الملف

الملف

منذ 6 أيام

الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام

معدنُ وحي الله ولسان توحيده

الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام

 


استهلال

 

قبسات من سيرة الإمام الصادق عليه السلام

العلامة الشيخ إبراهيم الأميني

شرح وصية الإمام الصادق عليه السلام لـ«مؤمن الطّاق»

الشيخ حسين كوراني

النظرية المعرفية عند الإمام الصادق عليه السلام

د. وليد البياتي

 

استهلال

يا أجودَ مَن أعطى

روي عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنه قال:

«إِذَا طَلَبَ أَحَدُكُمُ الْحَاجَةَ فَلْيُثْنِ عَلَى رَبِّه ولْيَمْدَحْه ".."

فَإِذَا طَلَبْتُمُ الْحَاجَةَ فَمَجِّدُوا الله الْعَزِيزَ الْجَبَّارَ وامْدَحُوه وأَثْنُوا عَلَيْه، تَقُولُ:

يَا أَجْوَدَ مَنْ أَعْطَى، ويَا خَيْرَ مَنْ سُئِلَ، يَا أَرْحَمَ مَنِ اسْتُرْحِمَ،

يَا أَحَدُ يَا صَمَدُ يَا مَنْ لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ ولَمْ يَكُنْ لَه كُفُواً أَحَدٌ،

يَا مَنْ لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً ولَا وَلَداً يَا مَنْ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ويَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ويَقْضِي مَا أَحَبَّ،

يَا مَنْ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وقَلْبِه يَا مَنْ هُوَ بِالْمَنْظَرِ الأَعْلَى،

يَا مَنْ لَيْسَ كَمِثْلِه شَيْءٌ، يَا سَمِيعُ يَا بَصِيرُ.

وأَكْثِرْ مِنْ أَسْمَاءِ الله عَزَّ وجَلَّ فَإِنَّ أَسْمَاءَ الله كَثِيرَةٌ وصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِه، وقُلِ:

اللَّهُمَّ أَوْسِعْ عَلَيَّ مِنْ رِزْقِكَ الْحَلَالِ مَا أَكُفُّ بِه وَجْهِي، وأُؤَدِّي بِه عَنْ أَمَانَتِي، وأَصِلُ بِه رَحِمِي، ويَكُونُ عَوْناً لِي فِي الْحَجِّ والْعُمْرَةِ..».

(الكليني، الكافي: 2/485)


«لا يَضِلُّ مَن تبِعَه ولا يهتدي مَن خالفَه»

قبسات من سيرة الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام

§        العلامة الشيخ إبراهيم الأميني

* تتجسّد في الإمام المعصوم عليه السلام كلّ الكمالات التي يُمكن أن يُحيط بها البشر، فإذا هو في العِلم غايتُه، وفي الخُلق أرفعُه، وفي الإحسان كمالُه، وفي العبادة منتهاها، وفي الصَّبر أجملُه، وفي الجهاد رأسُ سنامه.. وهذا ما يتجلّى في سيرة كلّ واحدٍ من أئمّة الهدى من أهل بيت النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وعليهم أجمعين.

وهذا إمامنا جعفر الصادق عليه السلام نورٌ من تلك الأنوار الساطعة في سماء المجد، حفلت المصادر على اختلافها بما أُثر من علومه وفضائله ومكارم أخلاقه، وتبارى العلماء والمؤرّخون في الترجمة له والتشرّف برفع لوائه.

هذه المقالة المقتبسة من كتاب (منارات الهدى) لمؤلّفه العلامة الشيخ إبراهيم الأميني، تسلّط الضوء على جوانب من سيرة الإمام الصادق صلوات الله عليه.

«شعائر»

 

* وُلد الإِمام أبو عبد الله، جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام بالمدينة المنوّرة يوم الاثنين السابع عشر من شهر ربيع الأوّل سنة ثلاث وثمانين هجرية.

* والده: الإمام محمّد الباقر عليه السلام، وأُمّه فاطمة ابنة القاسم بن محمّد.

* لقبه: الصادق والفاضل والطاهر والقائم والكافل والمنجي والصابر. وكُنيته: أبو عبد الله وأبو موسی.

* تُوفّی «شهيداً» في اليوم الخامس والعشرين من شهر شوّال من سنة مائة وثمانية وأربعين من الهجرة، وله من العمر ثمان وستون سنة، ودُفن جسمه الشريف في مقبرة البقيع.

* أقام مع جدّه الإمام السجّاد عليه السلام اثنتي عشرة سنة، ومع أبيه الإمام الباقر عليه السلام تسع عشرة سنة، وكانت أيام إمامته أربعاً وثلاثين سنة.

عدّوا أخْذَهم عنه منقبةً شُرّفوا بها

كان الإمامُ جعفر الصادق عليه السلام أبرز شخصيات عصره على الإطلاق، وأكثرهم شهرةً من حيث العلم والفقه والحسَب والنّسَب والعبادة ومكارم الأخلاق، وقد شهد بذلك جمعٌ من العلماء.

* قال زيد بن عليّ: «في كلّ زمانٍ رجلٌ منّا أهل البيت يحتجُّ اللهُ به علی خلقه. وحجّةُ زماننا ابنُ أخي جعفر، لا يضلُّ مَن تبعه ولا يهتدي مَن خالفه».

* وقال اسماعيل بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس: «دخلتُ علی أبي جعفر المنصور يوماً، وقد اخضلَّت لحيته بالدموع، فقال لي: ما علمتَ ما نزل بأهلك؟

قلت: وما ذلك؟

قال: فإنّ سيدهم وعالمهم وبقية الأخيار منهم تُوفّي.

فقلت: ومن هو؟

قال: جعفر بن محمّد....إنّ جعفراً كان ممّن قال الله فيه: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا...﴾، وكان ممّن اصطفی اللهُ، وكان من السابقين إلی الخيرات»! (فاطر:32)

[يبكي المنصور الإمامَ الصادق عليه السلام، وهو الذي قتله. وقد جرى مثل ذلك مع غيره من خلفاء بني العباس؛ أبدوا الندامة بعد قتلهم أحداً من الأئمة عليهم السلام]

* ويقول أحمد بن حجر الهيتمي في (الصواعق المحرقة): «.. وخلّف محمّد الباقر عليه السلام ستّة أولاد أفضلهم وأكملهم جعفر الصادق ومن ثمّ كان خليفتَه ووصيه».

* وكتب محمّد بن طلحة الشافعي في (مطالب السؤول): «نقل عنه الحديث واستفاد منه العلمَ جماعةٌ من الأئمّة، وأعلامهم مثل: يحيی بن سعيد الأنصاري، وابن جريج، ومالك بن أنس، والثوريّ، وابنُ عيينة، وأبو حنيفة.. وغيرهم، وعدّوا أخذهم عنه منقبة شُرّفوا بها وفضيلة اكتسبوها».

* وفي (إرشاد) الشيخ المفيد، قال: «.. إنّ أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات علی اختلافهم في الآراء والمقالات فكانوا أربعة آلاف رجل».

ليست الأمانات بالرّسوم

لقد تقرّر في محلّه أن لإثبات إمامة الأئمّة المعصومين الاثني عشر أدلةً متنوعهً‌ ومتعددةً تكفي لإثبات إمامة كلّ واحد من الأئمة وتُسمّى بالأدلة العامّة، وهناك أدلّة خاصّة تدلّ علی إمامة كلِّ واحد من الأَئمّة بخصوصه، وهي النصوص الصادرة من كلّ إمام سابق علی الإمام اللاحق، يصرّح فيها باسمه وشخصه. ولا حاجة إلی تكرار الأَدلّة العامّة، ولهذا نكتفي هنا بذكر عددٍ من الأدلّة الخاصّة.

* عن أبي نضرة، قال: «لما احتضر أبو جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام عند الوفاة دعا بابنه الصادق عليه السلام ليعهد إليه عهداً. فقال له أخوه زيد بن عليّ: لو امتثلتَ في تمثال الحسن والحسين عليهما السلام رجوتُ أن لا تكون أتيتَ منكراً، فقال له: يا أبا الحسين، إن الأمانات ليست بالتمثال، ولا العهود بالرسوم، وإنما هي أمورٌ سابقةٌ عن حُجج الله عزّ وجلّ».

* وعن همام بن نافع، قال: «قال أبو جعفر (الباقر) عليه السلام لأصحابه يوماً: إذا افتقدتموني فاقتدوا بهذا؛ فهو الإمامُ والخليفة بعدي. وأشار إليّ أبي عبد الله الصادق عليه السلام».

* عن سَورة بن كليب، قال: «قال لي زيد بن عليّ: يا سَورة، كيف علمتم أنّ صاحبكم علی ما تذكرون؟

قال: فقلتُ: علی الخبير سقطتَ.

فقال: هات.

فقلت له: كنّا نأتي أخاك محمّد بن عليّ عليهما السلام نسأله، فيقول: (قال رسول الله صلّی الله عليه وآله وسلّم، وقال الله عزّ وجلّ في كتابه)، حتّی مضی أخوك فأتيناكم آلَ محمّد - وأنتَ في من أتينا - فتُخبرونا ببعضٍ ولا تُخبرونا بكلّ الذي نسألكم عنه، حتّی أتينا ابن أخيك جعفراً فقال لنا كما قال أبوه: (قال رسول الله صلّی الله عليه وآله وسلّم وقال تعالی).

فتبسّم وقال: أما والله لئنْ قلتَ هذا، فإنّ كُتبَ عليٍّ صلوات الله عليه عنده دوننا».

لا يحدّثكم أحدٌ بعدي بمثل حديثي

لقد ربّی الإمامُ جعفر الصادق عليه السلام تلامذة كثيرين وعلَّمهم آلاف الأحاديث في شتی المجالات والأصعدة. وروی عنه مالك والشافعي والحسن بن صالح، وأبو أيوب السجستاني، وعمر بن دينار وأحمد بن دينار وأحمد بن حنبل.

قال الإمام الصادق عليه السلام: «إنّي أعلمُ ما في السّماوات وما في الأَرض وما في الجنّة وما في النار، وما كان وما يكون إلى أن تقومَ الساعة. ثمّ سكت ثمّ قال: وعلمُه في كتاب الله، أنظرُ إليه هكذا، ثمّ بسط يديه وقال: إنّ الله يقول: ﴿.. وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ..﴾».  (النحل:89)

* وعن صالح بن الأَسود، قال: «سمعتُ جعفر بن محمّد عليه السلام يقول: سَلوني قبل أن تفقدوني، فانّه لا يحدّثكم أحدٌ بعدي بمثل حديثي».

* وكتب ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة): «أمّا أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف ومحمّد ... فأخذوا الفقه من أبي حنيفة. وأمّا الشافعيّ فقرأ علی محمّد بن الحسن فيرجع فقهُه إلی أبي حنيفة. وأمّا أحمد بن حنبل فقرأ علی الشافعيّ فيرجع فقهُه أيضاً إلی أبي حنيفة. وأبو حنيفة قرأ علی جعفر بن محمّد عليه السلام..».

* وفي (إثبات الوصية) للمسعودي، يقول: «رُوي أنّ جعفر بن محمّد عليه السلام كان يجلس للعامّة والخاصّة ويأتيه الناسُ من الأقطار يسألونه عن الحلال والحرام وعن تأويل القرآن وفصل الخطاب، فلا يخرج أحدٌ منهم إلّا راضياً بالجواب».

طلبُ المعيشة بحرّ الشمس

* عن أبي عمرو الشيباني قال: «رأيتُ أبا عبد الله عليه السلام وبيده مسحاة وعليه إزارٌ غليظٌ يعمل في حائطٍ له والعرقُ يتصابّ عن ظهره، فقلت: جعلتُ فداك، أعطني أكفِك.

فقال لي: إنّي أُحبّ أن يتأذّى الرجلُ بحرّ الشمس في طلب المعيشة».

* وعن محمّد بن عذافر عن أبيه، قال: «أعطی أبو عبد الله عليه السلام أبي ألفاً وسبعمائة دينار فقال له: اتّجِر لي بها.

ثمّ قال: أمّا إنّه ليس لي رغبةٌ في ربحه، وإنْ كان الربح مرغوباً فيه، ولكنّي أحببتُ أن يراني الله عزّ وجلّ متعرضاً لفوائده.

قال: فربحتُ له فيه مائة دينار ثمّ لقيته فقلت له: قد ربحتُ لك فيها مائة دينار. فقال لي: أثبِتها في رأس مالي.

قال: فمات أبي والمال عنده، فأرسل إليّ أبو عبد الله عليه السلام، وكتب: عافانا الله وإيّاك، إن لي عند أبي محمّد ألفاً وثمانمائة دينار أعطيتُه يتّجر بها، فادفعها إلى عمر بن يزيد».

خيرُ الصدقة ما أبقت غنیً

كان الإمامُ الصادق عليه السلام - مثل آبائه الكرام - يحسن إلی الفقراء والمعوزين والغارمين والمنكوبين، وينفق عليهم، ونشير فيما يأتي إلی نماذج من ذلك:

* قال هارون بن عيسی: «قال أبو عبد الله عليه السلام لمحمّدٍ ابنه: كم فضُلَ معك من تلك النفقة؟ قال: أربعون ديناراً.

قال: أُخرج وتصدّقْ بها. قال: إنه لم يبقَ معي غيرها.

 

 

قال: تصدَّق بها فإن الله عزّ وجلّ يُخلفها، أما عَلِمت أنّ لكلّ شيء مفتاحاً ومفتاح الرزق الصدقة؟ فتصدَّقْ بها.

ففعل، فما لبث أبو عبد الله عليه السلام إلّا عشرةً حتّی جاءه من موضعٍ أربعةُ آلاف دينار، فقال: يا بُنيّ، أعطينا للهِ أربعين ديناراً فأعطانا اللهُ أربعة آلاف دينار».

* وروي أن فقيراً سأل الصادق عليه السلام، فقال لعبده: ما عندك؟ قال: أربعمائة درهم. قال: أعطِه إياها. فأعطاه، فأخذها وولّی شاكراً فقال لعبده: أرجِعه.

فقال: يا سيدي سألتُك فأعطيتَ، فماذا بعد العطاء؟ فقال له: قال رسولُ الله صلّی الله عليه وآله وسلّم: خيرُ الصدقة ما أبقتْ غنیً، وإنا لم نُغنِك، فخُذْ هذا الخاتم فقد أُعطيتُ فيه عشرة آلاف درهم، فإذا احتجتَ فبِعه بهذه القيمة».

* وعن أبي حنيفة سائق الحاجّ، قال: «مرّ بنا المفضّل وأنا وخَتَني [أبو الزوجة أو أخوها] نتشاجر في ميراث، فوقف علينا ساعةً ثمّ قال لنا: تعالوا إلی المنزل.

فأتيناه فأصلح بيننا بأربعمائة درهم فدفعها إلينا من عنده؛ حتّی إذا استوثق كلُّ واحدٍ منّا من صاحبه، قال: أما إنها ليست من مالي. ولكنّ أبا عبد الله الصادق أمرني إذا تنازع رجلان من أصحابنا في شيء، أن أُصلح بينهما وأفتديهما من ماله، فهذا من مالُ أبي عبد الله عليه السلام».

هذا الربحُ كثير!

* عن أبي جعفر الفزاريّ، قال: «دعا أبو عبد الله عليه السلام مولی له يُقال له مصادف فأعطاه ألف دينار، وقال له: تجهّز حتّی تخرجَ إلی مصر، فإنّ عيالي قد كثروا.

قال: فتجهَّز بمتاعٍ وخرج مع التجّار إلی مصر، فلمّا دنوا من مصر استقبلتهم قافلة خارجة من مصر فسألوهم عن المتاع الذي معهم ما حالُه في المدينة - وكان متاع العامة - فأخبروهم أنّه ليس بمصر منه شيء، فتحالفوا وتعاقدوا علی أن لا ينقصوا متاعهم من ربح دينارٍ ديناراً، فلمّا قبضوا أموالهم انصرفوا إلی المدينة. فدخل مصادف علی أبي عبد الله عليه السلام ومعه كيسان في كلّ واحدٍ ألف دينار، فقال: جُعلت فداك، هذا رأسُ المال وهذا الآخر ربحٌ.

فقال: إن هذا الربحُ كثير، ولكنْ ما صنعتم في المتاع؟! فحدّثه كيف صنعوا وكيف تحالفوا.

فقال: سبحان الله! تحلفون على قومٍ مسلمين ألا تبيعوهم إلّا بربح الدينار ديناراً؟! ثمّ أخذ أحد الكيسين فقال: هذا رأسُ مالي، ولا حاجة لنا في هذا الربح. ثمّ قال: يا مصادف، مجالدةُ السيوف أهونُ من طلب الحلال».

* وعن معتب الخادم، قال: «قال لي أبو عبد الله عليه السلام وقد تزيَّدَ السعرُ بالمدينة: كم عندنا من طعام؟ قلتُ: عندنا ما يكفينا أشهراً كثيرة.

قال: أخرِجْه وبِعه. فقلت له: وليس بالمدينة طعام.

قال: بِعْهُ. فلمّا بعتُه، قال: اشترِ مع الناس يوماً بيوم. وقال: يا معتب، اجعل قوتَ عيالي نصفاً شعيراً ونصفاً حِنطة، فانّ الله يعلمُ أنّي واجدٌ أن أُطعِمَهم الحنطةَ على وجهها - أيّ خالصة - ولكنني اُحبُّ أن يراني اللهُ قد أحسنتُ تقديرَ المعيشة».


تعليمُ الصبر في المصيبة

* قال قتيبة الأعشی: «أتيتُ أبا عبد الله عليه السلام أعود ابناً له فوجدتهُ علی الباب، فإذا هو مهتمٌّ حزين. فقلت: جُعلت فداك، كيف الصبيّ؟

فقال: (واللهِ إنّه لما به)، ثمّ دخل فمكث ساعةً ثمّ خرج إلينا وقد أسفرَ وجهُه، وذهب التغيّر والحزن.

قال: فطمعتُ أن يكون قد صلح الصبيّ فقلت: كيف الصبيّ جُعلت فداك؟ فقال: لقد مضی لسبيله.

فقلت: جُعلت فداك، لقد كنتَ وهو حيّ مهتمّاً حزيناً، وقد رأيتُ حالك الساعة وقد مات غير تلك الحال، فكيف هذا؟!

فقال: إنّا أهلُ بيتٍ إنّما نجزعُ قبلَ المصيبة، فإذا وقع أمرُ الله رضِينا بقضائه وسلَّمنا لأمره».

* ودخل سفيان الثوريّ علی الصادق عليه السلام فرآه متغيّر اللون فسأله عن ذلك، فقال: «كنتُ نهيتُ أن يصعدوا فوق البيت، فدخلتُ فإذا جاريةٌ من جواريّي ممّن تُربّي بعض وُلدي قد صعدت في سُلَّمٍ والصبيّ معها، فلمّا بصُرتْ بي ارتعدتْ وتحيّرتْ وسقط الصبيّ إلی الأرض فمات، فما تغيّرَ لوني لموت الصبيّ، وإنّما تغيّر لوني لما أدخلت عليها من الرعب.

وكان عليه السلام قال لها: أنتِ حرّةٌ لوجه الله، لا بأس عليكِ، مرّتين».


.. كانوا يتعلّمون الصّمتَ وأنتم تتعلّمون الكلام

شرح وصية الإمام الصادق عليه السلام لابن النّعمان الكوفي

§        الشيخ حسين كوراني

* تتضمّن هذه المقالة فقرات من شرح العلامة الشيخ حسين كوراني لمختارات من وصية الإمام الصادق عليه السلام لأبي جعفر، محمّد بن عليّ بن النعمان الكوفي، المعروف بـ«مؤمن الطاق». وهو من أصحاب الإمام زين العابدين، والإمام الباقر، والإمام الصادق عليهم السلام، روى الحديث عنهم، وكان مناظراً من الدرجة الأولى، سريعَ البديهة، وفي بعض الروايات أنّ الإمام الصادق عليه السلام أذِن له في المناظرة، في حين منع غيره.

المتن الكامل للوصية ورد في (تُحف العقول: ص 307-313) لابن شعبة الحرّاني، وعنه نقل العلامة المجلسي في (البحار) وآخرون. وتجدر الإشارة إلى أن نصّ المقالة مختصَر ما ورد في محاضرتين للعلامة الكوراني ألقاهما في شهر ربيع الأول 1438 في «المركز الإسلامي» في بيروت.

«شعائر»

 

نحن في أجواء ذكرى المولد النبويّ الشريف، وفي أجواء ذكرى مولد الإمام الصادق عليه السلام، والوصولُ إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يجب أن يكون عن طريق أهل البيت عليهم السلام، خصوصاً الإمام الصادق عليه السلام؛ باعتبار طبيعة المهمّة التي أدّاها صلوات الله عليه، وبلحاظ خصوصيّات الوضع السياسيّ آنذاك. لذا، فإنّ الحديث سيكون حول تحديد العناوين والأمثلة من حُسن الخلق وسوء الخلق، والتي هي محلّ ابتلاء المؤمن في التعامل مع الآخرين. وقد اخترت لهذا الحديث أن أتناول المفردات التي وردت في وصية الإمام الصادق عليه السلام لمؤمن الطاق، ابنِ النعمان الكوفي.

  

شرح الوصية

* قال أبو جعفر (ابن النُّعمان): قال ليَ الصادق عليه السلام: إنّ اللهَ عزَّ وجلَّ عيّرَ أقواماً في القرآن بالإذاعة. فقلت له: جُعلت فداك، أين؟ قال: قولُه: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ..﴾ (النساء:83)

الإذاعة هي إذاعةُ السرّ وعدم الكتمان، والكتمان أمرٌ مطلوبٌ من المؤمن. سنجد أنّ أكثر الوصيّة يتركّز حول موضوع الكتمان، لأنّ من أُسُس الشخصية المؤمنة هو البُعد الأمني الذي يحصّن من إفشاء السرّ، بالإضافة إلى أنّه يحصّنه من أساليب الشيطان، باعتبار أنّه يعتمد أساليب أمنية للإيقاع بالشخص عن طريق التغرير والخداع ليسرق منه إيمانه. المؤمن كتومٌ وحكيم؛ يتحدّث في المجلس المناسب الحديثَ المناسب.

أمّا في ما يتعلّق بأهل البيت عليهم السلام، فأسرارهم والأمور الولائية لا يجوز أن تقال كيفما كان. لا بدّ من مراعاة المخاطَب ومستواه الديني حينما يكون الكلام عن أسرار وكرامات أهل البيت، على قاعدة أن نكلّم الناس على قدر عقولهم وبالطريقة المناسبة.

* ثمّ قال: المذيعُ علينا سرَّنا كالشّاهرِ بسيفه علينا، رَحِمَ اللهُ عبداً سَمِعَ بمكنون علمِنا فدفنَه...

قد تُطرح كرامة من كرامات أمير المؤمنين عليه السلام، وهي صحيحة، على مَن هم حديثي العهد في التديّن، فيرفضوها ويبتعدوا عن التديّن، ويكون طرحُها من أنواع إفشاء السرّ وإذاعته في غير مكانه. فليس المعيار صحّة الرواية، وإنّما لكلّ مقامٍ مقال.

التديّن عقل. يجب أن نُتقن إدارة المعلومة وكيفية التعامل معها. الجانب العقائديّ يحتاج إلى تدرّج.

* يا ابنَ النُّعمان، إيّاك والمِراء، فإنّه يحبطُ عملَك. وإيّاك والجِدال، فإنّه يُوبِقُكَ. وإيّاكَ وكثرةَ الخصومات، فإنّها تُبعدك من الله.

المِراء هو المماحكة، والفرق بين المِراء والجدال أنّ المِراء يكون في مسألةٍ باطلة وكذلك الهدف منه، أمّا الجدال فيكون في مسألةٍ حقّة وكذلك الهدف منه، لكن في غير محلّه.

يقول رسول الله صلّى الله عليه وآله: «أوّلُ ما نهاني عنه ربّي بعد عبادة الأوثان، المِراءُ»، لأنّ في المراء والجدال عبادة النفس. والجدال في مكانه الصحيح مطلوب: ﴿..وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..﴾ (النحل:125)، لكنّ الجدال العقيم ولمجرّد إثبات النفس، فإنّه مُهلك. كما نهى الإمام عن كثرة الخصومات؛ فإذا استطعت أن لا يكون لك خصومة مع أحد، سيتاح لك أن تعيش حالة سلامة القلب بأجلى صورها، إذ إنّ خصومة واحدة قد تُثمر خراباً في صدرك.

* ثمّ قال: إنّ مَن كان قبلَكم كانوا يتعلّمون الصمتَ وأنتم تتعلّمون الكلام، كان أحدُهم إذا أرادَ التعبّدَ يتعلّمُ الصمتَ قبلَ ذلك بعشرِ سنين، فإنْ كان يُحسنه ويصبرُ عليه تعبَّد، وإلّا قال: ما أنا لِما أَرومُ بأهل.

إنّما ينجو مَن أطال الصمتَ عن الفحشاء، وصبر في دولة الباطل على الأذى، أولئك النجباءُ الأصفياءُ الأولياءُ حقّاً، وهم المؤمنون. إنّ أبغضَكم إليّ المترئّسون، المشّاؤون بالنمائم، الحَسَدةُ لإخوانهم، ليسوا منّي ولا أنا منهم. إنّما أوليائي الذين سلّموا لأمرنا، واتّبعوا آثارنا، واقتدوا بنا في كلّ أمورنا... واللهِ، لو قدّمَ أحدُكم ملءَ الأرض ذهباً... ثمّ حسدَ مؤمناً، لكان ذلك الذّهبُ ممّا يُكوى به في النار.

 وصل الحديث إلى الصمت، وهو مرتبطٌ بالمهلكات الثلاث المتقدّم ذكرها، وبالصمت تكون السلامة منها. بناء النفس يبدأ بالصمت... والصمت عبادة دائمة لا يخرج منه الإنسان إلّا ليتكلّم بخير. إذا غرقنا في ضجيج وعجيج الكلام، متى نفكّر؟ يُنقل أنّ السيّد علي القاضي قدّس سرّه كان مجلّياً في مسألة الصمت، وكان يمنع نفسه عن الكلام بشكلٍ دائم. لا نتكلّم إلا بخير وحيث يجب. ونستثني من ذلك الحديث إلى الأولاد والزوجة، بل يجب التقرّب إليهم والتواصل معهم. تقول ابنة السيد الطباطبائي صاحب (تفسير الميزان) إنّه كان يخصّص لعائلته ساعة يومياً، وكان يقول إنّها أجمل الساعات. لا يجوز أن نفصل بين هذه الأمور وبين العلاقة السليمة برسول الله صلّى الله عليه وآله، لأنّها من الأخلاق الفاضلة والحسنة، بل يجب الوقوف عندها.

ثمّ ينتقل الإمام الصادق عليه السلام إلى ثلاث صفات هي لأبغض الناس إليه؛ المترئّسون، والمشّاؤون بالنمائم، والحَسَدة.

- المترئّسون وليس الرؤساء، أي مَن يطلب الرئاسة، وهو بخلاف مَن يطلبه الناس للرئاسة. العبودية وطلب الرئاسة لا يجتمعان. آفة الترؤّس تبدأ من بيوتنا، حيث ينمو الاستبداد والتفرّد بالرأي. بل أصل الخصومات هذا منشأها.

- المشّاؤون بالنمائم؛ يلحق بهذه الصفة أمراض النفس المستعصية، من قبيل ذو اللّسانَين. تحدّث الشهيد الثاني عن هذه الآفة مطوّلاً في كتابه (كشف الرّيبة) وهو كتاب يجب أن يكون للمؤمن به علاقة خاصّة.

- أمّا الحَسَدة لإخوانهم، وهي صفة محلّ ابتلاء. قد يقتصر الحسد على القلب، إلّا أنّه حرام. خطورةُ الحسد تكمن في أنّ الشخص لا يمكن أن يتخلّص من آثاره ولو أنفق ملءَ الأرض ذهباً، على حدّ تعبير الإمام الصادق عليه السلام. الحسد يحبط كلّ الأعمال. إذا كنّا عبيداً لله، وواثقين بأنّ الله مطّلعٌ علينا، لَرضينا وما حسدنا أحداً على نعمة. ليست الكارثة أن نكتشف أنّ فينا سوء خُلُق، إنّما الكارثة أن نتعايش معه.

* يا ابن النّعمان، إنّ المذيعَ ليس كقاتلنا بسيفه بل هو أعظمُ وِزراً، بل هو أعظمُ وِزراً، بل هو أعظمُ وِزراً.

يعود الإمام الصادق لموضوع الإذاعة، حيث يؤكّد أنّ إثم مذيع سرّ أهل البيت عليهم السلام، أكبر من إثم قاتلهم؛ وقد كرّرها الإمام عليه السلام ثلاثاً.

* يا ابن النّعمان، مَن سُئل عن علمٍ فقال: لا أدري، فقد ناصفَ العلم. والمؤمنُ يحقدُ ما دام في مجلسه، فإذا قامَ ذهبَ عنه الحقدُ.

من الأمور الأكثر حسّاسية في تزكية النفس أن لا يتنطّح أحدنا للإجابة على كلّ ما يُسأل، على قاعدة أنّه صاحب رأي. على المؤمن أن يكون موضوعياً، وقولُ «لا أدري» هو جوابُ نصف عالِم. الأمر الآخر إشارة إلى درسٍ عظيم، منهاج حياة: غيرُ مسموحٍ للمؤمن أن يُقيم على الحقد. الحقد دليلٌ على غياب الإيمان.

* يا ابن النّعمان، إنّ العالِم لا يقدر أن يخبرَك بكلّ ما يعلم. لأنّه سرُّ اللهِ الّذي أسرّه إلى جَبرئيل عليه السلام، وأسرّه جَبرئيل عليه السلام إلى محمّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأسرَّه محمّدٌ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى عليٍّ عليه السلام، وأسرّه عليٌّ عليه السلام إلى الحسن عليه السلام، وأسرّه الحسنُ عليه السلام إلى الحسين عليه السلام، وأسرّه الحسين عليه السلام إلى عليٍّ (زين العابدين) عليه السلام، وأسرّه عليٌّ عليه السلام إلى محمّدٍ (الباقر) عليه السلام، وأسرّه محمّدٌ عليه السلام إلى مَن أسرّه (الصادق عليه السلام)، فلا تَعْجلوا، فوَاللهِ لقد قَرُبَ هذا الأمرُ ثلاث مرّاتٍ فأَذَعْتُموه، فأَخَّره اللهُ. واللهِ، ما لكم سِرٌّ إلّا وعدوُّكم أعلمُ به منكم.

يعود الإمام صلوات الله عليه للحديث عن الإذاعة مجدّداً، ويبيّن أنّ أمور الإمام المعصوم سرٌّ من سرّ الله تعالى، والذي يتّصل بالمعصوم هو متّصلٌ بمَن هو مستودعُ سرّ الله عزّ وجلّ. يشير الإمام الصادق عليه السلام أنّ (وقت) ظهور الإمام عجّل الله تعالى فرجه الشريف كان قد تحدّد في عصور سابقة، لكنّ عدم الكتمان أخّر هذا الأمر. وفي هذا المجال يجب التحذير من إذاعة علامات الظهور، وتقديمها لعدوّ وليّ الله. آفةُ المجتمعات الثرثرة.

* يا أبا جعفر، ما لكُم وللناس، كفّوا عن الناس ولا تدْعوا أحداً إلى هذا الأمر، فوَاللهِ لو أنّ أهلَ السماوات (والأرض) اجتمعوا على أن يُضلّوا عبداً يريدُ اللهُ هُداه ما استطاعوا أن يُضلّوه. كفّوا عن النّاس ولا يقُل أحدُكُم: أخي وعمّي وجاري. فإنّ اللهَ جلّ وعزّ إذا أراد بعبدٍ خيراً طيّب روحَه فلا يسمعُ معروفاً إلّا عرفه ولا منكراً إلّا أنكره، ثمّ قذف اللهُ في قلبه كلمةً يجمعُ بها أمره.

يبيّن الإمام الصادق عليه السلام أنّ هداية الناس ليست «بشطارة» البشر، إنّما هو أمرٌ إلهيٌّ. مَن اهتدى إلى الحقّ فإنّما اهتدى بتوفيقٍ إلهيّ. نحن نحتاج للهداية، فلا ندّعي أنّنا هَدينا الناس.

* يا ابن النّعمان، لا يكون العبدُ مؤمناً حتّى يكونَ فيه ثلاثُ سُنن: سُنّةٌ من الله، وسُنّةٌ من رسوله، وسُنّةٌ من الإمام، فأمّا السُّنّةُ من الله جلّ وعزّ؛ فهو أن يكون كتوماً للأسرار. يقول الله جلَّ ذكرُه: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا﴾ (الجن:26)، وأمّا التي من رسولِ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فهو أن يُداري الناس ويعاملَهم بالأخلاق الحنيفية، وأمّا التي من الإمام؛ فالصّبرُ في البأساء والضراء حتّى يأتيَه اللهُ بالفَرَج.

ثلاثُ صفاتٍ يحثّ الإمام الصادق على التحلّي بها: الكتمان، والمداراة، والصبر، إذ إنّ باجتماع هذه السُّنن يتحقّق الإيمان. آنَ لنا أن ندرك أنّ التفرعن الذي نمارسه على غيرنا سنُحاسب عليه يوم القيامة، وأن نربط بين ضغطنا على الآخرين وبين ضغطة القبر.

* يا ابنَ النُّعمان، ليست البلاغةُ بحدّة اللسان ولا بكثرة الهَذَيان، ولكنّها إصابةُ المعنى وقصد الحجّة.

عادةً مَن لا يكتم السرّ ولا يداري ولا يصبر، يكثر هَذَيانُه، وهذا عكس البلاغة التي عرّفها الإمام صلوات الله عليه بإصابة المعنى.

* يا ابن النّعمان، إنّ حبّنا أهلَ البيت يُنزِلُه اللهُ من السماءِ من خزائنَ تحت العرش، كخزائن الذهبِ والفضّة، ولا يُنزِله إلّا بقدرٍ ولا يُعطيه إلّا خيرَ الخلق، وإنّ له غمامةً كغمامةِ القَطْر، فإذا أرادَ اللهُ أن يَخُصّ به مَن أحبّ من خلقِه، أذِنَ لتلك الغمامة فتهطّلتْ كما تهطّلتِ السّحاب، فتصيبُ الجنينَ في بطنِ أمّه.

ويختم الإمام عليه السلام بجوهرةٍ من كنوز الحقّ والولاية: حبُّ أهل البيت عليهم السلام كالمطر ينزل من السماء؛ فإذا كان الشخصُ مستحقّاً أن يحبّهم سيصلُ إلى قلبه نصيبٌ من هذه السحابة، وحتّى لو كان جنيناً في بطن أمّه، فسيصلُه ذلك النور.

 

 

 أهميّة وصية الإمام الصادق عليه السلام لعنوان البصريّ

يقول الفقيه السيد محمّد حسين الطهراني رحمه الله في كتاب (الروح المجرّد):

«.. كان المرحوم الأستاذ الكبير، عارف القرن الذي لا نظيرَ له، بل هو حسب تعبير أستاذنا سماحة الحاج السيد هاشم (الحداد): لم يأتِ منذ صدر الإسلام حتّى الآن في مثل شمول وجامعية المرحوم القاضي؛ كان قد أصدر تعليماته لتلامذته ومريديه في السّير والسلوك إلى الله، أن يكتبوا رواية (عنوان البَصري)، ويعملوا بها من أجل تخطّي النفس الأمّارة، والرغبات الماديّة والطبعية والشَّهوية والغضبية التي تنشأ غالباً من الحقد والحرص والشهوة والغضب والإفراط في الملذّات. أي أن العمل وفق مضمون هذه الرواية كان أمراً أساسياً ومهماً..

وكان السيد علي القاضي يقول مضافاً إلى ذلك: (ينبغي أن تحتفظوا بها - أي بالوصيّة - في جيوبكم وتطالعوها مرّة أو مرّتين كلّ أسبوع).

فهذه الرواية (الوصية) تحظى بالأهمية الكبيرة وتحوي مطالب شاملة وجامعة في بيان كيفية المعاشرة والخلوة، وكيفية ومقدار تناول الغذاء، وكيفية تحصيل العلم، وكيفية الحلم ومقدار الصبر والاستقامة وتحمّل الشدائد أمام أقوال الطاعنين؛ وأخيراً مقام العبودية والتسليم والرضا والوصول إلى أعلى ذروة العرفان وقمة التوحيد.

لذا، لم يكن المرحوم القاضي يقبل تلميذاً لا يلتزم بمضمون هذه الرواية. وهي منقولة عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، وقد ذكرها العلامة المجلسي في كتاب بحار الأنوار».

(انظر: بحار الأنوار:1/224-226)

 

﴿..وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ..﴾

النظرية المعرفية عند الإمام جعفر الصادق عليه السلام

§        د. وليد سعيد البياتي

 

* «الوصولُ بالإنسان إلى المعرفة الكلّية يخضع لعملية تراكمية تتفاعل مع تطوّر الحاجات الفردية والاجتماعية، ما يؤسّس لوعيٍ معرفيٍّ ينقل الأفراد من حالة السكون إلى الانفعال لتحقيق غائيّة الوجود... ويمكن اعتبار مدرسة الإمام الصادق العلمية مدرسة تأصيلية وضعت أصول المعرفة التي جاء بها الرسول الخاتم صلّى الله عليه وآله، وأسّست لمناهج تطبيقية عبر نشرها من خلال آلاف التلاميذ والأتباع الذين حملوا عبء هذا العمل المعرفيّ».

يتناول هذا البحث للدكتور وليد سعيد البياتي الموقف التأسيسيّ والمبادئ العرفانية في منهج الإمام الصادق عليه السلام.

«شعائر»

 

تتوقف المعرفة عند حدود العقل، فكلما ازدادت مدارك العقل كلما تفتّحت له أبواب المعارف، فإذا كانت مهمة الرسول الخاتم أن يكون بشيراً ونذيراً، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ المائدة:19.

 

 

فإنّ مهمّة الإمامة تكمن في أن تمثّل استمراراً واعياً للرسالة السماوية، لأنّها من طبيعتها ومن سنخها التكويني، ومن هنا كان الإمام عليّ عليه السلام نفس رسول الله صلوات الله عليهما وآلهما.

من هنا أيضاً نفهم المنهج التأصيلي للإمام الصادق الذي يمثل جانباً من سلسلة الإمامة؛ لقد أوضح الإمام منذ البداية طبيعة المعارف التي تحمل أصولها حقيقة مَنشئها السماوي وأنّها ليست خاضعة للأهواء أو قابلة للانحراف، فهو يقول في الأصول العلمية:

«يا جابر، لو كنّا نُفتي الناسَ برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين، ولكنّا نُفتيهم بآثارٍ من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأصولِ علمٍ عندنا، نتوارثُها كابراً عن كابرٍ، نَكنِزها كما يكنِزُ هؤلاء ذهبَهم وفضّتَهم». (البحار: 2/172)

 

 

يعني قوله عليه السلام أنّ الأصول التأسيسية للمعرفة بكل أبعادها وأصنافها، ذات منشأ إلهي، وما النبوّات والرسالات إلّا وسيلة لإيصالها إلى الخلق، وأمّا الانبياء والرسل ما هم إلّا أوعية لحفظ المعرفة ونشرها وصولاً إلى معرفة الخالق وتحقيق غائية الوجود.

فكما أنّ علم الرسول لا يخضع لحالات النفس واضطرابها وشهواتها، وهو الوحي الرساليّ، فكذلك العلم الإلهاميّ للإمام هو أيضاً أصل خالص من الله عزّ وجلّ إلى رسوله وأئمّة أهل البيت عليه وعليهم أفضل الصلاة وأتمّ التسليم، فالوحي قسمان:

1) وحي رسالي: وهو خاصّ بالأنبياء والرسُل عليهم السلام، ليثبت به نبوّاتهم وليؤكّد رسالاتهم، وهو بوابة العلم من لدن العليم الحكيم تعالى شأنه.

2) وحي إلهامي: وهو ما يحصل للأئمّة المعصومين عليهم السلام، أو كما يقول الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ عِلمَنا غابرٌ ومزبورٌ، ونَكتٌ في القلوبِ، ونَقْرٌ في الأسماعِ.... أمّا الغابرُ فما تقدّم من عِلمنا، وأمّا المزبورُ فما يأتينا، وأمّا النَّكْتُ في القلوبِ فإلهامٌ، وأمّا النَّقْرُ في الأسماعِ فأَمْرُ الملَك». (الكليني، الكافي: 1/264)

بمعنى أنّهم عليهم السلام يحصل لهم العلم فيجدونه في قلوبهم، وهو بمعنى الإحساس الإدراكي العالي في معرفة الحقيقة في كلّ أمر. وهل الإلهام إلّا ذلك الإحساس العالي بالحقيقة؟

وقد حاول سابقاً الشيخ أبو زهرة في كتابه (الصادق) تفنيد قضية الوحي الإلهامي عند الأئمّة الاثني عشر، متجاهلاً أنّ الله يذكر في كتابه العزيز أنّه أوحى إلى النحل، وإلى النمل، وإلى أمّ موسى عليه السلام، وحواريّي عيسى عليه السلام، وعددٍ كبيرٍ من الخلق، وحياً إلهامياً بمعنى المعرفة الحسية بالعلم؛ فالإمام يحصل لديه اليقين بحقيقة كلّ موقف علمي أو تشريعي ليتكامل تفسير الشريعة الإلهية وليتمّ إيقاع الأحكام الشرعية وتفسير الحالات الإنسانية، خاصةً وأنّها الرسالة الخاتَمة؛ بمعنى انقطاع الوحي الرساليّ، لكنّ ذلك لا يعني انقطاع الوحي الإلهامي، إذ لا نبيّ بعد محمّدٍ صلّى الله عليه وآله، والأمّة تحتاج إلى هداةٍ مهديّين يقودون مسيرتها في حركة التاريخ، وهذا جزء من صيرورة الأمة واستمرارها. ومن هنا قال الله عزّ وجلّ: ﴿..وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ..﴾ النساء:83.

كان الإمام الصادق قد جمع في مدرسته الفكرية مئاتٍ من كبار العلماء الذين تتلمذوا عليه، فرَووا عنه عليه السلام أكثر من ثلاثين ألف حديث، فأذِن لهم بالإفتاء ونقل المعارف العلمية عنه، بل إنّه كان يعدّهم ليكونوا مستقلين فكرياً في تفريعاتهم العلمية، بعد أن أوصل إلى عقولهم القواعد والأصول الأصلية في المعارف، وهو الذي يقول لأصحابه وخاصّته من تلاميذه: « إنّما علينا أن نُلقي إليكم الأصولَ وعليكم أن تفرّعوا». (ابن إدريس الحلّي، المستطرفات، ص 109)

نلاحظ هنا أنّ الإمام جعفر الصادق عليه السلام، يؤسّس من خلال منهجه العلمي في تحضير وتدريب عددٍ من تلامذته الذين ينقل إليهم الأصول العلمية ويترك لهم عملية استنباط الفروع في الأحكام الشرعية، وهو ذات المنهج العلمي الذي سارت عليه المدارس والحوزات العلمية منذ القرن الهجري الأول على يد الإمام عليّ عليه السلام. وهو يتفوّق كثيراً على المناهج الأكاديمية المعاصرة في عملية توثيق المعرفة وتطوّر بنائها.

فالإمام الصادق عليه السلام يؤكّد دور العقل في التأسيس المعرفيّ، كما أنّه يبيّن القواعد الأصلية في تطوّر المعارف من خلال الإدراك الواعي للأصول العلمية التي يعرضها لطلاب العلم، لتكون بذلك منهجاً في التطوّر المعرفي.

غير أنّ الأهم هو أن هذه الأصول ليست أصولاً كيفية خاضعة للتغيير الزماني والمكاني، أو أنّها تتضارب والمنهج العقلي، فهي أصول متوراثة من علم الرسالة؛ أي إنّها أصول ذات منشأ إلهي أُرسلت إلى عالم الوجود عن طريق الوحي.

وعليه، فإنّ مجمل الموقف التأسيسي عند الإمام جعفر الصادق إنّما يتبع المنهج التأصيلي في تحديد الأصول العلمية التي تنبثق عنها المعارف والعلوم، وتكريس تطبيقها في مختلف الاتجاهات الفكرية، ويمكن اعتبار مدرسته العلمية مدرسة تأصيلية وضعت أصول المعرفة التي جاء بها الرسول الخاتم صلّى الله عليه وآله، وأسّست لمناهج تطبيقية عبر نشرها من خلال آلاف التلاميذ والأتباع الذين حملوا عبء هذا العمل المعرفي.

وقد رُوي عن الحسن بن عليّ الوشّاء أنّه قال: «أدركت مسجد الكوفة وفيه تسعمائة شيخ، كلٌّ يقول: حدّثني الإمام الصادق عليه السلام كذا وكذا».

فكلّ عالمٍ من هؤلاء أخذ الحديث عن الصادق مباشرة، لأنّه يسند مصدر الحديث إليه عليه السلام. ولو أنّنا افترضنا أنّ لكلّ شيخٍ من هؤلاء عشرة تلاميذ يدرسون عليه على أقلّ تقدير، فسيحصل عندنا تسعة آلاف إنسان تخرّجوا من مدرسة الصادق صلوات الله عليه، لكن الأخبار المتواترة أنّ العدد أكبر من هذا بكثير.

 

 

المبادئ العرفانية في منهج الإمام الصادق عليه السلام

العرفان مشتقّ من المعرفة، وكمال المعرفة هي معرفة الله عزّ وجلّ. وهل الدّين إلا معرفةُ الله؟ على ذلك يُجمل أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام عقيدته في معرفة الله، وهي ذات العقيدة التي نادى بها الرسول الخاتم وتمثّلها الأئمة الأطهار عليهم السلام، فنراه يقول:

«أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُه، وكَمَالُ مَعْرِفَتِه التَّصْدِيقُ بِه، وكَمَالُ التَّصْدِيقِ بِه تَوْحِيدُه، وكَمَالُ تَوْحِيدِه الإِخْلَاصُ لَه، وكَمَالُ الإِخْلَاصِ لَه نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْه، لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الْمَوْصُوفِ، وشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّه غَيْرُ الصِّفَةِ، فَمَنْ وَصَفَ الله سُبْحَانَه فَقَدْ قَرَنَه، ومَنْ قَرَنَه فَقَدْ ثَنَّاه ومَنْ ثَنَّاه فَقَدْ جَزَّأَه، ومَنْ جَزَّأَه فَقَدْ جَهِلَه، ومَنْ جَهِلَه فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْه، ومَنْ أَشَارَ إِلَيْه فَقَدْ حَدَّه ومَنْ حَدَّه فَقَدْ عَدَّه». (نهج البلاغة، خ 1)

واذا كان حديث كلٍّ إمامٍ هو حديثُ أبيه، وحديثُ أبيه هو حديث جدّه، فإنّ هذا المنهج العرفانيّ الذي وضعه والد الأئمّة عليّ عليه السلام قد مثّل الأصول العرفانية التي اتّبعها كلّ الأئمّة عليهم السلام، فهي مبادئ مدرستهم في معرفة الله. لأجل ذلك قلنا إنّ المدرسة العرفانية للإمام جعفر الصادق عليه السلام لا تنفصل عن تلك التي تأسست منذ عصر جدّه الرسول الخاتم صلّى الله عليه وآله.

غير أنّ كل واحدٍ من الأئمّة عليهم السلام يفتح لنا أبواباً في مبادئ المعرفة من منظورات متعدّدة، ما يؤشّر إلى التكامل المعرفي في منهج الإمامة. وهنا يوجز الإمام الصادق عليه السلام مبادئه العرفانية في معرفة الله عزّ وجلّ في قوله: «.. والمعرفةُ أصلٌ فرعُهُ الإيمان». (مصباح الشريعة، ص 191)

فالإمام الصادق يجعل المعرفة أصلاً من الأصول العلمية، التي من دونها لا تكتمل المعرفة ولا يتحقّق الإيمان، ويقصر العقلُ عن إدراك غائية الوجود ومعنى الحياة والموت وطبيعة التكوين. بل هي أولُ الأصول. حتى إنّه جعل الإيمان فرعاً من فروع المعرفة، فلا يكون إيمانٌ دون معرفة الله، ولهذا قال عليه السلام: «العارفُ شخصُه مع الخَلْق، وقلبُه مع الله، لو سهى قلبُه عن الله طرفةَ عينٍ لماتَ شوقاً إليه، والعارفُ أمينُ ودائعِ الله، وكنزُ أسرارِه، ومعدنُ أنوارِه، ودليلُ رحمتِه على خلقِه، ومطيّةُ علومِه وميزانُ فضلِه وعدلِه، قد غنيَ عن الخلق والمراد والدنيا، ولا مُؤنسَ له سوى الله، ولا نُطْقَ ولا إشارةَ ولا نَفَسَ إلا باللهِ للهِ من اللهِ مع اللهِ؛ فهو في رياضِ قُدسِه متردّد، ومن لطائفِ فضلِه إليه متزوّد..». (المصدر السابق)

فالعارف لا يكون عارفاً حتى يكون على يقينٍ من أمر الله، مدركاً لحقيقة وجوده تعالى شأنه؛ بأنّه واجب الوجود، وكلّ ما دونه محتمل الوجود، فكلّما كان العارف مدركاً لشأن اليقين، كلّما سمت مرتبته. وهنا يقول الصادق عليه السلام: «اليقينُ يُوصِلُ العبدَ إلى كلّ حالٍ سَنِيٍّ». (مصباح الشريعة، ص 177)

وقد كان الرسول الخاتم قد ذكر في شأن عيسى عليه السلام حين ذُكر في حضرته بأنّه كان يمشي على الماء، فقال: «لو زادَ يقينُه لمَشى في الهواء».

ومن هنا أيضاً نفهم قول الصادق عليه السلام: «إنَّ روحَ المؤمنِ لأَشَدُّ اتّصالاً بروحِ اللهِ من اتّصال شعاعِ الشّمسِ بها». (الكافي: 2/166)

فالعلاقة بين المؤمن والله عزّ وجلّ لا تتحقّق إلا بالمعرفة الإدراكية المؤدّية إلى اليقين؛ فكلما زاد الإدراك كلما ارتقى العارف في مراتب العرفان، وتحقّق عنده تكامل اليقين من علم اليقين إلى عين اليقين، وصولا ًلحقّ اليقين، وتلك مرتبة الأنبياء والرسُل والأئمّة عليهم السلام في أقصى مدارك العرفان.

من هنا، فإنّ مدرسة الإمام الصادق عليه السلام تُعتبر امتداداً لمدرسة جدّه الرسول الخاتم صلّى الله عليه وآله، المؤسِّس لكلّ المعارف الإلهية والعرفانية، التي تجلّت جوانبها في كلّ عصرٍ من عصور الأئمّة عليهم السلام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* منقول باختصار عن الموقع الإلكتروني لوكالة أنباء براثا

 
 

اخبار مرتبطة

  تقرير

تقرير

منذ 3 أيام

تقرير

  إصدارات عربية

إصدارات عربية

منذ 3 أيام

إصدارات عربية

نفحات