زُرارة بن أعْيَن الشَّيباني الكوفي
أفقهُ أصحاب الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشيخ صفاء الدين الخزرجي ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أحد المؤسّسين لفقه أهل البيت عليهم السّلام،
ورواياته تحتلّ الصدارة عند العلماء، يرجعون إليها في استنباطهم للحكم الشرعي في
جميع أبواب الفقه.
* من مشاهير رجال الشيعة،
اجتمعت فيه خِلالُ الفضل والدين، كانت تعلو شمائلَه هيبةُ
الفقاهة، ويرتسم في محيّاه وقار العلم.
* صاحَب الإمامَ الصادق عليه السلام ما يزيد
على أربعين سنة، ونال من مديحه أجمل الأوصاف.
* هذه الترجمة مختصر
دراسة أعدّها سماحة الشيخ الخزرجي، ونُشرت في الموقع الإلكتروني لـمنتدى «مركز الدراسات التخصصية في
الإمام المهديّ عليه السلام».
«شعائر»
|
هو عبد ربّه بن أَعْين بن سُنسن، و«زُرارة»
لقبه. وقد ورد في حديثٍ عن الامام الصادق عليه السلام يرويه هو: «يا زُرارة، إنّ اسمك في أسامي أهل الجنّة بغير ألف. قلتُ: نعم، جُعلت فداك! اسمي:
عبد ربّه، ولكنّي لقّبت بزرارة».
كنيته «أبو الحسن»، و«أبو عليّ».
كان والده «أعْيَن» عبداً رومياً لرجلٍ من بني شَيبان، علّمه القرآن ثمّ أعتقه
وعرض عليه أن يُدخله في نسبه فأبى ذلك، وقال له: «أقِرّني على ولائي»، فصار يُعرف
بالشيباني.
كان زرارة رجلاً تاجراً، وقد ورد في وصفه
وشمائله أنّه كان وسيماً، جسيماً، أبيض، وكان يخرج إلى الجمعة وعلى رأسه برنسٌ أسود،
وبين عينيه سجّادة، وفي يده عصا، فيقوم له الناس سِماطين ينظرون إليه لحُسن
هيئته.
كلمات الأعلام فيه
* قال جميل بن درّاج وهو من كبار تلامذته:
«والله ما كنّا حول زُرارة بن أَعْيَن إلّا بمنزلة الصبيان في الكتّاب حول المعلّم».
* وقال الشيخ الكشّي في تسمية الفقهاء من أصحاب
أبي جعفر الباقر وأبي عبد الله الصادق عليهما السلام: «أجمعت العصابة على تصديق
هؤلاء الأوّلين من أصحاب أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام، وانقادوا لهم
بالفقه، فقالوا: أفقهُ الأوّلين ستّة: زرارة، ومعروف بن خربوذ، وبريد، وأبو بصير
الأسدي، والفضيل بن يسار، ومحمّد بن مسلم الطائفي. قالوا: وأفقه الستّة زرارة».
* وأطراه النجاشيّ بقوله: «شيخ أصحابنا في
زمانه ومتقدّمهم، وكان قارئاً، فقيهاً، متكلّماً، شاعراً، أديباً، قد اجتمعتْ فيه
خِلال الفضل والدين، صادقاً فيما يرويه».
* ووصفَه ابن النديم بأنّه أكبر رجال الشيعة
فقهاً وحديثاً ومعرفةً بالكلام والتشيّع.
* ووصفه الجاحظ بالرئاسة، فقال: «رئيس
الشيعة».
* وقال السيد الخوئي قدّس سرّه بأنّه من الأعاظم
الأجلّاء، ومن أكابر الفقهاء، وعدول الرواة.
أسرته
رُزق «أعين» والد زرارة ذرّية طيّبة امتدّت أجيالاً
عديدة تتوارث الفضل والمعالي، وكانوا أكبرَ بيتٍ في الكوفة من شيعة أهل البيت
عليهم السلام وأعظمهم شأناً، وأكثرهم رجالاً وأعياناً، وأطولهم مدّة وزماناً. أدرك
أوائلُهم السجّاد والباقر والصادق عليهم السلام، وبقي أواخرهم إلى أوائل الغيبة
الكبرى، وكان فيهم العلماء، والفقهاء، والقرّاء، والأدباء ورواة الحديث.
وقد أفرد شيخ علماء عصره وبقية آل أَعْين «أبو
غالب الزراري» (توفيّ 368 هجرية) رسالة فصّل فيها الحديث عن أحوال هذه الأسرة
وفضائلها ورجالاتها، فقال في مستهلّها: «إنّا أهلُ بيتٍ أكرمَنا الله عزّ وجلّ بمنّه
علينا بدينه، واختصّنا بصحبة أوليائه وحُججه على خلقه من أوّل ما نشأنا إلى وقت
الفتنة التي امتُحنت بها الشيعة [لعلّه يقصد غَيبة صاحب الأمر
عليه السلام]، فلقيَ عمُّنا حُمران سيّدَنا وسيّد العابدين عليّ بن
الحسين عليهما السلام، وكان حمران من أكبر مشايخ الشيعة المفضّلين الذين لا يُشكّ
فيهم، وكان أحدَ حمَلة القرآن..». ويصف الزراري دُورهم وموطنهم في الكوفة فيقول: «وقد
كانت دُورهم في الكوفة في خطّة بني أسعد بن همام، ولهم مسجد الخطّة يصلّون فيه،
وقد دخله الإمام أبو عبد الله الصادق عليه السلام، وصلّى فيه».
وقد كان زرارة أفقهَ إخوته بشهادة المشايخ
الثقات، وكان هو وأخوه حمران مركز الثقل في الأسرة، حتّى أنّها عُرفت واشتُهرت بـ
«آل زرارة».
ويظهر من أحوال هذه الأسرة أنّها كانت ذات
شوكة وجهاد إلى جانب ما كانت تتمتّع به من علم وفضل، فقد ورد أنّه لما قدم الحجّاج
العراق قال: «لا يستقيم لنا المُلك ومِن آل أعين رجل تحت حجر». فاختفَوا وتوارَوا،
ثمّ اشتدّ الطلب عليهم.
منزلة زرارة عند الأئمّة عليهم السلام
كان زرارة من أولئك النفر الذين وردت في شأنهم
وفضلهم أخبار كثيرة بلغت حدّ الاستفاضة، تُنبئ عن علوّ شأنه وعظيم قدْره، نختار
طائفة منها:
1) عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه
قال: «رحمَ اللهُ زرارةَ بن أعين! لولا زرارة ونظراؤه لاندرستْ أحاديث أبي عليه
السلام». (وسائل الشيعة)
2) وعنه عليه السلام أيضاً أنّه قال: «أحَبُّ الناس إليّ أحياءً وأمواتاً أربعة: بريد بن
معاوية العجلي، وزرارة، ومحمّد بن مسلم، والأحول..». (الشيخ الطوسي، اختيار معرفة
الرجال)
3) وعن جميل بن درّاج قال: سمعت أبا عبد الله
(الصادق) عليه السلام يقول: «بشِّر المخِبتين بالجنّة؛ بريد بن معاوية العجلي،
وأبا بصير ليث بن البختري المرادي، ومحمّد بن مسلم، وزرارة. أربعة نجباء، أمناء الله
على حلاله وحرامه، لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوّة واندرستْْ». (وسائل الشيعة)
4) وقال الرضا عليه السلام لأحدهم عندما كلّمه
في رواية لزرارة: «أترى أنّ أحداً كان أصدعَ بحقٍّ من زرارة؟!». (اختيار معرفة الرجال)
صِلته بالإمامين الباقر
والصادق عليهما السلام
إنّ العلاقة التي ربطت بين زرارة والإمامين
الصادقين عليهما السلام لم تكن في نوعها من قبيل علاقة الراوي الذي يأخذ الحديث عن
الإمام ثمّ ينصرف لشأنه، بل هي علاقة التلميذ الملازم لأستاذه الذي لا يكاد ينفكّ
عنه، حتّى عُدّ من حواريّي أبي جعفر الباقر، كما وصفه الإمام الكاظم عليهما
السلام.
وكانت بداية هذه العلاقة عندما بدأ زرارة بمراودة بيت الإمام الباقر عليه
السلام في المدينة قادماً إليها من الكوفة وهو لا يزال في أوائل شبابه. ويحدّثنا
زرارة عن أوّل لقاء بينه وبين الإمام الباقر عليه السلام فيقول:
«قدِمتُ المدينة وأنا شابّ.. فدخلتُ سُرادقاً لأبي جعفرٍ عليه السلام بمِنى،
فرأيتُ قوماً جلوساً في الفسطاط وصدْرُ المجلس ليس فيه أحد، ورأيت رجلاً جالساً
ناحيةً يحتجم، فعرفتُ برأيي أنّه أبو جعفر عليه السلام، فقصدتُ نحوه، فسلّمتُ
عليه، فردّ السلام عليّ، فجلستُ بين يدَيه والحجّامُ خلفه، فقال: أمِن بني أَعْيَن أنت؟ فقلت: نعم، أنا زُرارة بن أعين.
فقال: إنّما عرفتُك بالشَّبَه، أحَجّ حُمران؟ قلت: لا، وهو يُقرئك السلام.
فقال: إنّه من المؤمنين حقّاً، لا يرجعُ أبداً، إذا لقيتَه فأقرِئه منّي السلام..».
واستمرّت هذه العلاقة أمداً طويلاً يتردّد
فيها زرارة إلى بيت الإمام الباقر عليه السلام للتزوّد من علومه وحديث أهل البيت عليهم
السلام كما تنبئ عن ذلك كثرة الأحاديث التي يرويها عن الإمام ممّا لا يمكن تحصيله إلّا
مع كثرة الاختلاف إليه. وربّما يظهر من بعض النصوص أنّه كان ينزل في بعض أسفاره في
دار الإمام.
وأمّا علاقته بالإمام الصادق عليه السلام فقد
كانت أطول زمنيّاً من علاقته بأبيه الباقر عليه السلام، حيث دامت أربعين سنة أو تزيد،
فقد روى زرارة أنّه قال لأبي عبد الله عليه السلام: «جعلني الله فداك! أسألك في
الحجّ منذ أربعين عاماً فتفتيني! فقال الإمام: يا زُرارة، بيتٌ حُجّ إليه قبل آدم عليه السلام بألفَي
عام، تريد أن تفنى مسائلُه في أربعين عاماً؟!».
وقد دامت علاقة زرارة رضوان الله عليه بالإمامين
الصادقَين عليهما السلام حتى أواخر حياتهما المباركة وحياته، لأنّه توفّي بعد
الصادق عليه السلام بشهر أو شهرين في رواية، وفي رواية بسنتين، ما يعني أنّه قد شبّ
وشاب تحت ظلّهما عليهما السلام.
ولقد كان زرارة طوال هذه الفترة مرْضِيَّ
السيرة والسَّمت عند الإمامين عليهما السلام، محمودَ الطريقة والخصال لديهما، لا
يخالفهما في شيء، ولا يصدر عن غير أمرهما، حتّى أنّه لمّا استنصره زيد بن عليّ
رضي الله عنه قائلاً: «ما تقول يا فتى في رجلٍ من آل محمّد استنصرك؟ قال له
زرارة: إن كان مفروضَ الطاعة نصَرتُه...»، ما يدلّ على التزامه الكامل بطاعة الأئمّة
عليهم السلام.
مَن يروي عنهم والراوون عنه
لا شكّ في أنّ قرب زُرارة من مصدر النصّ،
المتمثّل آنذاك بالإمامين الصادقَين عليهما السلام يفترض في نفسه أنّه كان يتحمّل
الرواية عنهما مباشرة في معظم رواياته، ما تقلّ معه موارد الرواية عنهم بالواسطة،
وتكون مثل هذه الموارد - بطبيعة الحال - عندما يتواجد في موطنه بالكوفة بعيداً عن
مصدر النصّ.
وقد روى عن أخيه حمران، وعن عمر بن حنظلة، وغيرهما.
وأمّا الرواة عنه فكثيرون، أنهتْهم بعض
المصادر إلى مئة شخص، نذكر منهم: أبو بصير، وابن بكير، وجميل بن درّاج، ومحمّد بن
مسلم.
وقد كان مجلس زرارة - كما يحدّث ابن مسكان -
منتجَعاً لأهل الفضل من الرواة والفقهاء، لِتذاكر أمر الحلال والحرام، والإفادة
من محضره، حيث كانت تعلو شمائلَه هيبة الفقاهة، ويرتسم في محيّاه وقار العلم.
البُعد العلمي في شخصية زرارة
دأبت مدرسة الإمامين الصادقَين عليهما
السلام منذ تأسيسها في المدينة على إعداد شخصيّات مؤهّلة تمتاز بنضجها العلمي، وتتمتّع
بالقابليات العلميّة التي تؤهّلها لتمثيل هذه المدرسة في شتّى أقطار العالم الإسلامي.
وقد نبغَ من تلك المدرسة نفَرٌ من أعلامها وروّادها في علوم متعدّدة ومجالات
متفاوتة؛ كلٌّ حسب اختصاصه واهتمامه، فبرز في التفسير وعلوم القرآن حُمران بن أعين،
وفي الإمامة هشام بن الحكَم، وفي التوحيد هشام بن سالم، وفي الفقه والحديث محمّد
بن مسلم وبريد العجلي وأبان بن تغلب وزرارة بن أعين وغيرهم، وفي العلوم الطبيعية
جابر بن حيّان.
وإنّ تفوّق زرارة في البعد الفقهي من بين
كبار صحابة الأئمّة عليهم السلام كان أمراً ظاهراً للعيان نظراً لطول المدّة التي أخذ
فيها عن المعصومين عليهم السلام في مسائل الفقه ورواية الحديث، حتّى عُدّ أفقهَ
الستّة الذين انقادت لهم الإمامية بالفقه كما تقدم في وصف الكشّي له، بل هو أفقه أصحابهم
عليهم السلام على الإطلاق، لأنّ هؤلاء الستّة هم أفقه الجميع، وهو أفقهُهم. وقد أشاد
الإمام الصادق عليه السلام بفقاهته في مواضع عديدة، منها قوله عليه السلام بحقّه:
«هكذا
يفعلُ الرجلُ الفقيه».
وفاته
توفّي زرارة وهو في سنّ السبعين من عمره،
وكانت وفاته بعد الإمام الصادق عليه السلام بشهرين تقريباً، أي في سنة 148هجريّة،
وذهب النجاشي والشيخ الطوسي إلى أنّ وفاته كانت سنة مئة وخمسين، أي بعد وفاة الإمام
الصادق عليه السلام بسنتين.