الحجاب، ثقافة قانون
• الشيخ حسين كوراني
منذ بدء الخلق كان السُّفور، وكان الحجاب. السُّفور تفلُّت من القانون، والحجاب منع من هذا التفلُّت.
القانون هو الهدى الإلهي الذي حمل نسخته الأولى أبو البشريّة النّبيّ آدم على سيِّد النّبيّين وآله وعليه السلام.
وليس السُّفور أصلاً ملازماً لبدن الإنسان، بل العري هو الأصل المُلازم. يولد الإنسان عارياً، ولا يُطرح موضوع السُّفور والحجاب إلَّا بعد طيّ المولود مراحل وسنين من عمره، ليختار الرّجل الزّيّ الذي إمّا أن يكون ساتراً، وإمّا أن يكون سافراً، وكذلك المرأة مع ملاحظة الخصوصيّة وفارق نسبة السّتر، بشهادة الوجدان وطبيعة الوجود.
كان الحجاب وما يزال شعار عقيدة وأخلاقيّة سلوك. كانت جميع الأديان وما تزال تختار الحجاب بعنوانه العام الذي قد تختلف تفاصيله جدّاً. لا يختلف القرآن الكريم في الحجاب عن التّوراة والإنجيل. وعلى هذا الأساس تلتزم الراهبات منذ القدم وحتى يومنا هذا كالمؤمنات المتديّنات المسلمات بشعار الحجاب كواجب ديني تدعو إليه ثقافة القانون الإلهي.
وإذا قُدِّر إجراء استفتاء عالمي -غير مسيّس كما هي العادة- في أربع رياح الأرض لصوّت اليهود والنّصارى والمسلمون والهندوس والبوذيّون والصّابئة وكلّ أتباع ديانة مُحِقَّة أو باطلة إلى جانب إلتزام الحجاب -بمعناه الأعمّ الأوسع- كعنوان حضاري أبرز، دون أن يعني ذلك أيّ مسٍّ بكرامة جميع غير المحجّبات أو أخلاقيّاتهنّ، بل يعني عدم موافقتهنّ على التزام السُّفور.
***
المنشأ في اختيار الحجاب أو السُّفور -ولو مع الغفلة عنه- هو أنَّ البشريّة مدرستان: مدرسة العقل، ومدرسة الغرائز. يحتاج الإنسان الغرائز ويحتاج العقل، إلَّا أنَّ الحاجة إلى العقل لتثقيف الغرائز وتقنينها. الغرائز عمياء -كالسِّكّين، أو السّيف، أو المدفع، قد تُستعمَل تحت حكومة العقل فيَرشُد المستعمل ويلتزم القانون، وقد تحكم الغرائز العقل فيصبح أسيرها. قال عليٌّ عليه السلام: «كم من عقلٍ أسير، تحت هوىً أمير!».
مَن كان مِن "مدرسة العقل" اختار ما يتناسب مع تحكيم العقل، ومَن كان مِن مدرسة العقل المُدَّعى، أو "مدرسة الغرائز" -بقطع النّظر عن الإدانة وعدمها- اختار ما يناسب مدرسته والنّهج.
وكما يحصل التّبدُّل في تطبيقات "العقل" في الأوّل -من كان من مدرسة العقل- بحكم تبدُّل القناعات الذي قد يكون سلبيّاً، يحصل التّبدّل في تطبيقات الثّاني ولكن بنسبة أكبر بكثير، بحكم أنَّ أعاصير الغرائز تضعف غالباً مع التّقدّم في السّنّ، فإذا بالعقل يخرج من أسر الهوى، فيرتفع منسوب العناية بالأخلاق والعفاف وبالتّالي الحجاب. لا يرى الدّين -أيّ دين سماوي- أيّ مصلحة للبشريّة في أن تكون مجتمعاتها مناخاً لتقوية الغرائز على العقل، بل النّقيض هو المصلحة.
لذلك كان لا بدَّ من تنظيم إشباع الغرائز، كي لا تطغى فتجتاح الشهوات حصون العقل، وتصل البشريّة إلى ما وصلنا إليه. تقرّر فينا الغرائز وتتحكّم بالمصائر وتصدر الأوامر ونحن نظنّها عقلاً: ﴿أرأيت من اتخذ إلهه هواه، أفأنت تكون عليه وكيلا﴾ الفرقان:43.
***
حدّد الإمام عليّ عليه السلام الهدف من بعثة الأنبياء، بتعزيز مدرسة العقل «ليثيروا دفائن العقول» أي لمواجهة طغيان الأهواء الغرائزيّة، وقد تلازمت مسيرة الأنبياء في جميع مراحلها وما تزال بالتزام الأخلاق والعفّة والحشمة ورعاية الآداب العامّة، كمحاور بارزة من "ثقافة القانون" وفي سياقها يقع "الحجاب"، كما تلازمت مسيرة الفراعنة والقوارنة، والملوك والمترَفين والملأ، بغلبة الحيوانيّة وجموح الشّهوات واستبداد الأهواء والغرائزيّات كمَحاور أبرز في ازدراء ثقافة القانون وفي سياقها يقع "السُّفور".
حتى الحكومات "الدّينيّة" بالإسم، المُتبرقِعةُ بالدّين لم تستطع أن تحصر خروجها على الأخلاق والعفاف بحدود قصور الإمارة، وبلاطات الملوك والوزراء، فإذا الطّابع العامّ لهذه السّلطنات، الخلاعة والمجون، والسّكْر والرّقص ومزامير الشّيطان، والعري والتفلُّت من الحشمة والأدب.
منكم عُليَة أم منهم وكان لكم |
شيخ المغنِّين إبراهيم أم لهم |
تبدو التّلاوة من أبياتهم سحراً |
ومن بيوتكم الأوتار والنّغم |
طبيعي إذاً أن تتلازم غلبة الثّقافة الماديّة اللّادينيّة المتنكِّرة للأديان العالمية ومنهج العقل، مع التّنكُّر للأخلاق والآداب، فإذا بنا أمام مفارقات على قسمَين:
1- مفارقاتٍ يمكن تفسيرها بِيُسرٍ من خلال معرفة المدرسة التي ينتمي إليها هذا الطّرف أو ذاك. من هذه المفارقات أن نجد في بيت واحدٍ مسلم، محجَّبة وسافرة، أو نجد الرّاهبات محجّباتٍ في خطّ حجاب السيّدة مريم البتول عليها السلام، بينما نجد الغالب على الحضور حتى في مجالس العبادة المرتبطة بالسيّدة مريم سافرات بإصرار.
2- ومفارقاتٍ لا يمكن تفسيرها بِيُسرٍ، أبرزها أمران:
أ- أن يتصدّى لمحاربة الحجاب مَن يذهب عريضاً في التّنظير للحرّيّة الشّخصيّة، كما فعل "شيراك" ويناضل "ساركوزي"، ثمّ ينبري شيخ الأزهر-السّابق- بالقول والفعل للدّفاع عن "حضاريّة" شيراك، ويسكت أكثر رجال الدّين المسلمين والمسيحيّين عن عدوانيّة "ساركوزي" وأضرابه.
ب- أن نجد -مثلاً- بين الرّاهبات راهبة سافرة، أو نجد -مثلاً- في جامعة إسلاميّة مُدَرِّسةً سافرة. إنَّ وجود طالبة غير محجَّبة في جامعة إسلاميّة يمكن توجيهه بأنَّه خطوة في طريق الدّعوة إلى الحجاب المنسجم مع فلسفة وجود هذه الجامعة مثلاً، أمّا وجود مُدَرِّسة يُراد منها أن تنقل ثقافة الإسلام وآدابه، فهو من المفارقات التي لا يمكن تفسيرها بِيُسرٍ.
لا يعني عدم اليُسر في هذا وذاك عدم إمكان الإهتداء إلى السّبب الحقيقي لهذه المفارقات. يعني أنَّ البحث سيطول، لأنّ الحمل على هذا السّبب الوحيد يستدعي نفض اليد من «واحدٍ وسبعين محملاً» وردّ الأمر في النّص الدّيني بحمل عمل المؤمن على أحدها قبل أن يصل الأمر إلى استحكام الإدانة الذي هو الفجيعة وقد يُحتِّم القطيعة إن لم يثمر الإصلاح.
الحجاب، ثقافة قانون، ومقاومة.