مشهد «رأس الحسين» عليه السلام في القاهرة
هنا رجل طاعن في السن يذرف دمعة حرّى وهو يناجي صاحب الضريح قضاء حاجة يعلمها الله وحده.. وهناك سيّدات تعلّقن بأستار الضريح راجيات تحقيق أملهنّ في إنجاب طفل حُرمنَ منه، أو عودة ابن غريب اضطرّته الحياة الصعبة للرحيل في بلاد الله.. أما من أقصى الصعيد، فثمّة عجائز أَتين يحملْن بضعَ قروش يوزّعنها وفاءً لنذر تحقّق..
هو مشهد من مقام رأس الإمام الحسين بن علي عليهما السلام في القاهرة والذي يقع على مقربة من الجامع الأزهر، وسوق خان الخليلي الشهير...
واذ يعتقد أهل مصر بوجود الرأس الشريف لحضرة الإمام عليه السلام في هذا المشهد يحيون فيه المناسبات الدينيّة، يَنذرون له النذور ويتبرَّكون بزيارته.
استفدنا في انجاز هذا التحقيق من دراسة للدكتور عادل محمد زيادة بعنوان «عمارة مشاهد آل البيت »والتي نشرت في مجلة العميد الفصلية الصادرة عن العتبة العباسية،ومن كتاب«مزارات أهل البيت عليهم السلام في مصر»للشيخ علي كوراني،وكتاب شرح إحقاق الحق للشيخ المرعشي النجفي.
يعدّ مشهد الإمام الحسين عليه السلام في القاهرة أهمّ المزارات الدينية في مصر، حيث يلجأ الناس إليه للدعاء، وكثيراً ما نرى داخل المسجد(المشهد الشريف) مَن يقوم بإيقاد الشموع لـ«سِيدنا الحسين» بعد شفاء مريض له، أو بعد خروجه من أزْمة ما.
وفي مصر ،إذا ما قيل:« سِيدنا».. فهذا يعني «الحسين»، وإذا ما قيل «مولانا».. فهذا يعني «الحسين»،وإذا ما قيل «الحسين».. فهذا يعني الكثير.. يعني الاستشهاد من أجل الحقّ، وإقرار العدل، وافتداء الجمع بحياة الفرد، لكي يتحوّل الوجود المادّي إلى معنوي ممتدّ، فلا زمن يحدّه، ولا مكان يقيّده..»
نقل الرأس الشريف إلى القاهرة
يقول المقريزي في كتابه (الخطط المقريزيّة) : «نقلت رأس الحسين رضوان الله عليه من عسْقلان إلى القاهرة سنة 548 هـ (1153 م ) وكان الذي وصل بالرأس الشريف من عسْقلان الأمير سيف المملكة«تميم »واليها من قبل الخليفة الفاطميّ »وذلك خوفا من الحملات الصليبية على بلاد الشام ،فبعد محاصرتهم مدينة عسْقلان خشي الفاطميون على الرأس الشريف فنقلوه إلى مصروكان ذلك قبل دخول الصليبيين واستيلائهم على مدينة عسْقلان.
أمر الخليفة الفاطمي بحفْظ الرأس الشريف في أحَد سراديب قصر الزمرد، إلى أن تمّ بناء مشهد لها بالقرب من الجامع الأزهر الشريف وذلك في عام 1154 م / 549 هــ، وهو المشهد الحسيني الموجود حالياً،مواجهاً لجامع الأزهر.
بناء المقام الشريف
تمّ بناء مقام الرأس الشريف بالحجر المنحوت، وهو يضمّ ثلاثة أبواب مبنيّة بالرخام الأبيض، يطلّ أحدها على «خان الخليلي»، ويوجد باب آخر بجوار القبّة ويعرف بــ«الباب الأخضر». في بداية الأمر لم يكن هناك مسجد بجوار الضريح، ولكن الأمراء والحكّام تسابقوا في عمارة الضريح وما حوله حتى تحوّل إلى مسجد وزادوا في مساحته حتّى وصل إلى شكله الحالي. فنمَت عمارته وزَخرفته، وأُضيئت قاعاته وطرقاته وممرّاته، وفُرشت أرضيّاته بالسجاجيد النفيسة.
يوجد الآن داخل الضريح حجرة التابوت التي بها رأس الإمام الحسين عليه السلام، ولقد وضعت الرأس داخل التابوت على كرسي من «الأبنوس»، وهي في برنس أخضر، و حولها نصف أردب من الطّيب لا تنضب رائحته. أمّا التابوت فهو مصنوع من الخشب السّاج الهندي.... حالياً لم يتبقَّ من المشهد الفاطمي للإمام الحسين عليه السلام سوى أحد أبوابه وهو المعروف باسم «الباب الأخضر» ويقع بالقرب من الركن الجنوبي للضريح، وهو يعدّ أقدم أجزاء البناء ويرجع تاريخه إلى تاريخ بناء المشهد الشريف في العهد الفاطمي.
.. الإجابة تحت قبته
على المشهد )الضريح) الشريف نقش من «الأبنوس »المكسوّ بالاستبرق الأحمر المزركش وقبّته ألواحٌ مزخرفة بخطوط مذهّبة. أما في أعلى الباب الذي يلي المنبر فقد نقشت العبارة البليغة التالية : «الشفاء في تربته، والإجابة تحت قبّته، والأئمّة في ذريّته».
أمّا على باب المسجد المؤدّي للمقام الحسيني فعُلّقت لوحة رخاميّة كبيرة كُتب عليها بالذهب حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:« الحسن والحسين منّي، من أحبّهما أحببته، ومن أبغضهما أبغضته».
أما الآية الكريمة: ﴿..قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى..﴾(الشورى:23)، فهي مكتوبة بخط جميل، وحروف خضراء على خلفية من اللون البني، ومحفورة في الجدران...
الروضة والمسجد
لقد وصف الرحالة ابن جبير المشهد الشريف سنة 578هــــــــ/1182م فقال «إنّ هذا المشهد العظيم الشأن الذي بمدينة القاهرة حيث رأس الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام )، هو في تابوت من فضّة مدفون تحت الأرض قد بنيَ عليه بنيان جميل يقصُر الوصف عنه ولا يحيط الإدراك به، مجلّل بأنواع الديباج محفوف بأمثال العمد الكبار شمعاً أبيض..... قد وُضِع أكثره في أنوار فضّة طالعة ومنها مذهّبة، وعُلّقت عليه قناديل فضّة، وحُفّ أعلاه كلّه بأمثال التقاحيح ذهباً في مصنع شبيه الروضة يقيّد الأبصارَ حُسناً وجمالاً، فيه من أنواع الرخام المُجزَّع الغريب الصَّنعة البديع الترصيع ممّا لا يتخيّله المتخيّلون، والمدخل إلى هذه الروضة على مسجد مثالها في التأنّق والغرابة، وحيطانها كلّها رخام على الصفة المذكورة، وعن يمين الروضة المذكورة وشمالها، وهما أيضاً على تلك الصفة بعينها، والأستار البديعة الصنعة من الديباج معلّقة على الجميع».
يتّضح في وصف ابن جبير أنّ مشهد الإمام الحسين عليه السلام كان عبارة عن وحدتين معماريّتين: الوحدة الأولى هي الروضة أو القبّة التي دفن فيها الرأس الشريف، والوحدة الثانية هي المسجد الذي هو متصلٌ بالروضة عن طريق فتحات أبواب وأنّه كان من قسمين عن يمين الروضة وشمالها،وهذا التخطيط يرتبط في ملامحه العامة بمشهد أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام في النجف الأشرف.
تقديس المصريين..«مودة» للرسول صلى الله عليه واله
لقد بلغ تقديس المصريين للمقام الشريف حداً دفع كثيراً من المؤرخين إلى إطلاق اسم «مسجد الحرم المصري »على مقام الرأس الشريف.
يقول الصحفي المصري بجريدة الأهرام، الدكتور نبيل شرف الدين: «هنا يتعامل الناس مع الحسين عليه السلام، كأنّه ما زال حيّاً داخل الضريح.. يتحاكمون إليه في منازعاتهم.. يتحدّثون إليه في كروبهم.. فيما يرسل بعضهم إليه خطابات عبر البريد وقد ذكرت هيئة البريد المصرية أنّه قد يصل إلى المرقد المطهّر في العام الواحد أكثر من مليون رسالة، تُسلّمها لخادم الضريح..ويكون العنوان كالآتي:
اسم المرسل:....
أما المرسل إليه فهو : حضرة الإمام سيد شهداء الجنة الحسين بن علي رضوان الله عليهما.. العنوان: القاهرة... مسجد الإمام الحسين».
المشهد الحسيني في شهر رمضان
في داخل المسجد يُعقد يومياً أكثر من خمس مائة عقد قران، تصل أيّام الخميس والجمعة إلى الألف، حيث يحرص آلاف المصريين على عَقد قرانهم داخل المسجد الحسيني، وبعضهم يأتي من مُدن مصريّة بعيدة، قد تبتعد عن القاهرة أكثر من سبعمائة كيلو متراً.
للحسين عليه السلام، ومسجده، وضريحه، ومشهده، منزلة خاصة في نفوس المصريين.، يَسعون إليه من القرى النائية، والمدن القريبة والبعيدة، تَنتظم حوله الحياة في أجمل مشاهدها، يفيض المكان بالطمأنينة، والسكينة، والرضا.
وفي شهر رمضان يستحيل على المرء أن يجد موضعاً لقدم في الميدان المعروف ب«المشهد الحسيني».ولست مضطراً لأن تدفع نقوداً لكي تفطر، فإذا ما كنت في ميدان الحسين، فإنّ أهل الخير يحملون آلاف الوجبات، ويقدّمونها مجاناً للصائمين وعابري السبيل.. وفي كلّ شهور السنة يحرص كثير من الأغنياء على توزيع الزكاة والصدقات على الناس حول الضريح..
أما في صلاة العيدين فحدّث ولا حرج.. تُغسل الأرض غسلاً.. لا تكاد تميّز بين عامل النظافة الموظّف رسمياً لهذا الغرض، وبين مئات الشباب والشيب، الذين يشمّرون عن سواعدهم ويحملون المقشّات ليكنسوا الميدان.. بعضهم أطبّاء ومهندسون وضبّاط وأساتذة جامعات وتجار أثرياء.. وكلّهم يعتقدون أنّ الله تعالى سيبارك لهم، عندما يتواضعون ويكنسون الميدان، ويرشّون الماء..
...ويتجاوز عدد المصلين المليون شخص كلّ عيد...
أمّا مولد الامام الحسين عليه السلام، فهو من المناسبات التي ينتظرها كثيرون، حيث تتحوّل ساحة المسجد والميدان الذي يطلّ عليه إلى مهرجان عظيم، يكتظّ بحلقات الذّكر والإنشاد الديني وقراءة القرآن.. ويجتذب الزائرين والمريدين، من جميع أنحاء مصر والعالم العربي.
الحسين عليه السلام نور لم ولن ينطفئ:
كلّ هذا في كفة.. وما يعرفهم المصريين ب« مجاذيب »الحسين في كفة أخرى، (المجذوبون، كناية عن أن حبّ سيّد الشهداء عليه السلام استولى عليهم فأذهب ألبابهم)..فهناك حول الضريح تجد عشرات ممّن ارتدوا «الخرقة الصوفية».. وتركوا بيوتهم وأعمالهم واستأنسوا بالحسين عليه السلام.. أقاموا حول الضريح يلتَحفون السماء ويفتَرشون الأرض.. ويصلّون الصلوات الخمس في المسجد.
في المقام الشريف رائحة العطور تغمر زوّار الضريح.. وطوابير الساعين إلى الصلاة في رحابه وزيارة مرقد الرأس الشريف، لا ينقطعون ليلاً أو نهاراً أنوار لا تنطفئ.. ولم تنطفئ منذ قرون..