القولُ العدل وقبول الأعمال
أدبُ الحديث في الكتاب والسنّة
_____ السيّد مهدي الصدر _____
من وصيّة الإمام الصادق عليه السلام لابن النعمان، قال: «..إنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتعلّمون الصّمتَ، وأنتُم تتعلّمونَ الكلامَ».
مقتطف قيّم من كتاب (أخلاق أهل البيت: ص 161-164) للعلامة السيّد مهدي الصدر رحمه الله، يتناول فضيلة تعويد اللسان على طيب الكلام، وآفة ما خبُث منه وما كان من الفضول، في ضوء الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة.
«شعائر»
من استقرأ أحداث المشاكل الاجتماعية، والأزمات المعكِّرة لصفو المجتمع، علم أنّ منشأها في الأغلب بوادر اللسان، وتبادل المهاترات الباعثة على توتّر العلائق الاجتماعية، وإثارة الضغائن والأحقاد بين أفراد المجتمع. قال تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ..﴾ الإسراء:53.
من أجل ذلك كان صَون اللسان عن تلك القوارص والمباذل، وتعويده على الكلم الطيّب والحديث المهذّب النبيل، ضرورة حازمة يفرضها أدب الكلام، وتقتضيها مصلحة الفرد والمجتمع. فطِيب الحديث، وحسن المقال، من سِمات النّبل والكمال، ودواعي التقدير والإعزاز، وعوامل الظفر والنجاح.
وقد دعت الشريعة الإسلامية إلى التحلّي بأدب الحديث، وطيب القول، بصنوف الآيات والأخبار، وركّزت على ذلك تركيزاً متواصلاً إشاعةً للسلام الاجتماعي، وتعزيزاً لأواصر المجتمع.
قال تعالى: ﴿..وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا..﴾ البقرة:83.
وقال عزّ وجلّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ الأحزاب:70.
وجاء رجل إلى النبيّ صلّى اللّه عليه وآله، فقال: «يَا رَسُولَ الله أوْصِنِي. فَقَالَ: احفَظْ لِسَانَكَ...وهل يَكُبُّ النَّاسَ علَى مَناخِرِهِم في النَّارِ إِلَّا حَصَائِدُ أَلسِنَتِهِم».
* وقال الإمام زين العابدين عليه السلام: «القَولُ الحَسَنُ يُثرِي المالَ، ويُنمِي الرِّزقَ، ويُنسِئُ فِي الأَجَلِ، ويُدْخِلُ الجنّة».
وقال الصادق عليه السلام لعبّاد بن كثير البَصري: «وَيْحَكَ يَا عَبَّادُ، غَرَّكَ أَنْ عَفَّ بَطْنُكَ وفَرْجُكَ، إِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ يَقُولُ فِي كِتَابِه: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ...﴾، اعلَمْ أَنَّه لَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنكَ شَيْئاً حَتَّى تَقُولَ قَولاً عَدلاً».
وقال رجل لأبي الحسن الكاظم عليه السلام: «أَوْصِنِي. فَقَالَ لَه: احفَظْ لِسانكَ تُعَزَّ، ولا تُمكِّنِ الناسَ من قِيادِك فَتُذِلَّ رَقَبتَك».
وعنه عليه السلام: «قال رسولُ الله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: رَحِمَ اللهُ عبداً قال خَيراً فَغَنِمَ، أو سَكَتَ عن سُوءٍ فَسَلِم».
ونستجلي من تلك النصوص الموجِّهة ضرورة التمّسك بأدب الحديث، وصَون اللسان عن البذاء، وتعويده على الكلم الطيّب، والقول الحسن. فللكلام العفيف النبيل حلاوته ووقعه في نفوس الأصدقاء والأعداء معاً، ففي الأصدقاء ينمّي الحب، ويستديم الودّ، ويمنع نزغ الشيطان في إفساد علائق الصداقة والمودة. وفي الأعداء يلطّف مشاعر العداء، ويخفّف من إساءتهم وكيدهم. لذلك نجد العظماء يرتاضون على ضبط ألسنتهم، وصيانتها من العثرات والفلتات.
كما تختم على ذهبك
ليس شيء أدلّ على غباء الإنسان وحماقته من الثرثرة، وفضول القول، وبذاءة اللسان. فقد مرّ أمير المؤمنين عليٌّ عليه السلام، برجلٍ يتكلّم بفضول الكلام، فوقف عليه فقال: «يا هذا، إنّكَ تُمْلي على حافِظَيْكَ كتاباً إلى رَبِّكَ، فتَكَلّم بِما يَعنيكَ، ودعْ ما لا يَعنيك».
وقال عليه السلام: «..مَنْ كَثُرَ كَلَامُه كَثُرَ خَطَؤُه، ومَنْ كَثُرَ خَطَؤُه قَلَّ حَيَاؤُه، ومَنْ قَلَّ حَيَاؤُه قَلَّ وَرَعُه، ومَنْ قَلَّ وَرَعُه مَاتَ قَلْبُه، ومَنْ مَاتَ قَلْبُه دَخَلَ النَّارَ».
وعن سليمان بن مهران، قال: «دخلتُ على الصادق عليه السلام وعنده نَفَرٌ من الشّيعة، فسَمعتُه وهو يقول: مَعاشِرَ الشّيعة... قولوا للنّاسِ حُسناً، واحفَظوا ألسنَتَكُم، وكُفّوها عن الفُضولِ وقَبيحِ القَول».
وتوقّياً من بوادر اللسان ومآسيه الخطيرة، فقد حثّت النصوص على الصمت، وعفّة اللسان، ليأمَنَ المرء كبوته وعثراته المدمّرة:
عن الباقر عليه السلام، قال: «كانَ أَبو ذرٍّ رحمَه الله، يقولُ: يَا مُبتَغيَ العِلمِ، إِنَّ هذا اللسانَ مِفتاحُ خَيرٍ ومِفتاحُ شرٍّ؛ فاختِمْ على لِسانِكَ كما تَختِمُ على ذهَبِكَ ووَرِقِكَ».
وقال الإمام الصادق عليه السلام: «الصّمتُ كَنزٌ وافِرٌ، وزَينُ الحلِيمِ، وستْرُ الجاهل».