كربلاء.. ليلة القدر الثانية
يجسّد السياق الكربلائي موقع كربلاء من حركة الرسالات السماوية أبرز المحطات الفاصلة في مسيرة الأنبياء، بل في مسيرة سيّدهم صلّى الله عليه وآله، وليس وصول يزيد إلى موقع التحكّم بمصائر المسلمين إلّا استمراراً متقدّماً جدّاً لإجلاب الكفر القرشيّ الأمويّ بخيله ورَجِلِه في بدر وأحُد والأحزاب وغيرها، من الغزوات التي كان الهدف منها بصريح القرآن الكريم ﴿..لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ..﴾ الصف:8.
ولئن كانت بين حنين وفتح مكّة وما بعده، جولات للكفر وصولات، إلا أنّ جولة معاوية ويزيد كانت نتاج كلّ ما سبق، وبداية إعلان القضاء على الإسلام، ظناً منهما باكتمال طمس معالم التنزيل.
ولئن جسّدت الجهود النبويّة ما بين البعثة والوفاة، مرحلة صدّ كلّ الهجمات التي كانت تهدف إلى إطفاء نور الله تعالى، فقد جسّدت كربلاء -وهي المحمّدية بامتياز تخطيطاً ورعاية وتنفيذاً- الإعجاز المحمّديّ الإلهيّ، ولكن هذه المرة لا في اجتثاث أذرع القوّة لأخطار التحريف، كما كانت مهمّة أمير المؤمنين عليه السلام في مرحلة خلافته المباشرة، ولا في إتاحة الفرصة للأمّة لاكتشاف زيف هؤلاء الأمويّين المتباكين على الإسلام، وكشف زيف شيخهم وشيطانهم العاتي معاوية، كما كانت مهمّة السبط الأول الإمام الحسن عليه السلام، بل في اجتثاث القدرة على التحريف، وإعلان دفن كلّ المحاولات لطمس معالم الإسلام المحمّديّ وإلى الأبد، لتحقيق تحصين الأمّة من كل مخاطر المستقبل التي لا يقاس بها شيء من كلّ المخاطر الصغيرة -رغم خطورتها- التي حفل بها تاريخ البلاط «الإسلامي!»، وما يزال.
كربلاء هي ليلة القدر الثانية التي حفظ بها الله تعالى القرآن الكريم، الذي نزل على رسول الله صلّى الله عليه وآله في ليلة القدر، بل كربلاء هي القدر المحمّديّ الذي كان له موعدان متميّزان: فجر البعثة، ويوم العاشر من محرّم.
هذا بعض ما أراده المصطفى الحبيب صلّى الله عليه وآله للأمّة أن تعيه قلوبها بعد العقول، حين دعا إلى التعامل مع سبطَيه باعتبار كلّ منهما محمّد عصره، وخصّ سبطه الثاني بحديث: «حسين منّي وأنا مِن حسين»!
مدّخرون لكربلاء
تقتضي فرادة السياق الكربلائي، أن يكون لكلّ نبيّ مع كربلاء حديث ذو شجون، وهو ما تؤكّده الروايات. ومن البديهيّ أن ترتفع وتيرة اهتمام الأنبياء بكربلاء -الأنبياء جميعاً- كلّما اقتربت اللحظة الكربلائية، فكيف تجلّت كربلاء في سيرة المصطفى الحبيب صلّى الله عليه وآله والحديث الشريف؟
غنيٌّ عن البيان أن كربلاء كانت مفصلاً بارزاً في السيرة وفي الخطاب النبويّين، إلّا أنّ ما تمسّ الحاجة إلى استلهام دروسه هو اهتمام الرسول الأعظم بأصحاب الإمام الحسين عليه السلام، وهو محور بالغ الأثر في فهم أبعاد كربلاء.
عن أبي جعفر (الإمام الباقر) عليه السلام، قال:
«قال الحسين بن عليّ عليهما السلام لأصحابه قبل أن يُقتَل: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال: يا بنيّ، إنك ستُساق إلى العراق، وهي أرضٌ قد التقى بها النبيّون، وأوصياء النبيّين، وهي أرض تدعى (عمورا)، وإنك تستشهَد بها ويستشهَد معك جماعة من أصحابك لا يجدون ألم مسّ الحديد، وتلا: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾. تكون الحرب عليك وعليهم برداً وسلاماً. فأبشِروا: فوَاللهِ لئن قتلونا، فإنّا نرِدُ على نبيِّنا..».
وأورد السيّد البحراني عن ابن شهرآشوب قوله:
«وعُنِّف ابن عباس على تركه الحسين عليه السلام، فقال: إنّ أصحاب الحسين عليه السلام، لم ينقصوا رجلاً ولم يزيدوا رجلاً؛ نعرفهم بأسمائهم من قبل شهودهم».
أضاف السيّد: «وقال محمّد بن الحنفية: وإنّ أصحابه عندنا لمكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم».
لم يكتفِ الرسول صلّى الله عليه وآله بالحديث عمّا يجري في كربلاء، ولا بإحضار تربتها وترك بعضها وديعةً ليُعرف من خلالها موعد شهادة سيّد الشهداء عليه السلام، ولا اكتفى صلّى الله عليه وآله بالإشارة إلى بعض الملامح الأساسية الهامّة في كربلاء، من قبيل تكنيته للإمام الحسين عليه السلام باسم أصغر أبنائه، حيث قال صلّى الله عليه وآله يوم ولادته: «عزيزٌ عليَّ أبا عبد الله»، بل إنّه صلّى الله عليه وآله ترك بركاته النبويّة حتى على التفاصيل. من ذلك أنّه صلّى الله عليه وآله، حثّ جمعاً بينهم أحد أصحاب الحسين، على نصرته عليه السلام:
«.. قال البخاري: أنس بن الحارث قُتل مع الحسين بن عليّ. سمع النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم... (سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم يقول: إنّ ابني هذا -يعني الحسين- يُقتَل بأرضٍ يقال لها كربلاء، فمَن شهِدَ ذلك منكم فلينصره)... فخرج أنس بن الحارث إلى كربلاء فقُتل بها مع الحسين...».
تمهيد الإمام عليّ عليه السلام لكربلاء
تؤكد مصادر الفريقين، أن الإمام عليّاً عليه السلام تصدّى كذلك للتمهيد لكربلاء، والروايات في هذا الباب متعدّدة. ومنها قوله عليه السلام: «وخير الخَلق وسيّدهم بعد الحسن ابني؛ أخوه الحسين المظلوم بعد أخيه، المقتول في أرض كرب وبلا: ألا وإنّ أصحابه من سادات الشهداء يوم القيامة».
وفي خبر ورود عليّ إلى كربلا، قال عليه السلام: «مناخ ركاب ومصارع شهداء، لا يسبقهم مَن كان قبلهم، ولا يلحقهم مَن أتى بعدهم».
وعن الإمام الصادق عليه السلام: «مرّ أمير المؤمنين عليه السلام بكربلاء في أناس من أصحابه، فلما مرّ بها اغرورقت عيناه بالبكاء، ثمّ قال: هذا مناخ ركابهم وهذا مُلقى رحالهم، وهنا تهرق دماؤهم، طوبى لكِ من تربة عليكِ تهرق دماء الأحبّة».
تمهيد الصحابة لكربلاء
بل تؤكّد بعض النصوص أنّ من الصحابة مَن تصدّى للحثّ على نصرة سيّد الشهداء عليه السلام، قبل كربلاء بزمن طويل:
أورد الطبري عن الشهيد زهير بن القين عندما أراد اللحاق بسيّد الشهداء عليه السلام، قوله لأصحابه:
«مَن أحبّ منكم أن يتبعني وإلّا فإنه آخر العهد، إني سأحدّثكم حديثاً: غزونا (بَلَنْجَر) ففتح الله علينا وأصبنا غنائم. فقال لنا سلمان الباهليّ: (أفرحتم بما فتح الله عليكم وأصبتم من المغانم؟ فقلنا نعم. فقال لنا: إذا أدركتم شباب آل محمّد، فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معهم بما أصبتم من الغنائم). فأمّا أنا فإنّي أستودعكم الله... ثم والله ما زال في أوّل القوم حتّى قُتل».
ويشير ما تقدّم إلى أنّ من الخطوط المستقبلية العامة التي ركّز عليها رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأراد من الصحابة أن يواصلوا المسار فيه، خطّ التمهيد لكربلاء.
كما روي عن سلمان المحمّدي (الفارسي) رضوان الله تعالى عليه تأكيده على ما يجري في كربلاء عموماً، فعن المسيَّب بن نَجَبَة الفزاري أنّه قال: «لمّا أتانا سلمان الفارسي قادماً، تلقيّناه في من تلقّاه، فسار حتّى انتهى إلى كربلا، فقال: ما تسَمُّون هذه؟ قالوا: كربلا، فقال: هذه مصارع إخواني، هذا موضع رحالهم، وهذا مناخ ركابهم، وهذا مهراق دمائهم، يُقتل بها خير الأوّلين، ويُقتل بها خير الآخرين...».