... إنّما كنتَ حاجتي من الدنيا
مجلسٌ في وفاة خاتَم الأنبياء صلّى الله عليه وآله وسلّم
ـــــــــــــــــــــ
الفتّال النيسابوري رحمه الله ـــــــــــــــــــــ
*
قال أمير المؤمنين عليه السلام: «.. فنَزلَ بي مِن وفاةِ رسولِ الله صلّى الله
عليه وآله وسلّم، ما لم أكُن أظنّ الجبالَ لو حَملتْهُ عنوةً كانت تَنهضُ به، فَرأيتُ
النّاسَ مِن أهلِ بيتي ما بَينَ جازِعٍ لا يملكُ جَزعَه، ولا يَضبطُ نفسَه، ولا يَقوى
على حملِ فادحِ ما نَزلَ بِه، قد أذهبَ الجزَعُ صبرَه، وأذهَلَ عقلَه... وحملتُ
نفسي على الصّبرِ عندَ وفاتِه بلزومِ الصّمت، والاشتغالِ بما أمرَني به من تجهيزِه، وتَغسيلِه...
والصّلاةِ عليه... وجَمْعِ كتابِ اللهِ وعهدِه إلى خَلْقِه...».
رواية اللحظات الأخيرة من حياة
النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله نوردها نقلاً عن كتاب (روضة الواعظين) للمحدّث
الفتّال النيسابوري، الشهيد سنة 508 هجرية.
«شعائر»
مجلسٌ في
ذكر وفاة سيّدنا ومولانا صلّى الله عليه وآله وسلّم:
اِعلم
أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله قُبض بالمدينة مسموماً يوم الاثنين، لليلتَين
بقيتا من صفر سنة (إحدى عشرة) من هجرته، وهو ابن ثلاث وستين سنة. وقيل: كانت وفاته
في شهر ربيع الأول، وهذا شاذّ، والأول هو المعتمَد عليه.
فلمّا
قُبض صلّى الله عليه وآله اختلف أهلُ بيته ومَن حضرهم من الصحابة في الموضع الذي يُدفن
فيه. فقال بعضهم: يُدفن بالبقيع. وقال آخرون: في صحن المسجد.
فقال
أمير المؤمنين عليه السلام: «إنّ الله عزّ وجلّ لم يقبض نبيَّه صلّى الله عليه
وآله وسلّم، إلّا في أطهرِ البقاع، فينبغي أن يُدفن في البُقعة التي قُبِض فيها».
فاتّفقت الجماعة على قوله عليه السلام، ودُفن صلّى الله عليه وآله في حجرته.
*
ورُوي «أنّ رجلين من قريش دخلا على عليّ بن الحسين عليهما السلام، فقال: ألا أُحدِّثكما
عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟
فقالا:
بلى، حدِّثنا عن أبي القاسم صلّى الله عليه وآله وسلّم.
قال:
سمعتُ أبي يقول: لمّا كان قبلَ وفاة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، بثلاثة
أيام، هبطَ جَبرئيل عليه السلام، فقال: يا أحمد، إنّ الله عزّ وجلّ أرسلَني إليكَ
إكراماً وتفضيلاً لك وخاصّة... يا أحمد، هذا ملكُ الموتِ يستأذنُ عليك، لم يَستأذِنْ
على أحدٍ قبلك، ولا يستأذنُ على أحدٍ بعدَك.
قال:
ائذنْ له.
فأذِن
له جبرئيل عليه السلام، فأقبل حتّى وقفَ بين يديه، فقال: يا أحمد، إنّ الله تعالى
أرسلني إليك وأَمَرَني أنْ أُطيعَكَ فيما تأمرني؛ إنْ أمرتني بقبضِ نفسك قبضتُها وإنْ
كرهْتَ تركتُها.
فقال
النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: أتفعلُ ذلك يا ملكَ الموت؟
قال:
نعم، بذلك أُمرت، أن أطيعَكَ في ما تأمرُني.
فقال
له جبرئيل: يا أحمد، إنّ الله عزَّ وجلَّ قد اشتاق إلى لقائك.
فقال
رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: امضِ لِمَا أُمِرْتَ به.
فقال
جبرئيل: هذا آخر وطئيَ الأرض، إنّما كنتَ حاجتي من الدنيا.
فلمّا
توفّي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعلا روحُه الطيبة، وجاءت التعزية، إذ
جاءهم آتٍ يسمعون حسّه ولا يرون شخصه. فقال: السلام عليكم ورحمة الله، ﴿كُلُّ
نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ..﴾،
إنّ في الله عزاءً من كلِّ مصيبةٍ، وخَلَفاً من كلّ هالكٍ، ودَركاً من كلّ ما
فات. فباللهِ ثقوا وإيّاه فارجوا، فإنّ المُصابَ مَن حُرِمَ الثّواب، والسّلام عليكم
ورحمة الله وبركاته. (آل عمران:185)
قال
أمير المؤمنين عليه السلام: هل تدرونَ من هذا؟ هذا الخضرُ عليه السلام».
*
قال ابن عباس: «لمّا مرض رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وعنده أصحابه. قام إليه
عمّار بن ياسر، فقال له: فداك أبي وأمّي يا رسول الله، مَن يُغسّلك منّا إذا كان
ذلك منك؟
قال:
(ذاك عليّ بن أبي طالب؛ إنّه لا يهمّ بِعضوٍ من أعضائي إلّا أعانَتْه الملائكةُ
على ذلك).
قال
له: فداك أبي وأمّي يا رسول الله. فمَن يصلّي عليك منّا إذا كان ذلك منك؟
قال:
(مَهْ رَحِمَك الله)، ثمّ قال لعليٍّ عليه السلام: (يا ابنَ أبي طالب،
إذا رأيتَ روحي قد فارقتْ جسدي فاغسِلني وأَنْقِ غُسلي، وكفّنّي في طمريَّ هذَين...
واحملوني حتّى تضعوني على شفير قبري. فأوّلُ مَن يصلّي عليّ الجبّار جلّ جلاله، من
فوق عرشه. ثمّ جبرئيل وميكائيل وإسرافيل في جنودٍ من الملائكة لا يُحصي عددَهم إلّا
اللهُ جلّ وعزّ، ثمّ الحافّون بالعرش، ثم سكّان أهلُ السماء سماء، ثمّ جلّ أهل بيتي
ونسائي الأقربون فالأقربون؛ يُومون إيماءً، ويسلّمون تسليماً، ولا تؤذوني بصوت نائحةٍ
ولا بِرَنّة).
ثمّ
قال: (يا بلال، هَلُمَّ عليّ بالناس)، فاجتمع الناس، فخرج رسولُ الله صلّى
الله عليه وآله معتصّباً بعمامته متوكّئاً على قوسه، حتّى صعد المنبر فحمد الله
وأثنى عليه، ثمّ قال: (معاشرَ أصحابي، أيّ نبيٍّ كنتُ لكم، أَلَم أُجاهد بين
أظهُركم، أَلَم تُكسَر رباعيّتي، أَلَم يُعفَّر جبيني، أَلَم تَسِلِ الدماءُ على
حرّ وجهي حتّى خضبتْ لحيتي؟ ألم أكابد الشدّة والجَهد مع جهّال قومي؟ ألم أربط حجرَ
المجاعة على بطني؟).
قالوا:
بلى يا رسول الله لقد ابتُليت، وكنت لله صابراً، وعن منكر بلاء الله ناهياً، فجزاك
الله عنّا أفضل الجزاء.
قال:
(وأنتم فجزاكم اللهُ خيرَ الجزاء... إنَّ ربّي عزّ وجلّ حكمَ وأقسمَ ألّا يجوزه
ظلمُ ظالمٍ)... [ثمّ] دخل بيت أمّ سلمة، وهو يقول: (ربِّ سلِّم أمّةَ محمّدٍ
من النّارِ، ويَسِّر عليهم الحساب...)، [ثمّ] قال [لأمّ سلَمة]: (نُعِيَت
إليَّ نفسي هذه الساعة، سلامٌ لكِ منّي في الدنيا، فلا تسمعينَ بعد هذا صوتَ محمّدٍ
أبداً).
فقالت
أمّ سلمة: واحُزناه حُزناً لا تُدركه الندامةُ عليكَ يا (رسولَ الله).... [ثمّ] خرج
رسولُ الله صلّى الله عليه وآله، وصلّى بالناس وخفّف الصلاة، ثمّ قال: (ادعوا
لي عليَّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد). فوضع عليه السلام إحدى يديه على عاتق
عليٍّ عليه السلام والأخرى على أسامة، ثمّ قال: (انطَلِقا بي إلى فاطمة).
فجاءا به حتى وضعا رأسه في حِجرها، فإذا الحسنُ والحسين عليهما السلام يبكيان
ويضطربان وهما يقولان: (أنفسُنا لنفسك الفِداء، ووجوهُنا لوجهك الوِقاء)،
فعانقهما وقبّلهما، وكان الحسن عليه السلام يبكي أشدّ البكاء، فقال له: كفَّ يا
حسن فقد شَقَقْتَ على رسولِ الله...».
*
وعن عبد الله بن عباس أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال في ذلك المرض:
(ادعوا لي حبيبي)، فجعل يُدعى له رجلٌ بعد رجلٍ فيُعرِض عنه،. فقيل لفاطمة
عليها السلام: إمضي إلى عليٍّ، ما نرى رسول الله صلّى الله عليه وآله، يريد غير
عليّ.
فبعثتْ
فاطمة إلى عليٍّ عليهما السلام، فلمّا دخل فتح رسول الله صلّى الله عليه وآله عينيه
وتهلّل وجهُه، ثمّ قال: (إليَّ يا عليّ)، فما زال رسول الله يُدنيه حتّى أخذ
بيده وأجلسه عند رأسه، ثمّ أُغمي عليه صلوات الله عليه وآله، فجاء الحسن والحسين
عليهما السلام يصيحان ويضجّان ويبكيان حتّى وقعا على رسول الله، فأراد عليٌّ أن
ينحّيهما عنه، فأفاق رسول الله صلّى الله عليه وآله، ثمّ قال: (يا عليّ دعني
أشمُّهما ويشمّاني، وأتزوّد منهما ويتزوّدان منّي، أما إنّهما سيُظلمان بعدي ويُقتلان
ظلماً، فلعنةُ الله على مَن يظلمُهما)، يقول ذلك ثلاثاً.
ثمّ
مدّ يده إلى عليٍّ عليه السلام، فجذبه إليه حتّى أدخله تحت ثوبه الذي كان عليه... وجعل
يناجيه مناجاةً طويلة حتى خَرجَت روحُه الطيّبة، صلّى الله عليه وآله، فانسَلَّ
عليٌّ عليه السلام من تحت ثيابه، وقال: (عظَّم الله أجورَكُم في نبيِّكم، فقد
قبَضَه اللهُ).
فارتفعت
الأصوات بالضجّة والبكاء، فقيل لأمير المؤمنين عليه السلام: ما الذي ناجاك به رسول
الله صلّى الله عليه وآله، حين أَدخلَك تحت ثيابه؟
فقال:
(علّمَني ألفَ بابٍ، كلُّ بابٍ يفتح لي ألف بابٍ)»..
وكان
سنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله يومئذ ثلاثاً وستيّن سنة، ومدّة نبوّته ورسالته
ثلاثة وعشرون سنة، ثلاث عشرة سنة بمكّة، وعشرة بالمدينة.