إعلم أنَّ الله تبارك وتعالى قد خلق بِيَد قدرته في عالَم غيبِ النَّفس وباطنها قوىً لها منافع لا تُعدّ، وما هو مَوْرد بحثنا في هذا المجال ثلاث، وهي: قوّة الوَهْم، وقوّة الغضب، وقوّة الشهوة. ولكلٍّ من هذه القوى الثلاث أصلٌ مع جميع المَلَكات الحسنة والسيّئة، ومنشأ جميع الصُّوَر الغيبيّة الملكوتيّة.
وتفصيل هذا الإجمال هو أنَّ الإنسان كما أنَّ له في هذه الدُّنيا صورة مُلكيّة دنيويّة، خَلقها في كمال الحُسن والجمال والتركيب البديع، تحيَّرت فيها عقول جميع الفلاسفة والعظماء، ولم يستطع عِلم تشريح الأعضاء حتّى الآن أن يُحيط بأسرارها، وقد ميّز الله تعالى الإنسان من بين المخلوقات بحُسن التركيب وجمال المنظر، كذلك للإنسان صورة وشكل مَلكوتي غيبي. وتلك الصورة تابعة لمَلَكات النفس وخُلُق الباطن في عالم ما بعد الموت، سواءً كان البرزخ أم القيامة.
إذا كان خُلُق الإنسان الباطن ومَلَكته وسريرته إنسانيّة، فإنَّ صورته الملكوتيّة أيضاً صورة إنسانيّة، أمّا إذا كانت ملكاته غير المَلَكات الإنسانيّة، فلن تكون صورته إنسانيّة، وسَتَتبع تلك السريرة والمَلَكة.
مثلاً، إذا غَلبت مَلَكة الشهوة والبهيميّة على باطنه، وأصبح حُكم مَلَكة الباطن حُكم البهيمة، فإنَّ صورته المَلكوتيّة صورة إحدى البهائم المتناسبة مع ذلك الخُلُق. وإذا غلبت مَلَكة الغضب والسَبعيّة على باطنه وسريرته، وأصبح حُكم الباطن والسريرة حُكم السَّبع، فإنّ صورته الغيبيّة صورة أحد السّباع. وإذا أصبح الوَهْم والشَّيطنة مَلَكة، وأصبح الباطن الشريك ذا مَلَكات شيطانيّة من قبيل الخدعة، والإحتيال، والنميمة، والغِيبة، تصبح صورة غَيْبه وملكوته صورة أحد الشياطين المناسبة لذلك.
وأحياناً يمكن -وبطريقة التركيب- أن تكون مَلَكتان أو عدّة مَلَكات منشأً للصورة الملكوتيّة، عندها لا تكون الصورة بشكل أيٍّ من الحيوانات، بل تكون صورة غريبة مدهشة وموحشة، لا تُشبهها أيّة صورة في هذا العالم.
رُوي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، يُحشر بعض الناس يوم القيامة على صُوَرٍ تَحسُن عندها صُوَر القِرَدة والخنازير، بل من المُمكن أن تكون للشخص الواحد في ذلك العالم عدّة صُوَر؛ لأنَّ ذلك العالَم ليس كهذا العالَم، الذي لا يمكن فيه للشيء الواحد أن يتَّخذ أكثر من صورة -في آن واحد- وهذا الأمر مطابق للبرهان أيضاً وهو مقرَّر في محلِّه.