«يا أبا عبد الله.. أسوةٌ أنتَ قِدْمَاً»
العلامة الشيخ محمّد
السند: زيارة الأربعين تجسيدٌ للمجتمع الفاضل
____ إعداد: هيئة التحرير ____
«زيارة الأربعين عبارة عن مناسبة إلهيّة تربوية، يدخل
فيها البشر إلى عالم النور، حيث يتدرّبون على التضحية في سبيل القيَم والمبادئ، وعلى
رفعة معدن الذات والطينة الإنسانية..».
هذا الحوار مقتبس من كتاب (أسرار زيارة الأربعين) للعلامة
الشيخ محمد سند، ويتناول فيه مفهوم زيارة أربعين سيد الشهداء عليه السلام وتأثيراتها
الاجتماعية والفردية؛ لا سيما تهذيب النفس وجذْبها إلى معادن النور ومحالّ توحيد
الله تعالى.
س: نودّ من سماحتكم بدايةً أن توضحوا لنا
مفهوم الولاية والطاعة في ضوء ما تتضمّنه الشعائر الحسينية وما يدور حولها من
مفاهيم؟
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ..﴾ النساء:59، أي أطيعوا الله في كلّ الدِّين، وكذلك فإنّ إطاعة الرسول صلّى الله عليه
وآله في كلّ الدِّين أعمّ من القضاء والتشريع والسلطة التنفيذية، بل في كلّ
الدِّين بما له من سعةٍ تعمّ الدنيا والآخرة.
وبما أنّ طاعة أُولي الأمر مقرونة بطاعة رسول الله صلّى
الله عليه وآله، كذلك طاعة أولي الأمر هي طاعةٌ للدّين. من هنا، لا يمكن للإنسان
أن ينقاد إلى مثل هذه الطاعة الشديدة والمهمّة إلّا إذا عرف المزيد من فضائلهم،
ولا ينجذب إليهم إلّا بالمزيد من معرفة مِحَنهم ومصائبهم، فكثرة ذكر سيّد الشهداء
عليه السلام، ومصائبه ومِحَنه وفضائله ومقاماته توجب جذب الإنسان إليه، وبالتالي
سيُطيع الله تعالى، ورسوله صلّى الله عليه وآله، وأمير المؤمنين عليه السلام، والأئمّة
من ذرّيّته عليهم السلام، وذلك هو الانقياد لتمام الدِّين.
وبقدر ما تنقص معرفة الإنسان بالحسين عليه السلام، وبأهل
بيته عليهم السلام، بقدر ما ينقص انقياده تجاههم عليهم السلام.
زيارة الأربعين
س: كيف ترون إلى مضامين زيارة الأربعين وما
يعبّر عنه كلّ عام من حشود مليونية تتوجه شطر الحضرة الحسينية في كربلاء المقدّسة؟
إنّ معسكر الأربعين هو عبارة عن تجسيد المجتمع والمدينة
الفاضلة أمام مرأى البشر، ويتجدّد هذا التجسيد في كلّ عامٍ، وأحد معاني المدينة
الفاضلة أنّها لا تحتاج إلى رئيسٍ وموجِّه؛ فكأنّما البشر بلغوا مرحلة النّضج العقلي
والروحي والإداري والعلمي، فنسيجهم الطبيعي هو الذي يدبّر نفسه بنفسه، وهذا في
حقيقته يمثّل غلبة العقل والنور على الغرائز، لأنّ الغرائز الهابطة الأرضية مَنشؤها
الحرص والطمع، فإذا طغى العقل والنور فتلك هي الجنة، ولهذا نرى أنّ أكثر الأنظمة
الحاقدة على أهل البيت عليهم السلام، يتخوّفون من هذه الظاهرة الحسينية، وهو ما أشارت
إليه التقارير الدولية المراقبة لهذا الحدث خفيةً وعلناً.
س: ما هو سرّ هذا الانجذاب إلى سيّد
الشهداء عليه السلام؟
الإمام الحسين عليه السلام، الذي استُشهد قبل أربعة عشر
قرناً، لا يزال مسيطراً على النظم البشرية أقوى من سيطرة أيّ نظام في العالم، وهذا
ما نشاهده في زيارة الأربعين؛ حيث يخرج زمام الأمر من يد الدولة، وهذا ما قاله أحد
الحكّام السابقين في العراق: «زوّار الحسين عليه السلام هم الذين يحكمون العراق
خلال زيارة الأربعين».
ولو أُطلق الفضاء للشعوب الأخرى، حتى الغربية منها، لرأيناهم
ينجذبون وينقادون للحسين عليه السلام، وما تمليه مبادئ الحسين عليه السلام وقيَمه،
والجوّ التربوي لسيّد الشهداء، لأنّه يوجّه القلوب للصفاء. وليست البشرية وحدها
تنقاد له عليه السلام، بل حتى الملائكة، فعن أبي عبد الله الإمام الصادق عليه
السلام: «ليسَ ملَكٌ في السّماواتِ إلّا وهُم يسألونَ اللهَ أنْ يأذَنَ لهُم في
زِيارةِ قَبرِ الحُسَينِ عليه السّلام، ففَوْجٌ يَنزل وفَوْجٌ يَعرُج».
س: قد يثير البعض تساؤلات حول مشروعية هذه
الشعيرة المباركة، فهل ورد الحثّ في الروايات على المشي للزيارة؟
هناك قاعدة فقهية؛ وهي أنّ المشي إلى العبادة عبادة، وهناك
نصوص خاصة تدلّ على أنّ السَّير إلى سيّد الشهداء كالسير إلى زيارة أمير المؤمنين
وبقية الأئمّة عليهم السلام، وله في كلّ خطوة حجّة وعمرة؛ وأذكر نصّاً عن بشير
الدهّان عن الإمام الصادق عليه السلام، قال له: «يا بشير، إنّ الرّجلَ منكُم لَيغتسلُ
على شاطئِ الفُراتِ ثمّ يأتي قبرَ الحسين عليه السلام، عارفاً بِحقِّه، فيُعطيه الله
بكلّ قدمٍ يرفعها أو يضعها مائة حجّة مقبولة، ومائة عمرة مبرورة، ومائة غزوة مع نبيٍّ
مرسل إلى أعداء الله وأعداء رسوله».
وأيضاً عنه عليه السلام: «ما عُبد الله بشيءٍ أشدّ من
المشي ولا أفضل».
إمام الأنبياء والرّسُل
س: ما معنى قول أمير المؤمنين عليه السلام
مخاطباً الإمام الحسين عليه السلام: «يا أبا عبد الله، أُسوةٌ أنت قِدْمَاً»؟
يعني أنت منذ القِدم أسوة وقدوة حتّى للأنبياء والرّسُل،
وهذه منقبة ومعجزة لسيّد الشهداء عليه السلام، كما أنّه برهانٌ ودليلٌ عصريّ نعيشه
اليوم، فباب الحسين عليه السلام وسفينته أكبر وأوسع. وعلى الرغم ممّا نشاهده اليوم
في المجتمعات البشرية من ظلمٍ وأزمات، نرى هناك بيعةً وانقياداً بشريّاً طوعيّاً
سلميّاً سلساً وسنوياً نحو سيّد الشهداء عليه السلام، وقد تأثّر بهذه المدرسة
القريب والبعيد، والعالِم وغير العالِم؛ هذه الدولة التي تشكّل رقعتها النفوس
والبشر وليس الجغرافيا، وهي قائمة ومبنيّة على يد سيّد الشهداء عليه السلام، فكم
هي قدرة قيادة الإمام الحسين عليه السلام للمجتمعات؟
وقول أمير المؤمنين عليه السلام: «يا أبا عبد الله
أُسوةٌ أنت قدماً»، يعني أنّ تأثير الحسين عليه السلام ليس فيما بعد واقعة
عاشوراء، بل قبل؛ حيث إنّ الله عزّ وجلّ كان يوحي ويقصّ على الأنبياء ما يجري على
سيّد الشهداء عليه السلام في واقعة عاشوراء، كي يعظهم ويربّيهم على الصبر، فكان
يأخذهم البكاء، وهو من آليات التربية ليرتقي بهم إلى معالي الكمال. وبذلك أصبح
سيّد الشهداء عليه السلام، وبتقديرٍ من الله عزّ وجلّ، إماماً للأنبياء والرسل.
س: ما هي الصّلة بين البكاء على مصيبة
سيّد الشهداء عليه السلام، وبين تهذيب النفس والسير إلى الله تعالى؟
إنّ البكاء على سيّد الشهداء عليه السلام بحدّ ذاته
برنامج تربوي وروحي؛ فكما بكى الأنبياء من خشية الله، كذلك بكوا على الحسين عليه
السلام، وهو بمنزلة المكمّل للبكاء خشيةً؛ إذ إنّ البكاء يوجب رقّة الروح وتواضع
الإنسان من جهة، وكبح هيجان الغرائز من جهةٍ أخرى.
أمّا بالنسبة لبكاء الأئمّة عليهم السلام، تطالعنا
روايات مستفيضة أنّ سيّد العابدين عليه السلام قضى أربعين سنة من عمره في البكاء
على أبيه الحسين عليه السلام، حتّى عُدَّ من البكّائين الخمسة.
بل أكثر من ذلك، هناك روايات ومن مصادر الفريقين أحصاها الشيخ
الأميني في كتابه (سيرتنا وسنّتنا)، وكذلك السيد عبد الحسين شرف الدين في (المجالس
الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة)، أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله أقام خمسة عشر
مجلس عزاءٍ على الحسين عليه السلام، يوم ولادته وقبلها، ويوم السابع من مولده
وبعده، في بيت فاطمة عليها السلام وفي حُجرته وعلى منبره، وفي بعض أسفاره، تارةً
يبكيه وحده، ومرّةً مع الملائكة، وأحياناً مع عليٍّ وفاطمة عليهما السلام. وإلى
الآن يقيم النبيّ صلّى الله عليه وآله وعليٌّ وفاطمة وذرّيتهما عليهم السلام،
المآتم لسيّد الشهداء، بل يزورونه هم وجميع الأنبياء؛ فإنّ أرواح النبيّين تستأذن
الله في زيارته فيأذن لهم، كما ورد في الروايات.
سرّ التركيز على الزيارة المقدّسة
س: هناك مَن يتساءل؛ لماذا هذه التعبئة النفسية
لمصاب الإمام الحسين عليه السلام، والحثّ على زيارته على الدوام؟
قال الإمام الصادق عليه السلام حين سُئل عن أفضل أوقات
الزيارة: «زُوروه صلّى الله عليه في كلّ وقتٍ وفي كلّ حينٍ، فإنّ زيارتَه عليه السّلام
خيرُ موضوعٍ، فمَن أكثرَ منها فقد استَكثَر من الخيرِ، ومَن قَلّلَ قُلِّلَ له..».
وللإجابة عن هذا التساؤل أقول: إنّ مشروع أهل البيت
عليهم السلام مشروعٌ إلهيّ، يُهيمن على أرجاء الأرض كافّة، ويستمرّ إلى يوم
القيامة، فلا بدّ لهذا المشروع من وقود وطاقةٍ ضخمة، وهذه الطاقة هي نهضة الإمام
الحسين عليه السلام.
قدّر الله أن يكون الحسين عليه السلام مصدراً وملجأً
ومركزاً ليس لإصلاح المؤمنين فحسب، بل لعموم البشر، ومن ثمّ قدّر أن يبقى علَمُه
يرفرف على مدى الأيام، على كلّ المظلومين والمستضعفين، كما صرّحت السيدة زينب
عليها السلام، وهي تخاطب سيّد الساجدين عليه السلام: «..ويَنصبونَ بهذا الطفّ علَماً
لِقبرِ أبيكَ سيّدِ الشّهداء، لا يَدرُسُ أثَرُه، ولا يُمحَى رَسْمُه على كُرورِ اللّيالي
والأيّام، وليَجهدَنّ أئمّةُ الكُفرِ وأَشياعُ الضّلالِ في مَحوِهِ وطَمْسِهِ فلا يزداد
أثره إلاّ علواً..».
إذا أرادت البشرية أن تتكامل وتسعد، فلا بدّ لها من أن
تقرأ وتتعلّم في مدرسة سيّد الشهداء عليه السلام، حتّى تصل إلى الإمام الحسن، ثمّ
إلى الصدّيقة الكبرى، ثمّ إلى أمير المؤمنين، ثمّ إلى رسول الله صلّى الله عليه
وآله، والذين هم المؤسّسون لمشروع الإمام المهديّ عجّل الله تعالى فرجه الشريف.