«آل
سعود اليهود.. أعداءُ الله وأولياءُ الشيطان»
ناصر السعيد: حكاية الثائر المغدور*
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
جعفر البكلي** ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
المكان: بيروت الغربية
الزمان: 17 كانون الأول 1979
خرج رجل متوسط القامة
مسرعاً من المبنى الذي تقع فيه مكاتب جريدة «السفير». أجال ببصره في الطريق. سوّى
ياقة معطفه حول عنقه، فالطقس كان بارداً في ذلك اليوم الشتوي الغائم، ثمّ مضى في
شارع أمين منيمنة يحثّ خطاه نحو متاجر شارع «الحمراء» القريبة. كان راغباً في
اقتناء بعض الهدايا لأسرته الصغيرة التي تركها في دمشق، منذ أيام... محفظته
الجلدية المعبّأة بأوراقه تتدلى من كتفه، وعيناه الحانقتان من خلف نظارته السوداء
الكبيرة تتفرّسان في وجوه المارّة من حوله. كان سبب حنقه صحافيّ فرنسي ألحّ في طلب
موعدٍ منه في مبنى جريدة «السفير»، ولكنه لم يجئ... خواجات آخر زمن، هؤلاء الذين
يخلفون مواعيدهم ولا يعتذرون!
فجأة انتبه لخطوات مسرعة
من ورائه تتسابق إليه. التفت، فرأى رجالاً ثلاثة يقتربون منه بسرعة. حاول أن يبتعد
عنهم لكنّ أحدهم أمسكه من كتفه. خاطبهم بقلق: «وش تريدون؟!». أجابه أولهم بلكمة
عنيفة. ورشّ الثاني على وجهه رذاذاً من شيء كأنه زجاجة عطر. غامت الدنيا من حوله،
حتى أنه لم يستطع أن يقاوم أولئك الرجال الذين جرّوه إلى سيارة قريبة انطلقت به
مسرعة إلى حيث لن يعود.
كان ذلك الرجل المخطوف
هو المعارض السعودي ناصر السعيد. وكان الرجال الخاطفون من زعران جهاز الأمن
العسكري الفلسطيني الذي كان يترأسه العقيد عطا الله عطا الله «أبو الزعيم» [في
مقابلة صحافية، أجرتها معه مجلة «الأسبوع العربي» في عددها الصادر بتاريخ
11/5/1987، نفى «أبو الزعيم» علاقته باختطاف ناصر السعيد؛ بدليل أنهم في حركة
«فتح» شكلوا لجنة تحقيق للبحث عن المفقود، شارك فيها هو بنفسه، ومعه صلاح خلف «أبو
إياد»، وتوفيق سلطان (عن «الحزب التقدمي الاشتراكي») ولكنهم لم يصلوا إلى شيء...
لكنّ مسؤولين سابقين في حركة «فتح»، منهم أبو موسى عضو مجلسها الثوري وقائد غرفة
عملياتها، يؤكدون علاقة الرجل بهذه العملية القذرة.
ويعتبر أبو الزعيم من
رجال الملك حسين في منظمة التحرير. وقد ارتقى في قيادة «فتح» حتى صار مسؤول
المخابرات العسكرية فيها، لكنه أُبعِد بعد أن اتُّهم بقيادة تمرّد على عرفات في
الثمانينيات. وبعد أن مات أبو عمّار، أعاد خليفته أبو مازن الاعتبار لأبي الزعيم.
وعيّن ابنه حازم عطا الله مديراً للشرطة الفلسطينية]
ويقال إنّ الذي «غطّى»
هذه الجريمة هو أبو إياد. وأمّا المؤجِّر، فلم يكن سوى السفير السعودي في بيروت
علي الشاعر. ويُعتقدُ أنّ الأجرَ كان عشرة ملايين دولار وُضعت في جيوب منظمة ياسر
عرفات.
في الغد، وصل نعشٌ من
السفارة السعودية إلى مطار بيروت لأجل شحنه في طائرة خاصة متجهة إلى الرياض. كانت
الوثائق السعودية تزعم أنّ من يرقد في النعش هي ابنة سفير المملكة في دمشق عبد
المحسن الزيد، وأنهم يريدون نقل جثمانها إلى بلدها. صعد النعش إلى الطائرة راجعاً
بمن رقد في جوفه إلى وطنه الذي لم يقدّر له أن يراه، منذ 23 عاماً. أثناء الرحلة،
قيل بأن النعش قد قُذِفَ من الطائرة في سواحل لبنان. [الرواية
التي تزعم أن ناصر السعيد أُلقي به من الطائرة في سواحل لبنان، أوردها مارك يونغ
في كتابه «الحارس الشخصي». وهو مرافق خاصّ لعدد من أمراء العائلة المالكة السعودية،
ويقول إنه سمع الرواية بنفسه من بعضهم]
لكنّ العديد من
المعارضين السعوديين يتداولون رواية أخرى تزعم أن ناصر السعيد وصل فعلاً إلى
المملكة السعودية، وهنالك عُذّب، ثمّ وُضع في هيلوكوبتر، ورُمِيَ منها حياً في
الصحراء.
المكان: مدرسة مدينة حائل - السعودية
الزمان: مساء 11 كانون الأول 1953
شقّ شابّ حادّ النظرات،
بسيط الثياب، صفوف المقاعد المتراصّة التي جلس عليها أعيان قبيلته، وحاول أن يصل
إلى المنصة التي كان يقعد فوقها ملك البلاد جالساً على أريكة ضخمة. وكانت المناسبة
حفلاً أقامه وجهاء مدينة حائل في مدرستها، تكريماً لملك السعودية الجديد سعود بن
عبد العزيز. وكان العاهل قد قدم إلى الإمارة الشمالية في مملكته لتلقّي البيعة من
زعماء قبيلة شُمَّر التي تقطن تلك البقاع.
لم يكن الشابّ سوى ناصر
السعيد البالغ من العمر وقتها ثلاثين عاماً. ولقد أخذ يصرخ حين منعه الحراس من الاقتراب
علّه يلفت انتباه الملك إليه. وحين التفت إليه سعود، هتف الشاب قائلاً: «عندي كلمة
يا طويل العمر، أبي ألقيها... حنّا نعرف أنك ما جيت هني للسياحة وشمّ الهواء، لكن
لأخذ البيعة. وفي هالكلمة أشياء مهمة عن البيعة يلزمك تسمعها». ولم يعد بالإمكان،
وقد انتبه الناس، سوى أن يقول الملك: «تفضل... قول».
أخرج ناصر من سترته
أوراقاً حضّرهاً، وجلجل صوته في الحاكم والمحكومين قائلاً: «باسم الله، وباسم
الحق... باسم العمّال المعذّبين، والفلاحين الذين أصبحوا فريسةً للمرابين... باسم
الجنود الظافرين، باسم البدو المشرّدين... باسم الشعب الذي حُرم من نور العلم
طويلاً يا طويل العمر... يا سعود بن عبد العزيز... دعني أناديك باسمك المجرّد من
الجلال والجلالة، فزُخرف القول غرور... والذي لا يجلّه شعبه لا تجلّه الألقاب
الزائفة، بل ولا يجلّه الله أبداً. إنّ رضى الشعب هو رضى الله! ولن يرضى الله
سبحانه لمَن لا يرضى عنه شعبه. لذا، أقول لك، يا سعود... هل تجشّمت مصاعب الطرقات
الخربة الوعرة وجئتَ لعندنا بقصد الدعاية لنفسك؟
ليس في مئات المدن
والقرى والصحاري التي مررت بها إلا الفقراء الذين رأيتَهم يمدّون إليك أيديهم
ضارعين من الفقر والجوع والمرض والجهل... لا يوجد علاج ولا معالج، ولا ماء نظيف،
ولا دواء، ولا عمل، ولا مساكن تليق بالإنسان...».
بدا الاضطراب على وجوه
القوم، والغيظ على وجه الملك سعود من هذه الوقاحة. وأشار إلى مساعده الخاص العقيد
محمد الذيب (رئيس حرس الملك) لكي يُسكت هذا المعتوه، ويفتك منه الورقة التي بيده.
وحينما أراد ناصر السعيد أن يحتجّ على هذا القمع الذي سُلِّط عليه، بلغ الحنَق
بملك السعودية مبلغه، وراح يصرخ: «كفى... أنتم مجرمون، إنما جزاء الذين يحاربون
الله ورسوله ويسعون... ويسعون... ويسعون...» وعلق لسان الملك في كلمة «ويسعون»،
فلم يعرف كيف ينطق بقية الآية. ثمّ قام الملك من مجلسه غاضباً. وأراد واليه على
حائل عبد العزيز بن مساعد بن جلوي أن يعتذر له، فقال له سعود: «الاحتفال زين، بس
هذا اللي اسمه ابن السعيد خرّبه».
[يمكن مراجعة نص الخطاب الطويل الذي ألقاه
ناصر السعيد أمام الملك سعود، في الصفحات 75 - 79 من كتاب «تاريخ آل سعود»]
كانت تلك الواقعة، التي
سرد ناصر السعيد بنفسه تفاصيلها في كتابه «تاريخ آل سعود»، هي أول مواجهة، وجهاً
لوجه، بين المناضل الثائر، وأحد ملوك آل سعود. ولم تكن تلك الشجاعة التي أبداها
ناصر أمام الملك عجيبة، فلقد تربّى منذ صغره في أسرة مظلومة استُشهد رجالها دفاعاً
عن أرضهم، فقاوم مَن بقي من أفراد تلك العائلة الغزاةَ الظالمين. ونشأ الفتى في كنَف
جدّته «حسناء» كارهاً لمظاهر التعسّف كافة، ولكلّ أشكال الطغيان. ثمّ إنّ وعي
الشاب ما لبث أن تفتّح على فداحة الاستغلال الرأسمالي لموارد وطنه، وعلى شناعة
العنصرية التي يمارسها الأجانب الأميركيون على العمال من أهل البلد، وعلى حجم
تواطؤ الملوك الفاسدين مع المستعمِرين الناهبين؛ ولقد حدث كلّ ذلك أمام عينيه
حينما شاء له قدره أن يعمل في معسكرات شركة «أرامكو» الأميركية النفطية في
الظهران، منذ 1947.
ولقد انخرط ناصر السعيد
بحماسة في نضال العمال من أجل تحسين أوضاعهم المعيشية. وساهم في تنظيم صفوفهم،
وتوعيتهم، وتحريضهم على المطالبة بحقوقهم. فكان من أبرز قادة الإضرابات التي قام
بها عمال «أرامكو» في نهاية الأربعينيات. وكان من الطبيعي أن يشمله الاعتقال من
طرف السلطات السعودية نتيجة المطالبة بحقوق الكادحين. ولعلّ أسوأ تجربة للاعتقال
يمكن أن يعيشها بشر، كانت حين أُلقي بقادة العمال المضربين (وبينهم ناصر) في «سجن
العبيد»، في الأحساء. وكان ذلك سجناً مخصّصاً لتأديب «المخلوقات الدنيا» في سلّم
المجتمع السعودي الطبقي.
على أنّ نضال ناصر لم
يقتصر على الجانب الاجتماعي والاقتصادي، بل إنه شمل مبكراً الجانب السياسي أيضاً.
فبعد قرار «الأمم المتحدة» بتقسيم فلسطين، قاد ناصر مع رفاقه في ضحى يوم 17 أيلول
1947 تظاهرة في مدينة «رحيمة» لرفض التقسيم، والمطالبة بقطع النفط عن أميركا
وبريطانيا. وسمّوا تظاهرتهم هذه «يوم فلسطين». ويسرد ناصر السعيد في كتابه «حقائق
عن القهر السعودي» كيف جاء تركي بن عطيشان أمير رأس تنورة إلى العمال المحتجين
ليقنعهم بأن النفط هو بيد الأميركيين، ولا أحد يستطيع قطعه عنهم. وحاججه العمال
بأنهم إذا أضربوا عن العمل انقطع بالفعل إنتاج النفط. هنالك انتقل الأمير إلى «حجة
فقهية» فقال لهم متذاكياً: «تدرون أن النفط هو مثل الذهب، واسمه الذهب الأسود. وربنا
يقول في القرآن أن اكتناز الذهب حرام. فإذا خلّينا النفط في الأرض، وما خرّجناه،
فهذا هو الاكتناز المنهيّ عنه شرعاً. فيا جماعة الخير اتقوا الله!».
المكان: استديو إذاعة «صوت العرب» – القاهرة
الزمان: كانون الأول 1962
«هنا إذاعة «صوت العرب» من القاهرة... تستمعون
الآن إلى برنامج «أعداء الله» الذي يعدّه ويقدّمه الأستاذ ناصر السعيد...».
ويتدفّق صوت ناصر من
الإذاعة حاملاً على مَن يسمّيهم «آل سعود اليهود أعداء الله، وأولياء الشيطان»،
فلا يُبقي لهم ولا يذر. وحسب ما يقول ناصر السعيد فإنّ العائلة المالكة في
السعودية ذات أصول يهودية، وأنهم جميعاً ينتسبون إلى جدّهم تاجر الحبوب في البصرة
مردخاي بن إبراهام بن موشي الذي بدّل اسمه إلى مرخان بن إبراهيم بن موسى. وذلك حين
استقرّ به المقام في الدرعية، وأراد أن يجعلها إمارة خالصة له ولأبنائه. وأن هنالك
قرائن كثيرة وشهوداً يؤكدون هذا الأصل السعودي.
كان الزمان وقتها هو
ذروة النزاع السعودي - المصري في اليمن أواخر عام 1962. ولم يكتفِ ناصر ببرنامجيه
الإذاعيّين «أعداء الله» و«أولياء الشيطان»، وبكتابة المقالات في صحف ومطبوعات مثل
«صوت الطليعة»؛ فهو قد انتقل خطوة أخرى في حربه على آل سعود حينما افتتح مكتباً
للمعارضة السعودية في اليمن، وأسّس تنظيماً سمّاه «اتحاد شعب الجزيرة العربية»،
جمع أطيافاً من ذوي الإيديولوجيات المتباينة. ودعا صحبة رفيق دربه الطيار المنشق
عبد الكريم أحمد مقبل القحطاني إلى الكفاح المسلّح من الحدود اليمنية.
ولكنّ هذه المرحلة من
نضال ناصر السعيد المفتوح ضدّ آل سعود، سرعان ما ضاقت إمكانياتها بعد هزيمة 1967.
وكانت قد ابتدأت منذ عام 1956 تاريخ لجوء ناصر إلى مصر هارباً بنفسه من بطش الملك
سعود الذي ما عاد يحتمل طول لسان هذا الحائلي، وقد تجاوز الشبرين المقبول بهما.
لقد حدّدت هزيمة حزيران علامة فارقة في صراع الأنظمة العربية بعضها مع بعض. فبعد
مؤتمر الخرطوم يوم 29 آب 1967 جرت مصالحة بين الرئيس عبد الناصر والملك فيصل آل
سعود. وكان من نتائجها إنهاء الاشتباك العسكري بين البلدين في اليمن، وإلغاء
الحملات الإعلامية المتبادلة بين النظامين، ووقف أنشطة المعارضين السياسيين ضد
الحكومتين.
وهكذا صار لزاماً على
ناصر السعيد وأقرانه أن يجدوا لهم ملجأً آخر يُكملون منه نضالهم، غير القاهرة.
وكانت الخيارات ضيقة، ولكن ناصر وجد في دمشق أخيراً مأمنه. فاستقرّ به المقام في
منطقة «السبع بحرات»، في بيت على مقربة من شارع بغداد. ولم يتوقف «أبو جهاد» طيلة
سنيّ منفاه المديدة عن محاربة ما يراه من «المنكر السعودي» بيده وبلسانه.
ولمّا أعلن الملك خالد
العفو العام عن السجناء السياسيين في الخارج، أبى «أبو جهاد» على نفسه مذلّة
العودة للتمسّح على أبواب السلطان الذي أفنى عمره في مقاومته. وحين اندلعت أحداث
الحرم المكّي في تشرين الثاني 1979، فإنّ ناصر السعيد بلغ به حماسه لها حدّاً جعله
يتبنّاها. وكانت تلك الواقعة التي قادها جهيمان العتيبي في الحرم المكّي مسألة
خطيرة وحسّاسة جعلت نظام آل سعود يفقد صوابه تماماً. وصار لزاماً على كلّ من أيّد
جهيمان أن يدفع الثمن غالياً. وبالفعل بدأت المخابرات السعودية في نصب شراكها
لناصر. ولم يكن اقتناص الرجل في دمشق عملية مأمونة، لكنّ الحال في بيروت المضطربة
أيامها قد يكون أيسر. وهكذا جرت اتصالات - على غير العادة - من صحف لبنانية
وأوروبية بناصر لأجل إجراء مقابلات معه في لبنان. وذهب أبو جهاد إلى بيروت، وفي ظنّه
أنه يرفع فيها صوت شعبه، ويُسمع نضاله للعالم. ولم يكن يعلم أنّ مكيدة دنيئة قد نُصبت
هناك لإنهاء حياة رجلٍ شجاع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نقلاً عن صحيفة الأخبار اللبنانية/ 19 أيار
2015
** باحث عراقي