﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا..﴾
النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله هو
الوجودُ العينيّ لحقيقة القرآن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المرجع الديني الشيخ عبد الله الجوادي الآملي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يزخر القرآن الكريم
بالآيات المبيّنة للمقام السامي للنبيّ الخاتَم صلّى الله عليه وآله وسلّم،
والمهمّات الموكلة إليه من عند ربّه عزّ وجلّ، ويكفي لإجمال ذلك قوله سبحانه: ﴿وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾. (الأنبياء:107)
وفي تفسير القسم الأوّل
من الآية التاسعة عشرة بعد المائة من سورة البقرة وقوفٌ عند الدلالات البليغة
لمفردات «الإرسال»، و«الحقّ»، و«البشارة»، و«الإنذار»،
وشهادتها للحقيقة المحمّدية الخالدة. وقد اقتبسنا هذا النصّ من الجزء السادس من
التفسير النوعيّ «تسنيم» للمرجع الديني الشيخ عبد الله جوادي آملي،
بتصرّف يسير في العبارات.
«شعائر»
|
يخاطبُ الباري عزّ
وجلّ رسوله الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم في الآية 119 من سورة البقرة، بقوله
تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ
بَشِيرًا وَنَذِيرًا..﴾. وههنا
مسائل نشير إليها:
إنّ من لوازم الإرسال
أن يكون النبيّ صلّى الله عليه وآله «عند» المرسِل، ويأتي مِن عنده كي
يبلّغ رسالته إلى الناس؛ وهذا يقودنا إلى أنّ للنبيّ صلّى الله عليه وآله - كما
للقرآن الكريم - مقاماً عند الله، و«لدى الله». فاللهُ تبارك وتعالى يصرّح
بخصوص القرآن الكريم، بقوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا
لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ
حَكِيمٌ﴾ الزخرف:3-4.
وفي مقام «لدى
الله» لا يجري الكلام عن اللفظ والمفهوم واللغة العبرية أو العربية؛ ذلك أنّ
تلك المرحلة الوجودية هي مقدَّمة على السماء والأرض وهي قبل الجعل الاعتباري. فلا
حديث عن سَنّ القوانين، والآداب، واللغات المختلفة، وما إلى ذلك إلّا في حدود عالم
الطبيعة، وضمن نطاق المجتمع البشري؛ ولهذا، ففي منطقة الاعتبار البشري يصبح القرآن
عربياً ومحكوماً بقوانين العربية. أمّا عند الله سبحانه وتعالى، وفي أمّ الكتاب
فهو في منزلةٍ تعلو على اللغة واللسان الخاصّين: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ
لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ الزخرف:4.
وهذا الأمر يصدق في
النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله أيضاً، فهو عند الله يتعلّم «أمّ الكتاب»،
أمّا في عالم الطبيعة فيتلقّى «القرآن العربيّ»، وما ينقله للآخرين هو هذا
القرآن العربيّ عينه.
وعلى هذا الأساس – أنّ
القرآن الكريم كتاب لدنّيّ ولدى الله، وأنّ الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله هو
إنسان كامل لدنّيّ ولدى الله أيضاً، وأنّه قد تعلّم هذا الكتاب في مدرسة الله عزّ
وجلّ ومن عنده بلا واسطة، وليس بواسطة أو من عند غير الله؛ حيث: ﴿وَإِنَّكَ
لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ النمل:6 - فإنّه يمكننا
القول: إنّ الله هو الذي «أرسل» النبيّ، وهو الذي «أنزل» القرآن؛
لأنّ إرسال الله وإنزاله يتفرّع من كون المرسَل والمنزَل موجوداً عند الله.
في عملية إرسال الله
تبارك وتعالى للإنسان الكامل وإنزاله للقرآن الكريم من عنده، فإنّه يجعل من الأوّل
أصلاً وقائداً للركب، ومن الثاني صاحباً ورفيق سفر، فيقول للناس: عليكم أن تتّبعوا
النور القرآنيّ الذي أُنزل بمعيّة النبيّ صلّى الله عليه وآله: ﴿..وَاتَّبَعُواْ
النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ..﴾ الأعراف:157. فالذي يترأّس هذا الوفد المرسَل
إلى الناس من جانب الله عزّ وجلّ، والمُشيَّع من قِبل الملائكة، هو النبيّ الأكرم
صلّى الله عليه وآله؛ وبناءً عليه فإنّ العنصر الأساسي للرسالة هو «الإنسان
الكامل»؛ ذلك أنّ أوّل فيضٍ لله عزّ وجلّ وأوّل مخلوقٍ خلقَه هو وجود النبيّ
صلّى الله عليه وآله المبارك ومقام روحه النورانيّ. فكلّ الحقائق الموجودة في
القرآن الكريم متوفّرة في النبيّ الكريم صلّى الله عليه وآله وأهل بيت العصمة
والطهارة عليهم السلام، فتلك الذوات النورانية تمثّل «الوجود العينيّ» لحقيقة
القرآن.
الرسالة في
صحبة الحقّ وكسوته
إنّ للانسجام بين
التكوين والتشريع، وللتناسق بين الطبيعة والشريعة مظاهرَ؛ من أبرزها تمحور النظام
الحقيقيّ «الوجود والعدم»، والنظام الاعتباري «ما ينبغي وما لا ينبغي» حول محور
الحقّ ودورانهما في فلَك الحقيقة.
يقول الله تبارك اسمه
في وصفه لهيكلية خلقه النظام الكوني: لقد جعلنا عالم التكوين مصاحباً للحقّ ومكسوّاً
به حتّى لم يعد أيّ مجال للّهو واللّعب والفتور والوهن والضعف إلى حريمه الرصين
وجداره المرصوص؛ وذلك بقوله عزّ من قائل:
- ﴿وَمَا خَلَقْنَا
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ..﴾ الحجر:85.
- ﴿وَمَا خَلَقْنَا
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ﴾ الدخان:38.
- ﴿..رَبَّنَا مَا
خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً..﴾ آل عمران:191.
- ﴿وَمَا خَلَقْنَا
السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا..﴾ ص:27.
كما أنّه قال في تبيين
العناصر الجوهرية لإرسال الرسول، وإنزال الكتاب، وتكليم الوحي، ما نصّه:
- ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ
اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ..﴾ البقرة:176.
- ﴿لا يَأْتِيهِ
الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ..﴾ فصلت:42.
وكما أنّ باستطاعتنا
القول فيما يتّصل بتبيين هيكلية الخِلقة: إنّ الخلقة مرتبطة بالمبدأ الفاعلي من
جهة، وهي تُعَدّ فعلَه من جهة ثانية، وإنّ حقّانية فعل الفاعل إنّما تتجلّى في
تمحور الكيفية الوجودية للمخلوق حول الحقّ والحقيقة؛ لأنّ التفاوت بين الإيجاد
والوجود هو قضيّة اعتبارية، فإنّ بمقدورنا القول أيضاً، فيما يخصّ تحرير العناصر
المحورية لرسالة النبيّ ونزول الوحي: إنّ الرسالة مرتبطة بالمبدأ الفاعلي من
ناحية، وهي تُعتبر فعلَه من ناحية ثانية، وإنّ حقّانية الإرسال تتمثّل في تمحور
الرسالة حول الحقّ ودورانها حول الحقيقة، أي الكيفية التي يحبّها الله للدين
والإسلام هي ممّا لا سبيل للّهو واللّعب أبداً إلى حريمه.
ومع الحفاظ على هذه
الالتفاتة الأصيلة، فإنّ حرف «الباء» يفسَّر تارةً بمعنى المصاحبة، وحيناً
بمعنى الملابسة، وطوراً يكون سببيّاً وما شاكل ذلك، كما أنّه يشار في تعيين متعلّق
قوله: ﴿بِالحقّ﴾ إلى «الإرسال» حيناً، وإلى «البشير» و«النذير»
حيناً آخر، حيث يلاحَظ عبر التدقيق في هذا المبحث الأصلي أنّه لا وجود لفرقٍ أساسيّ
بين الوجوه المذكورة.
وعلى أيّ تقدير،
فالنبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله هو رسولٌ بالحقّ وهو بالحقّ نزل؛ فلم يرسله
غيرُ الله، وحيث إنّه رفيق الحقّ ومتّشحٌ بردائه فهو لم ينظر أثناء الطريق إلى غير
الله، كما أنّه لم يَنفُذ غيرُ الله إلى نفسه أصلاً؛ ومن هذا المنطلق، فإنّه لم
ينقص من رسالته ولا زاد عليها في الطريق شيء. فلقد نطق الله سبحانه بكلامه بالحقّ،
وقد تلقّاه المتلقّي – المتّصف بتمام القابلية - بالحقّ أيضاً، والقرآن الكريم منذ
مبدأ تنزّله إلى محطّ نزوله على قلب النبيّ صلّى الله عليه وآله قد كان بالحقّ: ﴿وَبِالْحَقِّ
أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ..﴾ الإسراء:105. كما أنّ حمَلَة الوحي هم الجنود
الأمناء للباري عزّ وجلّ: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ
لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ﴾ الشعراء:193-194. فلا سبيل للمخالفة – سواء أكانت
عن عمد أو عن جهل وسَهو ونسيان - إلى الحرم الآمن للروح، الذي هو الملَك الأمين.
وتأسيساً على ما مرّ فإنّ
ما وصل إلى القلب المطهّر للرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله بعد التنزّل من ذات
الله سبحانه وتعالى هو عين الوحيُ، وإنّ ما بلّغه هو إلى المجتمع البشريّ هو حقٌّ
أيضاً وهو ذات الوحي؛ ذلك بأنّ لسانه المطهَّر صلّى الله عليه وآله هو أيضاً
منزَّه عن الزيادة والنقصان؛ أي كما أنّ يد النبيّ صلّى الله عليه وآله في «مقام
الفعل» هي يد الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا
يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ..﴾ الفتح:10، فإنّ كلامه في
«مرتبة الفعل» هو أيضاً حقّ وكلام الله تعالى. فإذا وصل الوحي إلى البشر فإنّهم
إمّا أن ينتفعوا منه فيختاروا سبيل السعادة، وإمّا أن يحرموا أنفسهم منه فينتخبوا
طريق الشقاء، فالنبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله يبشّر أهل السعادة بنعيم الجنّة،
ويُنذر أهل الشقاء من نار جهنّم: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا
وَنَذِيرًا..﴾ البقرة 119.
الخلاصات
1) الخطاب المباشر
الذي يوجّهه الله سبحانه وتعالى لرسوله صلّى الله عليه وآله بأنّك جئتَ بالحقّ
وأنّك مصونٌ بحصنه الحصين: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ..﴾ هو لتثبيته كي لا
يؤثّر فيه كلام المغرضين ولا يُعيرهم أهمّية. ولا ريب أنّ قلب النبيّ صلّى الله
عليه وآله محصَّن ضدّ أيّ خاطرٍ سيّء، لكنّ أيّ اعتصام يناله إنّما هو رهنٌ بعصمة
الله تعالى له.
2) الحقّ هو من الله تعالى: ﴿الْحَقُّ مِن
رَّبِّكَ..﴾ آل عمران:60، وإنّ إرساله أو تنزيله يستحقّ التفخيم والاهتمام؛ ومن
هذا المنطلق فإنّ الله عزّ وجلّ قد عبّر عن هذا الأمر السامي بصيغة المتكلّم مع
الآخر التي تتّسم بهيمنة العظَمة، فقال: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ
بَشِيرًا وَنَذِيرًا..﴾.
3) الخوف والرجاء مودَعان في كيان البشر،
وإنّ توازنهما من ناحية، وإحياء أيّ منهما بحيث يناسب المرحلة الزمنية من ناحية
أخرى، ينطوي على طابعٍ تربويٍّ خاصّ؛ ومن هنا فقد طُرحت الصفتان الممتازتان لـ«التبشير»
و«الإنذار» مصحوبتَين بـ«الحقّ»، أو مكسوّتين بحلّته، أو مسبَّبتَين
بواسطته، كي ينال النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله – وهو معلّم الكتاب والحكمة
ومزكّي الأنفس- سِمةَ البلاغ المبين بامتلاكه لهاتين الصفتين المؤثّرتين.