الإمامة في
رؤية الأئمة الأطهار
الاصطفاء
الإلهي للمعصوم
_____ العلامة الشهيد الشيخ مرتضى مطهري _____
موضوع هذا المقال هو آخر جزء من مجموعة بحوث
ألقاها العلامة الشهيد مرتضى مطهري رحمه الله، حول المسائل العامّة للإمامة. وهو موضوع يتسم
بالطابع النقلي، من قبيل ما ورد من حديث عن النبيّ الأكرم في أمير المؤمنين عليّ
بن أبي طالب، أو ما صدر عن رسول الله أو أمير المؤمنين حول الأئمة صلوات الله
عليهم أجمعين.
وسنلاحظ في هذه المقالة / المحاضرة أن الشهيد
مطهري قد بيَّن العناصر الحيّة التي ترتبط بروح الإمامة – حيث اعتمد في ذلك على
أحاديث الأئمة عليهم السلام، من خلال قراءة بعض ما ورد عن هذه العناصر في كتاب
الحجّة من (الكافي).
«شعائر»
الإمامة في معناها المقصود هي تالي
تلّو النبوة، ولكن لا بالنحو الذي تعني فيه أنها أدنى مرتبة من أي نبوّة كانت، بل
المقصود أنّها أمر شبيه بنبوّة الأنبياء العظام، وهم حازوا على الإمامة أيضاً،
وجمعوا بين النبوّة والإمامة. إنّ الإمامة حالة معنوية. وعند العودة إلى أحاديث الأئمّة في
هذا المجال نجد أنّها ترتكز على مسألة الإنسان بشكل عام. ومن هنا ينبغي أن نحدد رؤيتنا حول
الإنسان، لكي تتضح هذه الفكرة.
تعرفون أنّ النظرة إلى الإنسان في
منطلق الإجابة عن هذا السؤال: الإنسان.. أي موجود هو؟ تفترق إلى رؤيتين،
تصدر الأولى عن تصوّر ينظر إلى الإنسان - كسواه من بقية الحيوانات الأخرى- موجوداً أرضيّاً بالكامل.
إنّ ما يرمي إليه هذا التصور هو
اعتبار الإنسان كائناً مادياً -ليس إلاّ- مع فارق أن هذا الموجود المادي بلغ
في مسار التحولات المادية أعلى صيغة من التكامل يمكن أن تبلغها المادة.
فالحياة وفق هذا التصوّر، سواء في
النباتات، أو في الحيوانات التي تعبّر عن رتبة أعلى من التي سبقتها، أو في الإنسان
حيث تبلغ أرفع مراتبها، ما هي سوى تجلٍّ للتكامل الذي صارت إليه المادة تدريجياً
عبر مسار تحولاتها. النتيجة التي يفضي إليها هذا
التصور، أنه ليس هناك عنصر آخر غير العناصر المادية يدخل في النسيج الوجودي لهذا
الكائن.
والحقيقة أنّنا نعبر عن الجزء
الآخر بالعنصر، لأنّنا لا نملك غير هذه الصيغة في التعبير عنه. كما أنّ أي مظهر خلّاق وعجيب ينطوي
عليه هذا الموجود (كالنشاط الروحي والفعاليات
المعنوية والقوى المبدعة مثلاً) إنّما يصدر عن هذا النسيج المادي
وحده.
جرياً وراء هذا المنطق ينبغي أن
يكون الإنسان الأول في خط الخليقة، هو أدنى أنواع هذا الكائن، ثمّ غدا أكثر تكاملاً
كلما امتد به الشوط وتقدّم إلى الأمام. ولا فرق في هذا المعنى بين أن نأخذ
بنظر الاعتبار تصوّر القدماء للإنسان الأول، الذي يقول بخلق الإنسان من الأرض
مباشرة وبين التصوّر المعاصر الذي يذهب إليه بعض السادة، ويصاغ فرضية تستحقّ
التأمل في حد ذاتها، فحواها أنّ الإنسان الأول كائن منتخب من موجودات أدنى منه
رتبة، ومتحوّل عن طبقة (سلالة) أوطأ، بحيث ينتهي أصله إلى الأرض،
لا أنه منبثق من الأرض مباشرة، كما يذهب لذلك أنصار الاتجاه الأول.
الإنسان
الأوّل في القرآن
عندما نعود إلى المعتقدات الإسلامية
والقرآنية، نجد أنّ نظرتنا للإنسان الأول تصدر من رؤية تضعه في مكان يكون فيه أكثر
تكاملاً من كثير ممّن بعده، بل هو أكثر تكاملاً حتى من الإنسان المعاصر. ففي اللحظة التي وطئ فيها ذاك
الإنسان عالم الوجود، كان يحمل معه عنوان خلافة الله. وبتعبير آخر: جاء ذلك الإنسان في مرتبة النبوّة.
وفي ضوء المنطق الديني، تستحق هذه
النقطة التأمل، لماذا جاء الإنسان الأول على الأرض نبيّاً وحجّة لله، في حين أن
هذا المسار يخضع لقناعة ترى أنّ النبوّة تنبثق كثمرة للخط العادي في مسير التكامل،
لذا يجب أن يوجد الكيان الإنساني بادئ الأمر، ثم يقطع شوطه نحو الرقي والكمال بعد
مراحل يطويها، وبعدئذ يُصار إلى انتخاب أحد أفراده للنبوة والرسالة.
وموضع التأمّل هو هذا التفارق بين
التصوّر الآنف لانبثاق النبوّة والنبيّ، وما عليه المعتقد الإسلامي - القرآني من أن الإنسان الأول جاء
إلى الوجود وهو حجّة ونبيّ.
القرآن الكريم يضع الإنسان الأول
ذاك في مقام شامخ جداً، وهو يقول فيه:﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ
لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ
كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ
هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ البقرة:30-31.
لقد ورد بشأن الإنسان الأول تعبير: ﴿..وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن روحِي..﴾ الحجر:29، وهو يشعر بدخالة عنصر علوي في
التركيب الوجودي لهذا الكائن، غير العناصر المادية. أي أنّ بنية هذا الموجود تختص بشيء
من عند الله، بالإضافة إلى ما ينطوي عليه من موقع الخلافة المشار إليه في قوله
تعالى: ﴿..إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ
خَلِيفَةً..﴾.
وبهذا تنطوي الرؤية القرآنية على
معطىً عظيم إزاء الإنسان، بحيث حمل الإنسان الأول، الذي وطئت قدماه هذا العالم،
عنوان حجّة الله، ونبي الله، والموجود الذي له صلة بعالم الغيب وارتباط مع السماء.
والكلام الصادر عن أئمتنا -حول الإمامة- يرتكز إلى هذا المبدأ في أصالة
الإنسان، وذلك في المعنى الذي يدلّ على أنّ الإنسان الأول في خط الخليقة حمل
المواصفات المشار إليها آنفاً، وسيأتي الإنسان الأخير على الخط، متحلّياً بالخصائص
ذاتها. وبين الإنسان الأخير لن يخلو
العالم الإنساني أبداً من كائن بشري من هذا الطراز، يحمل روح ﴿..إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ
خَلِيفَةً..﴾.
هذا في الأساس، هو المحور في قضية
الإمامة.
يتفرّع على الأصل الآنف أن يكون
سائر أفراد النوع الإنساني وكأنهم في وجودهم فرع لوجود ذلك الإنسان، بحيث إن لم
يوجد مثل ذلك الإنسان، فلن يكون متاحاً -أبداً- وجود بقيّة أفراد النوع البشري.