تختلف النظرة إلى المغيبات باختلاف الثقافة التي يصدر منها المتصدي لإبداء الرأي، ويمكن حصرالموقف بثلاثة آراء: الأول: شطب المغيبات، بادعاء التناقض بينها وبين العقل. الثاني: قبول المغيبات دون تثبت.
بسم الله الرحمن الرحيم
* مرجعية العقل:
تختلف النظرة إلى المغيبات باختلاف الثقافة التي يصدر منها المتصدي لإبداء الرأي، ويمكن حصرالموقف بثلاثة آراء:
الأول: شطب المغيبات، بادعاء التناقض بينها وبين العقل.
الثاني: قبول المغيبات دون تثبت.
الثالث: اعتبار مبدأ الغيبيات سليماً ومنهجياً بكل معنى الكلمة، إلا أن الأصل في النفي أو الإثبات هو التثبت ودراسة الحالة بدقة، والحكم عليها تبعاً للنتيجة.
ومن الواضح بطلان الرأيين الأول والثاني، وسلامة الرأي الثالث.
كما أن من الواضح التفاعل سلباً بين الرأيين الباطلين، بمعنى أن الذين يشطبون المغيبات تأثروا سلباً بأولئك الذي يقبلون كل مايصاغ بطريقة غيبية، ولو كان حديث خرافة، كما أن هؤلاء يستفزهم إنكار أولئك لكل مايشم منه رائحة الغيب، فيبادرون إلى التوسع اللامنطقي في القبول دون تثبت كما تقدم.
والنقطة المركزية التي تنشأ منها وجهات النظر المتعددة هي "ماقبل الثقافة" أي المكونات المعرفية التي تم اتخاذ القرار باعتمادها لإنتاج الثقافة، سواء كان هذا القرار وليد مدرسة الحياة، أو الإنتماء الدراسي إلى هذا الإتجاه الفكري أو ذاك.
ولدى التأمل في هذه المكونات يتضح أنها على قسمين: الحس والعقل، باعتبار أن بوابة الإنسان إلى العالم الخارجي هي حواسه، ولكنه تارة يخضع مايصله عبرها للعقل، وتارة يكتفي بانطباعه الذي يكونه دون مرجعية العقل، مما يجعله من مدرسة مرجعية الحس، ومن اعتاد أن يتعامل مع الحس كمصدر للمعرفة سيجد نفسه تلقائيا مشدوداً إلى الطين بألف وثاق، بحيث لايمكنه تخيل وجود آخر خارج الحس وحدوده.
ومن اعتاد أن يفكر بموضوعية ويعمل عقله، مدركاً أن الحس قد يخطيء وبالتالي لابد له من مرجعية، ولا مرجعية مباشرة في حركة الفكر لغير العقل، أمكنه أن يوقن بوجود عوالم أخرى وراء الحس وفوقه ليس العقل إلا الباب الذي يفتح بصيرته عليها ويقود خطاه في التعامل معها.
وهذه العوالم الأخرى من السعة والإمتداد، بحيث لا تشكل الدنيا بل وكل عالم المادة الذي يمكن للحس أن يتعامل معه ولو بالخطأ، إلا ذرة صغيرة في صحراء مترامية الأطراف.
وبديهي أن من يقرر أن يفكر بعينه وأذنه وسائر الحواس، لايمكنه أن يدرك من هذه العوالم شيئاً، وهي عنده وهم وخيال.
* إلغاء العقل
وهذا يعني أن إلغاء العقل ليس إلا قراراً بسجن النفس في زنزانة المادة، التي لايمكنها أن تقدم له تفسيراً لوجوده، فيمضي عمره في المعيشة الضنك:
فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى. طه 123- 126
والمراد بالذكر هو الهدى الإلهي الذي لايمكن أن يتعامل معه إلا أولو الألباب " أفمن يعلم أن ما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى، إنما يتذكر أولو الألباب". الرعد 19
* عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : العقل نور خلقه الله للإنسان، وجعله يضئ على القلب، ليعرف به الفرق بين المشاهدات من المغيبات.[1]
* وعن أمير المؤمنين عليه السلام: لا دين لمن لا عقل له.[2]
* وعن الإمام الصادق عليه السلام: من كان عاقلاً كان له دين، ومن كان له دين دخل الجنة.[3]
وما تقدم هو من حيث المبدأ الفارق بين المؤمن وغيره، فالمؤمن الحقيقي هو المؤمن بالغيب الذي يتعامل معه بعقله ولا يسمح لحواسه أن تلغي العقل والغيب معاً بإلغاء العقل، بل يبقي هذه الحواس في حدودها الطبيعية وسائل نقل للمدركات بالحس إلى العقل ليتخذ فيها قراره النهائي.
ومن هنا كان الإيمان بالغيب عصب الإيمان: ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين. الذين يؤمنون بالغيب. البقرة 2- 3
والإيمان بالغيب غير العلم بالغيب، فباستطاعة كل إنسان أن يعتقد بالدليل والبرهان بوجود عوالم غيب، إلا أنه ليس باستطاعة أحد من الناس أن يعلم الغيب إلا إذا علمه العالم به سبحانه:
* عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا * ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا الجن 26- 28
* وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم [ آل عمران 179 ] *
فالعالم بالغيب هو الله تعالى إلا أنه يطلع على غيبه من ارتضى.
والعلم بالغيب أيضاً غير الإنفتاح على الغيب والتواصل مع بعض مظاهره وحالاته، ولئن كان علم الناس بالغيب مختصاً بدائرة تبليغ رسالة الله تعالى، فإن التواصل مع الغيب ليس مختصاً بهذه الدائرة:
* كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب. آل عمران 37
* وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين * يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين * ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين * ويكلم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين * قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون * ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل آل عمران 48.
* وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين. القصص 7 .
* إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى * أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني طه38- 39 *
بالإمكان لغير النبي إذاً أن يتواصل مع عالم الغيب فتكلمه الملائكة، وتعلمه مالا يعلم، وتأتيه برزق من عند الله.
ولادليل على انحصار ذلك بعصر دون غيره، بل هو مبدأ عام، يؤكده وقوع الغيبيات اليقينية في مختلف المراحل والعصور.
وهو أمر شديد الوضوح لدى المؤمنين، لايختلف فيه اثنان.
ولكن وبالرغم من شدة هذا الوضوح، فقد استحكمت الشبهة في مقابل البديهة لدى من لايحسن الرجوع إلى الثوابت العقلية لينطلق في التفكير على أساسها.
وهم على قسمين:
1- غير المؤمنين، الذين لم يخل منهم دهر ولابلد. وأمرهم أهون من غيرهم.
2- و"المؤمنون!" الذين أنتجت ثقافتهم الإتجاهات الفكرية المادية، أو تحكمت بمفاصلها والناصية فإذا بهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض.
* بداية اللوثة المعاصرة:
بدأت اللوثة بنسختها المعاصرة مع بدء انتشار الثقافة الغربية في بلادنا، إثر ظهور علامات الضعف في جسم "الرجل المريض" وصولاً إلى إخضاع منطقتنا للسيطرة الإستعمارية، وعززها بدء انتشار الثقافة الشيوعية "الشرقية" المادية، حين حمل الجهل بعضنا على الإعتقاد بأنه لاخلاص في مواجهة الرأسمالية، إلا بالإرتماء في أحضان الإشتراكية أو الشيوعية.
وهكذا أصبحت بلادنا والغالب من مكونات ثقافتها بين فكي التمساح المادي الذي ولغ في التهام العقول، فكان التيه المادي الذي لم يتح لنا فرصة النجاة منه إلا مع طلوع الفجر الخميني.
وبديهي أن فرصة النجاة غير تحقق النجاة، إنها الفرصة السانحة لمن قرر أن يفكر ويعيد صياغة ثقافته على أسس عقلية علمية.
والمؤسف أن ضحايا موجة الإفتراس المادي كانوا من الكثرة بحيث إن مثل هذا القرار لم يعد في متناول الأكثرين بيسر.
لقد شملت الموجة المادية طيفاً لايستهان به من المتصدين لنشر الثقافة الإسلامية فإذا بهم يتحدثون بلغة الغرب الرأسمالي، والشرق المادي، ويصرون على شطب كل مايلوح منه الغيب والمغيبات، مما جعل المعروض من الفكر والثقافة الإسلاميين - في الغالب- هو ماينسجم مع روح العصر المادية جملة وتفصيلاً.
لقد عمد هؤلاء إلى الإنتقاء، وجعلوا فهمهم المصفاة التي تقبل مايقبله مزاجهم الهجين الذي هو وليد البيئة التي نشأوا فيها ولم يقرروا صياغتها في ضوء حقائق العقل والتوحيد.
وحيث إن الكثيرين من هؤلاء يتحكمون بمفاصل التبليغ ونشر الثقافة، فالنتيجة الطبيعية هي قمع كل تفسير غيبي، ومحاربة كل مايمت إلى المغيبات بأدنى صلة، مما جعل الناس عموماً في حيرة من أمرهم: يقرؤون القرآن الكريم، فيجدون منطقه الغيب والإيمان به، ويسمعون السيرة، فإذا الملائكة حاضرون في بدر، وإذا المبدأ العام للنصر غيبي: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله. ويتابعون سير الأولياء والعلماء فيرونها تطفح بالغيب والمغيبات، ويتأملون واقع الحال في المقاومة الإسلامية فإذا الإمداد الغيبي للمجاهدين ملء العقل والوجدان، ويستمعون إلى أكثر الدروس والخطب، فإذا الطابع مادي حتى العظم!
* المشهد العالمي الراهن:
ولدى محاولة رسم ملامح المشهد الراهن في الموقف من الغيب نجد المفارقات التالية:
1- أن كل الوجود المادي، من إنسان وسائر ماهو طوع يديه أو قابل للتطويع، هو من حيث مصدر الوجود، نتاج غيبي من وجهة نظر الجميع- عملياً وبقطع النظر عما يقال - فالموحد، والمثلث، وغيرهما، من المنتمين إلى دين، لايصدرون إلا من ذلك. والمادي بأقسامه ملحداً كان أم شاكاً أم عبثياً، لايقدم دليلاً يلغي مرجعية الخالق، أو يثيت مرجعية أخرى، مما يعني تعزيز هذه المرجعية، لأن العجز المزمن عبر القرون عن تقديم الدليل، قرينة على صحة الدليل المضاد.
* يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون [ الروم 7 ]
* أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون * هيهات هيهات لما توعدون * إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين [ المؤمنون 35- 37 ] *
* بل قالوا مثل ما قال الأولون * قالوا أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون * لقد وُعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين [ المؤمنون81- 83 ] *
* بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون [ النمل 66 ] *
2- أن الغالب في هذا النتاج الغيبي، من حيث بقاؤه والدوام، استمداده الغيب، فإذا استمراره أيضاً كوجوده رهن الغيب. من يمد الشمس بالتوهج والطاقة؟ ومن يمد الأرض بالماء والهواء؟ ومن ينبت الزرع والغراس والشجر؟ ويديرحركة الفلك والليل والنهار؟
من يرعى نظام بقاء الإنسان ويؤمن حاجاته في بعد الجسد، وعمق الروح؟
من أين جاءت القدرة على التنفس والنطق؟ واليقظة والنوم؟ والحركة والسكون؟
ولماذا يعجز كل البشر عن الحيلولة دون موت فرد واحد، بل عن منع غزو الشيب لشعرة؟
* قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون * قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون * قل من بيده ملكوت كل شئ وهو يجير ولايجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل فأنى تسحرون [ المؤمنون [ مؤمنون 84-89 ] *
* هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون * ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والاعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون * وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون * وما ذرأ لكم في الارض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون. [ النحل10- 13]
وإذا أضفنا أن قانون السببية، أو العلية يقيني لدى الجميع، تكون صورة ماتقدم أشد وضوحاً.
* أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يُخلقون * ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم يَنصرون [ الأعراف 191 -192 ]
3- أن الغالب على الناس في أربع رياح الأرض، التصريح بالإيمان بالغيب، مع فوارق هائلة ومن الثرى إلى الثريا، في فهم حقيقة هذا الغيب، ومدى عقلانية التعامل معه.
4- أن فئة من هؤلاء الناس في كل عصر وبلد، يصرحون بعدم إيمانهم بالغيب، ومنهم من لاينسجم عملياً مع مايجاهر به.
5- أن الذين لايؤمنون بالغيب، يكشفون تناقضهم حين يكشفون مايثبت إيمانهم بالغيب، و يؤكدون إيمانهم بالعقل، والعقل كله غيب. المادة هي الدماغ، أما عملية الفكر والموازين الكلية التي تتحرك وفقها فليست من عالم المادة والشهادة بشيء، لامن قريب ولا من بعيد.
6- أن الجو العام والمناخ الفكري الذي يفرض خصائصه، وينشر ثقافته القائمة على التناقض، هو "منطق" الأقلية، العاجز عن تقديم دليل عقلي على مدعاه، فإذا مراكز التعليم، ووسائل الإعلام، ومراكز السلطة والقرار، مستنفرة لتعميم هذا المنحى.
7- ورغم ذلك كله فإن كل ما أمكن لهؤلاء إنجازه لايتعدى حدود الضوضاء والجلبة، والفرض بقوة الحديد والنار، وسطوة الغرائز والدولار، وما يزال أكثر الناس في الغرب والشرق والشمال والجنوب، يؤمنون بأن السائد لايعدو كونه استعماراً فكرياً تمكن من احتلال الجزء الأكبر من " عاصمة" التوجيه وإصدار الأوامر.
لقد نجح هذا المد المنكر للعقل وكل غيب، في كم الأفواه، ومصادرة حرية الرأي والتعبير عنه، ولكنه لم ينجح في صوغ رؤية، تستند إلى دليل، ليكتب لها البقاء:
* وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين [ الأنعام 29 ]
ولانعدام الدليل، كانت النتيجة أن الحاضر الأقوى في المكونات الثقافية للشعوب بلا استثناء هو الإيمان بالغيب، بما يجسده من عقلانية هي صلب الفطرة التي هي الركائز العقلية في الإنسان.
* مكمن الغموض:
وتعني هذه المفارقات بجلاء، أن الغيب الذي يفترض أن يكون ملء الوعي والحياة، أصبح مغيباً عن دائرة الوعي وفلسفة الحياة، والنتيجة الحتمية لذلك اختلال كل الصور، وهشاشة كل القناعات.
كما هو عالم المجانين المبني على التكر للعقل، هو عالم هؤلاء المنكرين للغيب، الذين فرضوا هيمنة تجبرهم على نظاق واسع، فغدا أكثر المؤمنين بالغيب يخجلون بنسبتهم إليه، رغم عميق انشدادهم، الذي شكل الفارق بين عالمهم وعالم المجانين، فإذا بهم يعلنون الجنون، ويضمرن العقل، يعلنون الكفر وبضمرون الإيمان.
هؤلاء هم المستضعفون حقاً، الذين يجب الدفاع عنهم، والمطالبون بالهجرة في أرض الله الواسعة بحثاً عما يحقق الإنسجام وينقذهم من براثن اللإنفصام المادي، الذي يفهم الكون كله جسداً لاروح فيه. أو ليس التنكر للروح والتنكر للغيب، وبالتالي تشييء الجسد والكون من وادٍ واحد؟
وسيظل الدفاع عن حقيقة الغيب واتحادها مع حقيقة العقل مستحيلاً مالم ندرك أن مكمن الغموض الذي هو منشأ كل تضليل، هذا الفارق التخصصي البسيط جداً، والهائل جداً في آن، بين الغيب والخرافة.
إنه كالفرق بين الغيب والعيب، مجرد نقطة لمنها تقلب المعنى من الحقير إلى العظيم الخطير.
ليست الخرافة إلا ما لايمكن، وليس الغيب إلا ما نحسب أنه لايمكن.
والفرق بينهما قيام الدليل على الإمكان وعدمه.
ومن يصدر من قناعات الطين والحمإ المسنون، فيفكر بحواسه لامجال لديه لافتراض مستغرب حد الخرافة، يمكن أن يقوم عليه الدليل.
فهو لايكلف نفسه عناء البحث، ويعفيها من إعنال العقل.
وهو إذاً قد اعتمد مسبقاً دليلاً! يربأ العقل عن اعتماده، هو رفض المستغرب.
ورفض المستغرب هو الوجه الآخر لقبول المستقرب، وتبدأ الرطانة ولاتنتهي.
والخطير أنها رطانة التنكب للعقل باسم العقل، والتفلت من البحث عن دليل بالدليل المسبق المدعى والموهوم.
من مظاهر هذه الرطانة النكراء أن المنكر للألوهية يدعيها لنفسه!
أليس الإله وحده مقياس الحقيقة وامتيازها عن الباطل؟
أو ليس المعتمد لاستغرابه والإستقراب دليلي نفي وإثبات، مدعياً للألوهية، بل الذاهب فيها عريضا؟
وهل من ركن شديد يمكن من الإعتصام بالحق، والنجاة من لجج الباطل، إلا مرجعية العقل، والتثبت في محرابه من مصداقية هذا المستغرب - المستقرَب غيره- أو عدمها؟
* نماذج قرآنية:
في ضوء ماتقدم يجدر المرور السريع بنماذج من الغيب أكد عليها القرآن الكريم، وهي بمعزل عن الدليل على صدقها من أوضح مصاديق الخرافة، إلا أن هذا الدليل اليقيني يمنحنا العقلانية في تقويمها والموقف السليم منها.
ماقصة قتيل عاد إلى الحياة، عندما ضرب ببعض لحم بقرة؟
وما قصة هدهد قام بمهمة أمنية حساسة جداً ونوعية، وتصرف بكامل الخبرة والوعي والبصيرة.
وما قصة نملة تمتلك من الوعي السياسي، المستند إلى رؤية في الحالكم والمحكوم، تقوم على إدراك سنن التاريخ.
وما قصة ألوف ماتوا ثم عادوا كما يرجع المسافر؟
وما قصة ذلك الذي نظر إلى العظام تنشز، ورجع من دار الموت فوجد ابنه أكبر منه؟
وقبل ذلك وبعده ومعه: ماقصة خلق عيسى عليه السلام، بل ماهي قصة خلق آدم عليه السلام؟ وما هي قصة خلق عيسى للطير من الطين، وتلك الطيور التي خاطبها إبراهيم فلبت بعد تفرق الأوصال، حتى كان على رأس كل جبل منها مزقة؟
بل ماهي قصة الوحي للنبيين؟
وشق القمر؟ والسائل بعذاب واقع؟
وصولاً إلى الأسئلة المتوالدة دوماً عن كل غريب حد الخرافة غدا من البديهيات:
أ- يتكلم من في المشرق فيسمعه من في المغرب؟
ب- بلى ويراه، ويتجاذبان أطراف الحديث لايفصل بينهما إلا ماطوي من المسافات كطي البساط.
ت- وماهذا الطيران في الهواء عبر صندوق كبير متميز يسمى الطائرة، أو السفينة التي تمخر العباب إلى المريخ.
أليس هذا كله قبل تحققه حديث خرافة؟
وهل هو بعد تحققه إلا عين العقل؟
فالفارق إذاً هو الدليل على إمكانية التحقق.
هذا هو حكم العقل ومقتضاه، وماعداه الخرافة والجنون.
وبين هدي العقل، والإنسياق للعمى الغرائزي بادعاء العقلانية، توزعت مسيرة البشرية على وجه الأرض.
ولئن كان من فنون الجنون أن يحسب المجنون أنه سيد العقلاء، فليس من مقتضيات العقل أن يتهم العاقل نفسه بالجنون.
وما من حرب على وجه البسيطة بلغت شراسة الحرب على الغيب وصميمه العقل، لامن حيث طول الأمد، ولا من حيث فتك الأسلحة، أو كثرة الضحايا.
ولاعجب، فتلك خلاصة فلسفة الوجود، وكما هو التلازم أبدي، بين العبادة و المعرفة، كذلك هو التلازم بين الحقيقة وتنقيتها من رواسب الهوى والشوائب.
* موقع المغيبات من عملية البناء الثقافي:
كما هو العطر من مسارب الروح، يسري فيلأ المسام جرعة حياة وبهجة مَحيا ومُحيا، كذلك هو تنسم الروح شذا جرعة غيب تحمله ومضة، أو حادثة، أو قصة، محورها الغيب.
وكما هي مراتب العطر شديدة التفاوت حتى ليدخل فيها الكثير الكثير مما لايستحق تضوع الإسم، كذلك هو ما يجري الحديث عنه باسم الغيب.
وإذا كان بوسع الشعر الرديء على كثرته الكاثرة، أن يحجب عن عيون الشعر، وعن القصائد العصماء، فيلغي من ديوان الفرادة باب الشعر بما يمثله من سمو نبض ورهافة حس، واستقامة وجدان ومشاعر، فسيكون للمغيبات المدعاة الرديئة أن تلغي فرادة الغيب.
لايمكن إدراك موقع المغيبات من عملية البناء الثقافي بمعزل عن إدراك دلالات أن الغيب عصب الإيمان كما مرت الإشارة، حيث يتبدى بامتياز أن موقع المغيبات الجرعة، من البناء الثقافي والفكري، موقع ما ينمي العصب أو يشده، أو يرممه.
و يعني ما تقدم، أن نستوضح موقع الغيب من البناء الثقافي والفكري من موقع العقل من ذلك.
عندما نعمل الحواس ونفعل عملها بالتجربة، فإنه لايمكننا الوصول إلى قناعة يقينية، إلا بعد أن نخضع حصيلة التجربة وإعمال الحواس لقواعد عقلية لايخضع شيء منها لمديات الحواس، أولعالم التجربة، بل هي قواعد ينتجها العقل الذي هو غيب في عالم لاتمكن مشاهدته فهو بالتالي غيب.
وهذا العالم الذي يتم فيه إنتاج مايتحكم بعوالم الشهادة هو أدنى الغيب للإنسان عموماً، وهو على مراتب يقتصر الوصول إلى بعضها على نوعية خاصة من القدرة المعرفية والعقلية
ولا يشكل هذا الإقتصارخلللاً في العقلانية، يسوَّغ الإتهام بالخرافة.
كل مايريد الإيمان بالغيب أن يقوله لنا إن المراتب الأعلى تخصصية يشتد اقتصارها على نوعية أشد خصوصية لاتنطلق إلا من القواعد العقلية ولا تستضيء إلا بنورها، فتدرك ماتحمله إلى الناس باعتباره ثمرة العقل الخالص من شوائب التلبيس.
هذه النوعية من الناس الأشد خصوصية في المعرفة والقدرة العقلية هي"المعصومون".
وهذه الثمرة التي يقدمونها إلى الناس هي "الدين"
وحيث إن ذلك كله يرتكز إلى أساس عقلي محض، ولكنه بالغ التخصصية، فمن الطبيعي أن يكون المدخل إى قبوله هو الإيمان بالغيب.
ومن هنا كان دور "المغيبات" استراتيجياً في شد بنية العقل ليمكنه التعامل مع مادق فهمه واستغلقت مقدماته.
وكما يستحكم الشلل لانعدام تعاهد العصب بالرعاية، وصولاً إلى تراكم الإهمال فالإتلاف، كذلك يستحكم الشلل الثقافي بالبعد عن ملامسة المغيبات لأوتار حركة العقل والقلب والمشاعر.
بمقدار مايغذي التفاعل مع الواقع الواقعية وتشد عرى العقل العقلا نية، تغذي المغيبات الإيمان وعصبه، وهل الإيمان إلا واقعية وعقلانية، والإيمان بالغيب المفتاح؟
* خرافة أن الغيب خرافة:
ولا ينقضي العجب من خرافة أن الغيب خرافة، فهي أشد تيهاً وضلالا من غثاء بعض المتفلسفين الذين أنكروا الوجود برمته، واعتبروه خيالاً، لاغير، فهؤلاء لم يصدقهم أحد ولاهم صدقوا أنفسهم إلا في قوة المراء والجدل العقيم، أما أولئك فقد صدقوا أنفسهم، وراح الكثيرون ضحيتهم.
كما ينظر الجاهل إلى جهاز التحكم عن بعد يشغل التلفاز ويغلقه، ويدير محرك السيارة ويقودها بدون سائق، أو يتحكم بوضعية مرآة في مركبة فضائية رغم البعد الهائل، فيرمي ذلك بالشعوذة والخرافة لأنه لايفهم الآلية العقلية التي تمكن من فعل ذلك وما هو أعظم منه بكثير، كذلك هو حال من يرمي كل ماخفي عليه وجه العقلانية فيه بالخرافة.
وهل يعني ذلك أن نقبل كل ما لانفهمه؟!
بل هو يعني أن لانرفض ما لم نحط به علماً، ونذره في دائرة البحث، فإن قام الدليل على إمكانه قبلناه، وإلا ضربنا به عرض الجدار وجزمنا بأنه خرافة.
أما أن نجعل من جهلنا ومزاجنا مقصلة تندر عليها أعناق الحقائق لأنا استغربناها، فذلك هو الإمعان في سفه الخرافة وتهافتها.
* نشر ثقافة الغيب، والمقاومة:
ولئن كانت المقاومة العسكرية للمحتل، مضنية ومكلفة، لأنها السباحة عكس التيار والإعصار، فإن نشر ثقافة الغيب أشد ضنىً وكلفة، فليست غربة المقاومين بالسلاح إلا لأنهم أسسوا انطلاقتهم على مدماك غيبي: وما النصر إلا من عند الله.
عندما يشرب الأكثرون من نهر الجنون ويغدو العقل كأنه النشاز، لايبقى غير الغربة وطناً، والأسنة مركباً، والجنون تهمة وحكماً مبرماً.
ألم يرم المصطفى بالجنون؟
ويفرض مبدأ الإنقلاب على الأعقاب كسنة إلهية اجتماعية أن يهيء المقاوم في ساحة قدس الغيب، نفسه بكل ما استطاع من قوة ورباطة جأش لعصف الغربة وطول ليلها المقيم.
ما أكثر الذين يمدحون المقاومة ويتغنون بإنجازاتها، ثم تدور الدائرة على المقاومة بهم وعلى أعتابهم.
وترقى المقاومة التي يجسدها الدفاع عن العقل الخالص من لوثة اعتبار الإستغراب دليلاً والقصور حجة، وعدم الوجدان مسوغاً للجزم بعدم الوجود، إلى موقع المفصل بين العمل التغييري وبين التوفيقي الترقيعي.
نحن نعيش في عالم يصر بمعظم حركته المهيمنة على أن الوجود صدفة، وأن الإنسان يموت فيفنى ويعدم، وأن الغريزة هي الغاية والحَكم، وأن المجون هو الحرية، وأن الحامي والمؤتمن، هو اللص، وأن له حق النقض، ومحاربة الوصول إلى القوة بالقوة، ويراد لنا أن نذعن ودون أدنى تساؤل بأن هذا هو عين العقل و ذروة حقوق الإنسان والديمقراطية، وقمة الحضارة! ومن لايستسلم لهذا التشوه فهو رجعي ومتخلف، لاسبيل إلى إقناعه بالحضارة إلا بقذائف السبعة أطنان وأخواتها!
وليس هذا إلا عين العقل، ومن لم يمحضه خالص الود وصافي الإنتماء فهو المجنون!
في مثل هذا النكد المعولم ينبغي أن يقرر كل منا هل يستسلم، أو يقاوم؟
والمدخل إلى المقاومة الحقيقية هو الإيمان بالعقل أي الإيمان بالغيب.
ومازال الشوط في بداياته، والمضمار طويل، والمدى بعيد.
وعندما يحين موعد نهاية التاريخ، تشرق شمس هذه الجوهرة الإلهية إنسانية الإنسان، لتسطع أنوار الغيب فإذا هو - الغيب- العقل لعالم الشهادة كما هو العقل الغيب للجسد المشهود.
________________________________________
[1] ميزان الحكمة - محمدي الريشهري ج 3 ص 2038 نقلاً عن: عوالي اللئالي1/248
[2] ميزان الحكمة3/2038.
[3] نفس المصدر.