمّة.
لا يكونُ الظُّلمُ إلّا كبيراً
ولا فرقَ في نهج الإمام عليه السلام ومبدئيّتِه بين ظُلمٍ كبيرٍ وآخر صغير، لأنّ المقدار لا يُغيَّر من الحقيقة، ولأنّ في الاستهانة بالظُّلم الحقير جُرأةً على المولى تَعالى والعباد. فما شأنُ النَّملة بين الخَلق، وما قيمةُ جِلْبِ شعيرة، وهو القِشرة من الشعيرة؟ لكنّ الإمام عليه السلام يختار اجتنابَ انتزاعهمِا منها على مُلك الدنيا فيقول:
«وَاللهِ لَوْ أُعْطِيتُ الأقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلاَكِهَا، عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جِلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ، وَإِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لَأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضِمُهَا، مَا لِعَلِيٍّ وَلِنَعِيمٍ يَفْنَى، وَلَذَّةٍ لاَ تَبْقَى. نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ، وَقُبْحِ الزَّلَلِ» (الخطبة 224).
وقد وردَ عن مولانا الإمام جعفر الصّادق عليه السلام: «نَهَى رسولُ الله صلّى الله عليه وآله أنْ يُؤكَلَ ما تحملُ النَّملة بِفِيها وقوائمِها». (منتخب ميزان الحكمة، ص 321).
حقّاً هكذا يتجلّى العدلُ في سيرة عليٍّ عليه السلام حتّى في النَّملة والجرادة، وهو يدعو ويَعِظُ ويُرَبِّي الأُمَّةَ على حبِّ العدل وكَراهيةِ الظُّلم، ممّا هو الحال مع النفْس وارتكابِ الظُّلمِ فيها؟
المعصيةُ ظُلْم
من الظُّلمِ الواضحِ أيضاً أن نُردِيَ النفْس في المهالك، ونُهينَها بالمعاصي، ونمنعَها عن كمالها الذي يَليق بها وقد خُلقت لِنيلِه، والتزيُّن به.
رُوي عنه عليه السلام في (غُرَر الحِكم): «مَن كَرُمَت عليه نفسُه لَم يُهِنْها بِالمَعصية».
إنّ التأمُّل لهذا المعنى من ظُلم النفْس يُوقفنا على حقيقةِ أنّ ما مِن إنسانٍ قد ظَلم الغيرَ إلّا وقد ظلمَ نفسَه قبلَ ذلك. أَلَيْسَ إنصافُ الناس من النفْس هو إنصافٌ للنفْس؟ ولولا أنّه أنصفَ نفْسَه لَما أنصفَ الناس!. ويقول أمير المؤمنين عليه السلام: «حَسْبُ المَرءِ من عقلِه إنصافُه من نفسِه.. ومن إنصافه قولُه الحقَّ إذا بانَ له» (منتخب ميزان الحكمة، ص 503).
السلامُ عليك يا إمامَ العدل، ومُقارِعَ الظُّلمِ والظّالمين، ولسانَ الحقِّ في العالمين.
* باحث في الإلهيات والفلسفة الإسلامية