الشيخ حسين علي الطَّقش*
تُعتَبرُ أسرارُ العبادات –ومنها أسرار الصَّوم- بمثابة اللُّبّ، أمّا الأحكامُ والسُّنن فهي بمثابة الجِلدِ والظّاهر، وهذا لا يعني عدم الإعتناء بالأحكام والسُّنن، بل المُراد هو الإعتناء الشّديد بهذه الأسرار لتحصيل مرتبة الكمال الإنساني، والتي هي غاية وجود الإنسان.
يقول عبد الرزّاق الكاشاني في (لطائف الأعلام): «لمّا كان الغاية من وجود الإنسان إنّما هو وصولُه إلى مرتبةِ الكمال، التي هي الغاية من إيجاد الحقّ تعالى له، وكان ذلك لا يصحّ إلّا لِمن كمُل حضورُه مع ربّه سبحانه، وبذَلَ كلَّ ما سواه في حبِّه عزَّ وجلَّ، وبالغَ في تطهير نفسه عمّا لا يليق بحضرةِ قُدْسِه عزَّ وجلَّ، وهجرَ كلَّ شاغلٍ من الأوطان والإخوان، ولم يكن ذلك في وُسْع أكثر النّاس، بل ولا يجوز ذلك لِكُلِّهم، أنعمَ الله سبحانه على عباده ولَطُف بهم، فإنّه هو الخبير بِحالِهم، والرّؤوف بهم. فما افترضَه عليهم [هو] ما افترضَه من عبادته التي [لا] يكلِّفُهم منها إلّا بقَدْرِ وُسعِهم، لِيَكُونَ ذلك وسيلةً لهم إلى نَيْل هذه المقامات ".."، وهكذا لمّا علِم سبحانه ضعفَ العَبد عن دوامِ التشبُّه بعالم قُدسِه، وعن دوام الإتّصال بحضرةِ إلهيّته، وهجرِه لِمُقتضيات وَهْمِه وحِسِّه، فَرَضَ عليه صَوْم شهرٍ واحدٍ من سَنتِه لعلمِه بضعفِه عن استغراق الصَّوم أيّامَ عمْرِه، ففرضَ عليه هذا الشهر لئلّا يستهلكَ لطيفةَ روحانيّته في كثيف جسمانيّته، فيمتنعَ بذلك عن الدّخولِ في الرَّوحانيّين المُعتكِفين على حضرةِ قُدْسِه، فَكَفَّرَ عن عبدِه بإمساكِه عن مُشتهياته من الأكلِ والشّرب والنّكاح في هذه المدّة المعيّنة باقي أيامِ عمره».
الشَّريعة والطَّريقة والحقيقة
إنّ حقيقة الإسلام هي الشَّريعة والطَّريقة والحقيقة، وإنّ الشريعة هي الظَّاهر، والطَّريقة هي باطن الشريعة، وظاهر الحقيقة، والحقيقة هي باطنُ الطّريقة.
معنى الشَّريعة: الشَّريعة من الشَّرْع، والشَّرْع في اللُّغة عبارة عن البيان والإظهار، ويُقال: شَرَعَ الله كذا، أي جعلَه طريقاً ومذهباً.
معنى الطّريقة: الطريقة هي السِّيرة المُختصّة بالسالكين إلى الله تعالى، مِن قَطْع المنازل والترقّي في المقامات.
معنى الحقيقة: عبارة عن فَناء العَبْد في الحقّ، والبقاء به عِلماً وشهوداً وحالاً، لا عِلماً فقط.
وإذا اتّضح المُراد من الشَّريعة والطَّريقة والحقيقة، وأنَّ الغاية هي الوصول إلى الحقيقة، وأنّ الطَّريقة والشَّريعة هي مقدّمات لذلك، فلا بدّ إذاً من مراعاة الآداب القلبيّة والظاهريّة لجميع العبادات ومنها الصَّوم، للوصولِ للغاية والهدف. فمِن هذه الآداب:
الأوّل: عزُّ الرُّبوبيّةِ وذُلُّ العبوديّة: يقول الإمام الخميني قدّس سرّه: «أحدُ الآداب القلبيّة المطلوبة في العبادات والوظائف الباطنيّة لِسالك طريق الآخرة، الإلتفاتُ إلى عزِّ الربوبيّة وذلِّ العبوديّة، وهو من المنازل المهمّة للسّالك، فقوّة سلوك السالك تَعتمد على قوّة هذا الإلتفات، بل إنَّ كمال إنسانيّة الإنسان ونقصَها مُرتبطٌ بكمال هذا الإلتفات ونَقْصِه، وكلّما غَلَب على الإنسان التوجُّه والإلتفات إلى الإنِّيّة والأنانيّة، والعُجب والغُرور، كان بعيداً عن كمال الإنسانيّة، ونائِياً عن مَقام قُرْب الربوبيّة ".."، فمَن يَسير بِخُطى العبوديّة، ويَكْوي ناصِيَته بِجَمْر ذلِّ العبوديّة، يَصِل إلى عزِّ الربوبيّة، فالوصول إلى حقائق الربوبيّة إنّما يكون بالسَّير في مَدارِج العبوديّة، وكلُّ ما يُفقَد من الإنِّية والأنانيّة في العبوديّة، يُدرَك في ظلِّ حماية الربوبيّة، وحتّى بلوغ ذلك المقام الذي يكون الحقّ تعالى فيه السَّمع والبَصَر واليَد والرِّجل، كما أشار إلى ذلك الحديث المشهور بين الفريقين "..". إذاً، فمِن الضروري للسَّالِك إلى الله أن يُدرك مَقامَ ذُلِّ نفسه، وأن يجعل (ذلّ العبوديّة وعزّ الربوبيّة) نُصبَ عينَيْه يتأمّل فيه، فكلّما ترسّخ لديه الإعتقاد بهذا الشِّعار، إزدادت عبادتُه روحانيّة، وقَوِيَت روحُ العبادة فيه، حتّى إذا تَمكّن –بمعونة الحقّ تعالى وأوليائه الكُمَّل عليهم السلام- من الوصول إلى حقيقة العبوديّة وكُنْهِها، نالَ نَفْحةً من سِرِّ العبادة».
إذاً، الإلتفات إلى (عزّ الربوبيّة وذلّ العبوديّة) من المَنازِل المُهمّة لِلسَّالِك إلى الله تعالى، ولهذا نَجِد الروايات الكثيرة التي حَثَّت على ذلك، منها:
عن الإمام الصادق عليه السلام: «العبوديّة جوهرةٌ كٌنْهُها الرُّبوبيّة، فما فُقِد في العبوديّة وُجِد في الرّبوبيّة، وما خَفِي في الربوبيّة أُصِيب في العبوديّة».
وفي وصيّة الإمام الصادق عليه السلام لعنوان البصري، عندما سأله: يا أبا عبد الله ما حقيقة العبوديّة؟ قال عليه السلام: «ثلاثة أشياء: أن لا يرى العبدُ في ما خَوَّلَه الله مُلكاً، لأنَّ العبيد لا يكون لهم مُلْك، يَرَوْن المال مالَ الله يَضعونه حيثُ أَمَرَهُم الله، ولا يُدبِّرُ العبدُ لنفسِه تدبيراً، وجملةُ اشتغالِه في ما أَمَرَ الله تعالى به ونَهاه عنه، فإذا لم يرَ العبد لِنفسه فيما خَوَّله الله مُلْكاً، هان عليه الإنفاق فيما أمرَه الله تعالى أن يُنفق، وإذا فَوَّض العبدُ تدبيرَ نفسه إلى مُدَبِّره، هان عليه مصائبُ الدُّنيا، وإذا اشتَغَل العبد بِما أَمَرَهُ تعالى ونَهاه، لا يَتفرّغ منها إلى المِراء والمُباهاة مع النَّاس، فإذا أكرمَ اللهُ العبدَ بهذه الثلاثة هان عليه الدُّنيا وإبليس والخَلْق، ولا يَطلب الدُّنيا تَكاثُراً وتَفاخُراً، ولا يَطلب ما عند الناس عِزّاً وعُلوّاً، ولا يَدَع أيّامه باطلاً..».
الثاني: الحفاظ على عبادة الصَّومِ من تصرُّف الشيطان:
يقول الإمام الخميني قدّس سرّه: «أحد الآداب القلبيّة المهمّة في الصّلاة، وفي سائر العبادات، بل من أهمِّ الآداب القلبيّة، والذي يُعدُّ القيام به من عُقَد الأمور ومُشكِل القضايا: (المحافظة على الأعمال من التصرّفات الشيطانيّة)، ولعلّ قوله تعالى في وصفه المؤمنين: ﴿والذين هم على صلواتهم يحافظون﴾ المؤمنون:9، إشارة إلى جميع مراتب حِفْظِ الأعمال، والحِفْظ من تصرُّف الشيطان يُمثِّل إحدى تلك المراتب، بل أهمّها ".."».
الثالث: ومن الآداب التي يَنبغي مراعاتها للصّائم خاصّة، هي أنْ يَغضَّ بَصَره عن كلِّ ما يحرُم النّظر اليه، أو يُكرَه، أو يُشغِلُ القلب ويُلهيه عن ذكرِ الله تعالى، ويَحفظ اللّسان عن جميع آفاته، ويكفّ السَّمع عن كلِّ ما يُحرَم أو يُكرَه استِماعُه، ويكفّ بطنَه عن الحرام والشُّبُهات، ويكفّ سائرَ جوارحه عن المَكاره. وينبغي أيضاً ألّا يَستكثِر من الحلال وقت الإفطار بحيث يَمتلِىء، إذ ما من وعاء أبغض الى الله عزّ وجلّ من بطنٍ مُلِىءَ من الحلال.
ومن الآداب أيضاً ألّا يُكثر من النوم بالنّهار حتّى يحسَّ بالجوع والعَطش.
إذاً، مراعاة هذه الآداب وغيرها يوصل السالك إلى تحصيل أسرار الصَّوم، الذي بدوره يوصِل الى الغاية والهدف، أي الحقيقة التي هي باطنُ باطنِ الشّريعة.
فمن هذه الأسرار:
1- الصَّمَدِيّة: يقول العلّامة النراقي: «والغرضُ الأصليُّ منه [الصَّوم]، التخلُّق بخُلُقٍ من أخلاق الله تعالى، أعني الصّمديّة ".."».
2- التشبُّه بالملائكة: يقول القاضي سعيد القمّي: «بالصَّوم يَتشبَّهُ الإنسان بالملائكة المُقرّبين، والأنوار القدّيسين، وَهُمْ لله تعالى، ووجودُهم وهوّيتهم هو كَوْنُهم لله، فيصير العبدُ بهذا التشبُّه لله، فالصَّوم لله من هذه الجهة ".."، إنّ الصوم عبارة عن فَناء العَبد عند المَوْلى، فهو سببُ انكسار الهِمَّة عن غير الله، وموجِبٌ لِتخفيف الحساب، إذْ الحسابُ إنّما هو على شيء، والصَّائم قد فنِيَ عن نفسه وعن كلّ شيء ".."».
* أستاذ في الحوز العلمية - لبنان