بقلم: نزار حيدر*
«ظلّ (عليّ-الإنسان) في الجاهليّة كما هو في الإسلام، وفي عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله كما هو بعدَه، وفي السُّلطة كما هو خارجها، إنساناً مع نفسه، ومع ربِّه، ومع مَن حوله، عائلته كانوا أمْ رعيّته، أصحابَه كانوا أمْ أعداءَه، عشيرته كانوا أمْ غيرها، إنّه الإنسان أوّلاً وأخيراً».
ما يلي، وقفة مع أُسس النّظام الدّيمقراطي، في نهج الإمام علي عليه السلام، كما يراها الكاتب العراقي نزار حيدر.
إنّ عظمة عليّ بن أبي طالب عليه السلام، ليست في كَوْنه إماماً أو معصوماً أو أميراً للمؤمنين أو خليفة رسول الله صلّى الله عليه وآله فَحَسْب، وإنّما تَكمُن عظمته في كَوْنه إنساناً لم يتنازل عن إنسانيّته لحظة واحدة، فلقد ظلّ (عليّ-الإنسان) في الجاهليّة كما هو في الإسلام، وفي عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله كما هو بعدَه، وفي السُّلطة كما هو خارجها، إنساناً مع نفسه، ومع ربِّه، ومع مَن حوله، عائلته كانوا أمْ رعيّته، أصحابه كانوا أمْ أعداءه، عشيرته كانوا أمْ غيرها، إنّه الإنسان أوّلاً وأخيراً، إنسان وهو يُعلِّم الناس، وإنسان وهو يَنصح الخلفاء، وإنسان وهو يَحكم النَّاس، وإنسان وهو يُحارب مُدافِعاً عن دِين الله تعالى ورسوله الكريم، وإنسان وهو يَقضي بين النَّاس، وإنسان وهو يُصدِرُ حكمَه ضدّ أَعتى مجرمٍ في تاريخ البشريّة، قاتلِه ابنِ ملجم، وإنسان وهو يُوصي، وإنسان وهو يَعدِل، وإنسان وهو يَقتصّ، وإنسان وهو زوج، وإنسان وهو أب، وإنسان وهو أخ، وإنسان وهو إبنٌ أو ربيب.
ولكثرة الجوانب في (عليّ-الإنسان) التي لا يَسَعها مَقام ولا يَحويها مَقال، فقد آثرتُ أن أَتَلمَّس جانباً واحداً من هذه الجوانب الكثيرة والمُتعدّدة، أَلَا وهو جانب (الحاكم- الإنسان) فيه، والذي أَعتقد أنّه يُلخِّص فلسفة الديمقراطيّة الحقيقيّة التي يَتَطلّع إليها النَّاس في عصرنا الحاضر، بعد أن تَحوّل الحاكِم في عالمنا إلى وَحْش كاسِر ومُفترِس، يَأكل حُقوق الناس بمُختلف الطُّرُق والأساليب، سواءً في ظلّ نظام سياسي ديكتاتوري، أم في ظلِّ نظام سياسي ديمقراطي، طبعاً مع الأخذ بنظر الإعتبار مستوى التفاوت في الأمر.
فما هي أسس النظام الديمقراطي في نهج الإمام عليّ عليه السلام؟
أوّلاً: لا شرعيّة لِحاكم يَستولي على السُّلطة من دون تفويضٍ من الناس، أو رِضاهم، أو انتخابهم.
كأن يستولي عليها بالتآمر، فشرعيّة السُّلطة مِن رِضى النَّاس فقط، ولا اعتبار لِمَا يُسمّونه بالشرعيّة الثوريّة، أو شرعيّة التوريث أو الإنقلابات العسكريّة، أو الخَلْع بالقوّة، والقتل بالتآمر، أبداً.
فعندما تُوفِّي رسول الله صلّى الله عليه وآله، تقدّم أبو سفيان وهو في دار الرسول مبايعاً الإمام عليّاً عليه السلام قائلاً له: «يا أبا الحسن، هذا محمّد قد قضى إلى ربّه، وهذا تراثه لم يَخرج عنكم، فابَسِط يدك أُبايعْك فإنّك لها أهل». فكان جواب الإمام: «يا أبا حَنْظَلة، هذا أمرٌ ليس يُخشى عليه».
وكان عمّه العباس مؤيّداً لرأي أبي سفيان شيخ بني أميّة، فقال للإمام: «يا ابن أخي، هذا شيخ قريش قد أَقبل، فامدُدْ يَدَك أُبايعك ويُبايعك معي، فإنّا إنْ بايعناك لم يَختلف عليك أحد من بني عبد مناف، وإذا بايعك عبد مناف لم يَختلف عليك قُرَشي، وإذا بايَعتْك قريش لم يَختلف عليك بعدها أحد في العرب». فكان جواب الإمام الذي أسّس للديمقراطيّة بِأروع صُوَرها وأبهى معانيها: «لا والله يا عمّ، فإنّي أُحبُّ أن أصحر بها، [ويُقال أصحر القوم إذا برزوا إلى فضاء لا يواريهم شيء] وأَكره أن أُبايع من وراء رِتاج». [والرِّتاج هو الباب العظيم، وقيل هو الباب المُغلَق].
إنّ هذا النصّ، أسّس إلى:
لا شرعيّة لِسُلطة تُحاك خيوطها سرّاً، ومن وراء الأبواب المُغلقة، أو في الغُرَف المُظلمة.
السلطة الشرعيّة هي التي يَتَسنَّم موقعها الحاكِم عن طريق تفويض أكثريّة الناس وليس الأقليّة، أو ما يُسمّونه بِأهل الحلّ والعقد.
إنّ تَحجُّج البعض بجهل الناس وعدم معرفتهم بمصالحهم، أو عدم تمييزهم بين الصالِح والطَّالِح من الأمور، أو أنّهم يُمثِّلون رأي هذه الجماعة أو يُعبِّرون عن أصوات أُخرى، لِلُّجوء إلى الغُرَف المُظلِمة وتدبير الأمور في اللّيل البَهيم والنَّاس نِيام، أمر غير شرعيّ البتّة.
إنّ هذا النصّ شَرْعَن لِمبدأ (الشعب مَصْدر السُّلطات) الذي يرِد عادة في جلِّ دساتير البلاد العربيّة والإسلاميّة، ولكن مِن دون العمل به.
ثانياً: لا سُلطة مطلَقة للحاكم الذي يَصِل إلى السلطة عن طريق الإنتخابات.
إنّها [السُّلطة] محدودة، فليس من حقّه أن يتصرّف بالمال العامّ والمَوْقع والمناصِب كيف يَشاء، بذريعة أنّه مُنتخَب، فالسُّلطة مقيّدة وليست مُطلقة.
ففي أوّل خطاب له بعد تولِّيه شؤون الأمّة، قال عليه السلام: «أيّها الناس! إنّما أنا رجل منكم، لي ما لكم، وعليَّ ما عليكم، وإنّي حاملكم على منهج نبيّكم، ومُنفِذ فيكم ما أُمِرتُ به، ألا إنّ كلّ قطيعة أَقطَعَها عثمان، وكلّ مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال، فإنّ الحقّ لا يُبطله شيء، ولو وجدتُ قد تزوّج به النساء، وملِك به الإماء، وفُرّق في البلدان لَرَددتُه، فإنّ في العدل سعة، ومَن ضاق عليه الحقّ فالجَوْر عليه أَضيق».
وعندما نصحه بعض (المُشفقين عليه) بأن لا يُساوي في العطاء، وأنّ عليه أن يُميِّز بين النَّاس على أساس السابقة مثلاً، أو الولاء، أو المكانة الإجتماعيّة أو غير ذلك، أو على الأقلّ أن لا يستعيد ما (غَنِمَه) بعضهم أيّام الخليفة الثالث على قاعدة ﴿عفا الله عمَّا سَلَف﴾ ردّ عليهم أمير المؤمنين بقوله: «أتأمُروني أن أطلب النَّصر بالجَوْر فيمَن وُلِّيت عليه؟ والله ما أَطور به، ما سَمَرَ سمير وما أمّ نجم في السماء نجماً، لو كان المال لي لسوّيتُ بينهم، فكيف وإنّما المال مال الله؟ ألا وإنَّ إعطاء المال في غير حقّه تبذير وإسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الاخرة».
ثالثاً: القانون فوق الجميع.
فلا أحد في النِّظام الديمقراطي مَحْميّ من القانون، بسبب قرابته من الحاكم أو صداقته لعائلته أو انتمائه لِحزبه، ولقد قال عليه السلام مُثبتاً ذلك: «وأنْ تكونوا عندي في الحقّ سواء»، و«الذليل عندي عزيز حتّى آخذ الحقّ له، والقويّ عندي ضعيف حتّى آخذَ الحقَّ منه» بغضّ النَّظر عن أيّ شيء.
ولقد شدّد أمير المؤمنين في هذا المبدأ بدرجة غريبة، فعندما اطّلع على تقارير الفساد المالي الذي ارتكبه بعض وُلاته في عدد من الأمصار، كتب إليهم يقول: «ووالله لو أنّ الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلتَ، ما كانت لهما عندي هوادة، ولا ظفرا منّي بإرادة حتّى آخذ الحقّ منهما، وأزيح الباطل من مظلمتهما»، فالقانون في سُلطة الحاكِم العادِل يَسري على الجميع، حتّى على أبنائه.
رابعاً: الحساسيّة المُفرطة ضدّ الفساد بكلّ أشكاله.
فـ (الحاكم- الإنسان) لا يُعيِّن المسؤولين لاعتباراتٍ فاسدة، كالمحسوبيّة مثلاً، أو الولاء، أو القرابة، أو ما أشبه، أبداً، وإنّما على أساس قِيَم ومبادئ حضاريّة هي حَجَر الزاوية في عمليّة البناء والتنمية، كالخبرة، والنزاهة، والأمانة وغير ذلك على قاعدة «الرجل المناسب في المكان المناسب»، ولذلك فقد أوصى الإمام عليّ عليه السلام مالكاً الأشتر في عهده إليه عندما ولّاه مصر، بقوله «ثمّ انظر في أمور عُمّالك فاستعملهم اختباراً، ولا تولِّهم مُحاباة وأَثْرَة، فإنّهما جَماع من شُعَب الجَوْر والخيانة، وتَوَخَّ منهم أهل التجربة والحياء».
خامساً: الرقابة الشعبيّة كذلك مكفولة.
بل إنَّ الحاكم يُشجِّع عليها ويحثّ الناس على ممارستها، لأنّ الحاكم وكيلُهم ومن حقِّهم أن يُراقبوه ويُحاسبوه على كلّ شاردة وواردة. فعندما بعث الإمام عليّ عليه السلام قيس بن سعد والياً على مصر في بداية عهده بالخلافة، علّمه هذا المعنى في كتابه الذي حمله معه الى أهلها، وفيه: «فقوموا أيّها الناس فبايعوا على كتاب الله عزَّ وجلَّ وسُنَّة رسوله صلّى الله عليه وآله، فإنْ نحن لم نعمل لكم بذلك، فلا بَيْعة لنا عليكم».
فالبَيْعة تَسقط إذا فشل الحاكم في تحقيق أهداف الناس، كما أنّها تسقط عن أعناق الرعيّة إذا انحرف الحاكم عن برنامجه الإنتخابي، ولا يتأتّى ذلك للنَّاس (إسقاط الحاكِم الشرعي) إلّا بالرَّقابة والمُحاسبة والحُضور الدائم في الشأن العامّ.
سادساً: الحقوق والواجبات مكفولة للمواطن على أساس المُواطنة.
الحقوق والواجبات ليست مكفولةً على أساس الدِّين أو المذهب أو القوميّة، فالفُرَص، والأمن، والشأن العامّ مكفول للجميع بلا استثناء أو تمييز. ففي أوّل خطابٍ عامٍّ له بعد البَيْعة كخليفة، خاطب الإمام عليه السلام الأُمّة بقوله «أيّها الناس»، للتعبير عن أنّ كلَّ المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات بلا تمييز على أيّ أساس جاهلي، فالمواطنة بالإنتماء للوطن فحسب وليس لأيّ شيء آخر، ولذلك عَمَّم الإمام خطاب الحقوق لكلّ الناس بقوله: «أيّها الناس، إنّ لي عليكم حقّاً، ولكم عليّ حقّ، فأمّا حقّكم عليّ فالنصيحة لكم، وتوفيرُ فَيْئكم عليكم، وتعليمُكم كَيْلا تجهلوا، وتأديبَكم كَيْمَا تعلموا، وأمّا حقّي عليكم، فالوفاء بالبَيْعة، والنَّصيحة في المَشهد والمَغيب، والإجابة حين أَدعوكم، والطاعة حين آمُركم».
سابعاً: حقّ المواطن في الحصول على المعلومة، ولا يحقّ للحاكم حجبُها عنه إلّا في حرب.
يقول الإمام عليه السلام مخاطباً النَّاس تحت سلطته: «ألا وإنّ لكم عندي ألّا أَحتجِز دونكم سرّاً إلّا في حرب..». ولقد كان عليه السلام يَستنكر على معاوية سياسة إخفاء الحقائق، والتَّعتيم على الأخبار، وحَجْب المعلومة عن الناس بقوله: «ألا وإنّ معاوية قاد لُمَّةً من الغُواة، وعَمَسَ عليهم الخبر [أي أبهمَه عليهم وجعله مُظلماً]، حتّى جعلوا نُحورَهم أغراض المنيّة». وهو يُريد أن يَقول بذلك إنّه يرفض أن يكون النّاس ضحايا التّضليل الذي سبّبه إخفاء المعلومة واحتكارها من قِبَل الحاكم وأجهزته القمعيّة، فإنّ ذلك يُنتِج مُجتمَعاً جاهلاً وأُمِّيّاً لا يعرف من الحقائق شيئاً، ولذلك يحوّله الحاكم إلى مَطيّة يَركبها لتحقيق أغراضه الخاصّة.
ثامناً: حرّية المعارضة مكفولة.
سواء في القول (حرّية التعبير)، أم الفعل، كالإعتصام أو التظاهر وغيرها من أساليب التَّعبير عن المعارضة بالطُّرُق السلميّة، فليس للحاكم أن يمنع المعارضة أو يقمعَها أبداً، ولذلك، فعندما تناهى إلى مسامع الإمام خبر خروج طَلْحة والزُّبير وأمّ المؤمنين عائشة إلى البصرة لقيادة المعارضة ضدَّه، قال: «وسَأَصبر ما لم أَخَف على جماعتِكم، وأكفُّ إن كفّوا، وأَقتصِر على ما بلغني عنهم».
كما أنّه قال لِمَن رفض القتال معه في حروبه ضدّ الناكثين والمارقين والقاسطين -وكان من بينهم سعد بن أبي وقّاص وأسامة بن زيد وابن عمر- قال: «أنا لا أُكرهكم على المَسير معي، على بَيْعتي»، أي على الرّغم من بَيْعتكم لي، وكان قد أَمر قثم بن العباس عندما ولّاه المدينة قبل مسيره إلى البصرة، وأَمره أن «يُشخِص إليه من أحبّ الشُّخوص، ولا يَحمل أحداً على ما يَكره»، إذ كان عليه السلام يَحترم الرأي الآخر مهما اختَلَف معه، وكان يَحترم تردُّد البعض وشكوكهم وقت (الفتنة)، فلم يَشأ أن يُجبر أحداً على موقف لم يَختمِر في ذهنه بعد.
وكان عليه السلام يَحثُّ الناس على إبداء الرأي في كلّ القضايا العامّة بلا خوف أو وَجَل، فكان يقول: «فلا تكفّوا عن مقالة بحقّ، أو مَشورة بِعَدل»، لأنّه كان يَكره أن يَسأل الناسَ رأيَهم في شيء، فلا يسمع جواباً، يلوذون بالصمت، ولا يُعبِّرون عن أنفسهم.
فَسَلام عليك أيّها (الإمام-الإنسان) -وسلامٌ على ما جاهدتَ مِن أجله وضحّيتَ في سبيله: الحريّة- ورحمة الله وبركاته.
* كاتب من العراق