رضى الله ورسوله منوطٌ برضاها
الزهراء مَعْلمُ الحقّ في ظلمات الفتن
العلامة الشيخ محمّد مهدي الآصفي رحمه الله
كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يرى الفتنة من بعده نازلة، لذا حرص أبلغ الحرص أن يبيّن للناس معالم الحقّ والهداية، حتى يتمسّكوا بها ولا يسقطوا في هذه الفتنة.
وقد جعل صلّى الله عليه وآله، كما أمره الله تعالى، من أهل بيته المعْلَم الثاني بعد القرآن الكريم في هذه الفتنة، في حديث اشتُهر وصحّ عند المسلمين جميعاً، وهو حديث الثّقلين، وقد تواترت روايته عن رسول الله صلّى الله عليه وآله واستفاضت، وصحّت طائفة كبيرة من طُرقه.
ومن طرقه: ما رواه الترمذيّ في (الصحيح): عن زيد بن أرقم، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إني تاركٌ فيكم ما إنْ تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر؛ كتابُ الله حبلٌ ممدودٌ من السماء إلى الأرض وعِترتي أهلَ بيتي، ولن يفترقا حتّى يَرِدا عَلَيّ الحوض، فانظروا كيف تُخلّفوني فيهما».
(صحيح الترمذي، كتاب المناقب: 3/ 200-201)
وخصّ أميرَ المؤمنين عليّاً عليه السلام بذلك، فجعله مَعْلَماً من أكبر المعالم وأصحّها من بعده، وقد صحّت فيه روايات لا يُمكن الخدش والتشكيك فيها، منها:
- عن أمّ سلَمة، قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «عليٌّ مع القرآن، والقرآنُ مع عليّ، لن يفترقا حتّى يرِدا عَلَيّ الحوض». صحّحه الحاكم على شرط الشيخين وصحّحه الذهبي.
(الحاكم في مستدرك الصحيحين: 3/134)
وفاطمة الزهراء عليها السلام ابنة رسول الله صلّى الله عليه وآله في مقدّمة معالم الحقّ، وأعلام الهدى. والذي يقرأ النصوص الواردة فيها، من الكتاب العزيز وما صحّ من سُنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله ينتهي الى نتيجة حتمية لا يُمكن التشكيك فيها، وهي حجّية كلمات الزهراء عليها السلام ومواقفها، ورضاها، واعتراضها، وغضبها، وسَخَطها. بمعنى أنّ الله تعالى جعل حديثها وكلامها ومواقفها حجّة على المسلمين.
ومن النصوص المباشرة التي تدلّ على هذه الحقيقة وتثبتها، نذكر نموذجاً واحداً من كتاب الله تعالى، ونموذجين مما صحّ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، من الرواية في فاطمة الزهراء عليها السلام.
يقول الله تعالى: ﴿..إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾. [الأحزاب:33]
وقد استعرضتُ الروايات الواردة في تفسير هذه الآية، والتي روى طائفة منها الطبري في (تفسيره)، والسيوطي في (الدرّ المنثور)، وابن كثير في (التفسير)، وغيرهم، فوجدت أنّ الروايات الحاصرة لأهل البيت -الذين أذهب الله عنهم الرجس- في الخمسة من أصحاب الكساء، لا غير، (رسول الله، وعليّ، وفاطمة، والحسن، والحسين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) كثيرة، وفيها روايات صِحاح لا يمكن لعالِم ومُحدِّث يحترم علمه أن يتجاوزها.
إنّ أقل ما تدل عليه هذه الآية هو أنّ هؤلاء الأربعة الذين ضمّهم النبيّ صلّى الله عليه وآله إلى نفسه تحت الكساء، عند نزول الآية، وقال: «اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي»، لا يقفون موقفاً باطلاً قطّ؛ فإنّ الباطل أبرز مصاديق الرِّجس، والحقّ أبرز مصاديق الطُّهر. . ولن يدخل أهلُ البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس في موقف باطل، ولن يميلوا ولن ينزعوا إلى باطل قطّ، حاشاهم.
فإذا عمّت الفتنة الناس، والتبس الحقّ بالباطل، فإنّ في موقف أهل البيت، ورضاهم وغضبهم وإقبالهم وإعراضهم تمييزاً للحقّ عن الباطل.
وقد تصدّرت الآية الكريمة بـ«إنّما»، وهي من أقوى أدوات الحصر في اللغة العربية، فيكون معنى الآية الكريمة: إنّ إرادة الله فيكم، أهلَ البيت، هو التطهير من كلّ رِجْسٍ ودنَس، ولن يكون لله تعالى مشيئة أخرى فيكم غير ذلك.
والروايات التي تشير إلى أن موضع الزهراء عليها السلام في الفِتن السياسية والدينية هو «المعْلَم» و«الميزان» للحقّ كثيرة، وسوف نقتصر منها على نموذجين فقط، وهما الروايات الدالّة على:
أ) أن الله تعالى يغضبُ لغضب فاطمة، ويرضى لرضاها:
روى الحاكم النيسابوريّ بسنده، عن عليّ عليه السلام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لفاطمة: «إن اللهَ يغضبُ لِغضبِك ويَرضى لرضاكِ». (مستدرك الصحيحين للحاكم: 3/ 153).
وبهذا المضمون روايات أخرى، اقتصرنا منها على ما ذكرناه.
ب) إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يغضبُ لغضب فاطمة ويرضى لرضاها:
وردت بهذا المضمون أحاديث كثيرة متظافرة، فيها الكثير من الصحاح، نذكر منها:
روى البخاري في كتاب «بدء الخلق» في باب مناقب قرابة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ومناقب فاطمة عليها السلام، بسنده عن المسوّر بن مخرمة، أن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: «فاطمة بضعةٌ منّي، فمَن أغضبها أغضبني». (صحيح البخاري: 4/ 210).
ومن يتأمّل هذه الروايات، يجد من دون جهد ومعاناة ولا تكلّف: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يُشْهر في هذه الأحاديث ابنته فاطمة عليها السلام معياراً لتمييز الحقّ عن الباطل، ومَعلماً للهداية في ظروف الفتن السياسية الكبرى التي تحدث بعد وفاته. فإنّ كلمات «الرّضى» و«الغضب» و«الأذى» الواردة في هذه النصوص من شؤون الصراعات السياسية، وتقاطع الولاءات والبراءات، وتقاطع الحب والبغض.
ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يعلن أنّ رضى الزهراء عليها السلام وغضبها علامة ومَعْلم ومعيار للحقّ والباطل في وسط هذا الصراع، عندما تشتبك الخطوط، ويتداخل الحقّ والباطل، ويلتبس الأمر على الناس في الحقّ والباطل.
وفي مثل هذه الظروف إذا أراد الناس أن يعرفوا رضى الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم وغضبهما، فما عليهم إلاّ أن يلتمسوا أين تضع الزهراء عليها السلام رضاها وغضبها، فإنها لا تحيد عن الحقّ، ولا تميل إلى الباطل، ورضاها من رضى الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وآله، وغضبها من غضب الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وآله.
عمود راية القائم
عن أبي حمزة الثماليّ، قال: «قال لي أبو جعفر الباقر عليه السلام:
يا ثابت، كأني بقائمِ أهلِ بيتي قد أشرفَ على نجفِكم هذا -وأومأ بيده إلى ناحية الكوفة- فإذا هو أشرفَ على نجفِكم نشرَ رايةَ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإذا هو نشرَها انحطّت عليه ملائكةُ بدر .
قلت: وما راية رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟
قال: عمودُها من عُمُد عرشِ الله ورحمتِه، وسائرُها من نصر الله، لا يهوي بها إلى شيءٍ إلا أهلكَه الله.
قلت: فمخبوءةٌ عندَكم حتّى يقوم القائم عليه السلام فيَجِدُها، أم يُؤتى بها؟
قال: لا، بل يُؤتى بها.
قلت: مَن يأتيه بها؟ قال: جبرئيلُ عليه السلام».
(غَيبة النعماني: ص 321)