الموقع ما يزال قيد التجربة
مقام السيدة «نفيسة»
وكأنَّ رياح العناية الإلهيّة حملتها إلى أرض الكنانة لِتنبت حُبّاً وولاءً لأهل البيت عليهم السلام، فيفوح الحبّ أريجاً وعطراً يتنسّمه الطيّبون من النّاس في مشارق الأرض ومغاربها، فينتعشون وتثلج أفئدتهم. إنّها السيّدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليهم، التي قصدت مصر، فبقيت فيها إلى أن توفّاها الله فدُفنت هناك. فمَن هي هذه المرأة الشّريفة؟ وما الذي حملها على الذهاب إلى مصر؟ وكيف تعامل أهلها معها؟ وأين هو مقامها؟ |
في الحادي عشر من ربيع الأوّل عام 145 للهجرة، كان الحسن بن زيد جالساً في المسجد الحرام للفقه وعلوم القرآن، إذ أقبلت أمَة تزفّه البشرى بولادة طفلة يشعّ من وجهها نوراً وصفاء، فخرّ ساجداً لله شاكراً لِما وَهبه، وسمّى مولودته «نفيسة» تيمّناً باسم أخته نفيسة بنت زيد، الذي تزوّجها الوليد بن عبد الملك فتوفّيت أثناء الولادة (وقيل إنّه فارقها بعد مدّة من زواجهما) ودعا الله تعالى أن تكون هذه المولودة «نفيسة».
أَوْلى أبو محمّد الحسن بن زيد إبنته نفيسة عناية خاصّة، فكان يزقّها العلم زقّاً، وكانت شديدة الذّكاء، تحفظ ما يتلو عليها من علوم القرآن والفقه، حتى أنّها حفظت القرآن الكريم وهي في الثامنة من عمرها، وكانت العائلة انتقلت إلى المدينة المنوّرة ونفيسة في الخامسة من عمرها، فكانت تلازم مسجد النّبيّ صلّى الله عليه وآله للعبادة والعلم حتى لُقّبت بـ«نفيسة العلم»، ولم تكن تفارق أباها الذي تفرّس فيها الإيمان والعلم، وكثيراً ما أمسك بيدها في الحضرة النّبويّة، وقال: يا سيّدي يا رسول الله، إنّي راضٍ عن ابنتي نفيسة! فرأى في المنام الرّسول صلّى الله عليه وآله يقول له: إنّني راض عن نفيسة برضاك عنها، والحقّ سبحانه راضٍ برضائي عنها...
وقد حجّت إلى بيت الله الحرام ثلاثين حجّة، أدّت معظمها ماشية، وكانت تتعلّق بالكعبة وتبكي بكاءً شديداً وهي تقول: إلهي وسيّدي ومولاي متعتي وفرحتي برضاك، فلا تسبّب لي سبباً به عنك تحجبني.
وورد في طبقات الشعراني أنّ الشيخ أبا المواهب الشاذلي رأى النّبيَّ صلّى الله عليه وآله فقال له: إذا كان لك إلى الله تعالى حاجة، فانذُرْ لنفيسة الطّاهرة ولو بدرهم، يقضي اللهُ تعالى حاجتك.
في حجّتها الثلاثين، إلتقت بكثير من أهل مصر الذين دعوها لزيارة بلدهم، إذ ذاع صِيتها وصِيت آبائها في التّقوى والسُّؤدد والشّرف، فوعدَتْهم خيراً، وهناك دعت الله تعالى أن يوفّقها لزيارة قبر النّبيّ إبراهيم عليه السلام في فلسطين، فكان لها ما أرادت، فتوجّهت نحو بلاد الشّام مع زوجها إسحاق، فمرّت على دمشق ونواحيها لزيارة قبور ومشاهد آل النّبيّ صلوات الله عليهم الذين دفنوا هناك، ثمّ قصدت فلطسين التي تعجّ بقبور الأنبياء والصالحين، ومن هناك توجَّهت إلى مصر التي وصلتها في شهر رمضان المبارك عام 193 للهجرة.
علم أهل مصر بقدومها، فتلقّاها الرجال والنساء عند مدينة العريش بالخيول والهوادج، رافعين المصاحف والمشاعل، مكبِّرين ومهلِّلين، وفرحين بآل النبيّ صلّى الله عليه وآله.
وأنزلوهما في دار سيّدة تدعى أم هاني، وقيل نزلا في دار أحد التّجّار، وفي هذا قال السّخاوي في كتاب (المزارات) عن وصول السيّدة نفيسة إلى مصر: «إنّها نزلت أولاً عند كبير التجّار بمصر وهو جمال الدين عبد الله بن الجصّاص، وكان من أصحاب المعروف والبرّ، فأقامت عنده شهوراً يأتي إليها النّاس من سائر الآفاق للتبرّك، ثمّ تحوّلت إلى مكانها المدفونة به وَهَبه لها أمير مصر السري بن الحكم (توفي عام 205 للهجرة)، وسبب ذلك أنّ بنتاً يهودية زمنة [مشلولة] تركتها أمّها عندها وذهبت إلى الحمّام، فقدَّر الله شفاءها على يد السيّدة نفيسة رضي الله عنها، وعند ذلك أسلمت البنت وأبواها وجماعة من الجيران يبلغ عددهم نحو السّبعين نفراً، ولمّا شاع ذلك لم يبقَ أحد في مصر إلَّا قصد زيارتها، وكثر الناس على بابها، فطلبت الرّحيل إلى بلاد الحجاز، فشقّ على أهل مصر ذلك وسألوها الإقامة فأبَت، فركب إليها السريّ بن الحكم وسألها الإقامة، فقالت: إنّي امرأة ضعيفة وقد شغلوني عن عبادة ربّي، ومكاني قد ضاق بهذا الجمع الكثيف. فقال لها السري: أمّا ضيق المكان فإنَّ لي داراً واسعة بدرب السِّباع فأُشهد الله أنِّي قد وهبتُها لك، وأسألك أن تقبليها مني، وأمّا الجموع الوافرة فقرّري معهم أن يكون ذلك يومين في كلّ أسبوع وباقي أيّامك في خدمة مولاك، فجعلت لهم السبت ويوم الأربعاء إلى أن توفّيت».
وقد أورد المقريزي في خططه حكاية مفادها أنّه أُسِر ابن لامرأة ذمّيّة في بلاد الرُّوم، فأتت إلى السيّدة نفيسة وسألتها الدّعاء أن يردّ الله ابنها عليها، فلمّا كان اللّيل لم تشعر الذمّية إلّا بابنها وقد هجم على دارها، فسألته عن خبره، فقال: يا أمّاه، لم أشعر إلّا ويد قد وقعت على القيد الذي كان في رجلي، وقائل يقول: أطلقوه، قد شفعت فيه نفيسة بنت الحسن عليه السلام، فوالذي يُحلف به يا أمّاه لقد كُسر قيدي، وما شعرت بنفسي إلاّ وأنا واقف بباب هذا الدار. فلمّا أصبحت الذمّيّة، أتت إلى السيّدة نفيسة، وقصّت عليها الخبر وأسلمت هي وابنها، وحسن إسلامها.
كانت السيّدة نفيسة قد حفرت قبرها بيدها في بيتها، وكانت تنزل فيه وتصلّي كثيراً، كما قرأت فيه القرآن الكريم 190 مرّة. وعنها تقول السيّدة زينب إبنة أخيها يحيى: «خدمتُ عمّتي السيّدة نفيسة أربعين عاماً، فما رأيتُها نامت بليل، ولا فطرت بنهار، إلّا العيدَين وأيام التّشريق، فقلت لها: أمَا ترفقين بنفسك؟ فقالت كيف أرفق بنفسي وقدّامي عقبات لا يقطعها إلَّا الفائزون». وكانت زينب تقول: عمّتي تحفظ القرآن وتفسيره.
وزاد عليها المرض في أوّل جمعة من شهر رمضان وهي صائمة، وقد أشار عليها الأطبّاء بالإفطار، فقالت: «واعجباه! لي ثلاثون سنة أسأل الله أن يتوفّاني وأنا صائمة، أأفطر الآن؟! معاذ الله».
وعندما هدأ الليل، ووصلت إلى آية ﴿لَهُمْ دَارُ السّلاَمِ عِندَ رَبّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ الأنعام:127 فاضت روحها الطاهرة، وكان ذلك عام 208 للهجرة وكان عمرها 63 عاماً.
وجاء في (البداية والنهاية) لابن كثير: «لمّا توفّيت عزم زوجها إسحاق بن جعفر أن ينقلها إلى المدينة النّبويّة فمنعه أهل مصر من ذلك، وسألوه أن يدفنها عندهم، فدُفنت في المنزل الذي كانت تسكنه بمحلّة كانت تعرف قديماً بدرب السّباع».
وعن ذلك قال إسحاق زوج السيّدة نفيسة: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله في المنام يقول: يا إسحاق، لا تعارض أهل مصر في نفيسة، فإنّ الرّحمة تنزل عليهم ببركاتها.
وكان يوم دفنها يوماً عظيماً مشهوداً، فقد هرع أهل مصر من أقصى البلاد وأدناها فصلُّوا عليها، وأوقدت الشموع تلك الليلة في جميع الأرجاء والنّواحي، وسُمع البكاء والترحّم في كلّ دار. ودُفنت بدارها بدرب السِّباع بين القطائع والعسكر.
وعاد إسحاق المؤتمَن بعد موت زوجته السيّدة نفيسة إلى المدينة المنورة، ومعه ولداه منها القاسم وأمّ كلثوم، ولمّا ماتوا دُفنوا بالبقيع.
يقع مشهد السيّدة نفيسة في منطقة السيّدة نفيسة التي عرفت قديماً بدرب السّباع، ويقع في بداية الطّريق المسمّى طريق أهل البيت فيكون المشهد النّفيسي هو المحطّة الثانية في هذا الطريق بعد مشهد الإمام زين العابدين (مقام رأس زيد بن عليّ).
وطريق أهل البيت طريق شهير يبدأ بمقام زين العابدين وينتهي بمشهد السيّدة زينب، مروراً بالسيّدة نفيسة، والسيّدة سكينة بنت الحسين، والسيّدة رقيّة بنت عليّ بن أبي طالب، وسيدي محمّد بن جعفر الصّادق، والسيّدة عاتكة عمّة الرسول محمّد صلوات الله عليهم أجمعين.
وللمشهد مدخلان أحدهما للرجال وآخر للنّساء، وحديثاً جرى تجديد المدخل وفرشه بالرّخام الفاخر.
وفي داخل مسجد السيدة نفيسة ممرّ طويل يصل بالزّائر إلى المقام الشّريف، وفي هذا الممرّ يوجد لوحات رائعة نُقشت عليها أشعار في مدح أهل البيت عليهم السلام.
وتقوم منارة مع واجهة على الطّراز المملوكي، أمّا في الدّاخل فيتوسّط جدار القبلة محرابٌ مكسوٌّ بالقاشاني الملوَّن البديع، وعلى يمين المحراب باب يؤدِّي إلى ردهة مسقوفة، ومن هذه الرّدهة يصل الإنسان إلى الضّريح بواسطة فتحة معقودة، وهناك مقصورة نحاسيّة أُقيمت فوق قبر السيّدة نفيسة، ويعلو الضّريح قبّة.
وفي العصر الحديث، قامت وزارة الأوقاف بتجديده، وراعت في ذلك أصول فنّ العمارة الإسلاميّة.
.
في سنة 737 للهجرة/1336م، زار الرّحالة المغربي أبة البقاء خالد بن عيسى البلوي (توفّي بعد 767 للهجرة) مشهد السيّدة نفيسة في مصر، فوصفه وصفاً دقيقاً في كتاب (الأقطار)، وممّا جاء فيه:
«شاهدتُ المشهد العظيم، مشهدة السيّدة نفيسة رضي الله عنها، فرأيتُ مسجداً عظيماً غاية في الحُسن، فيه من الذّهب وأنواع النحاس ما لا يحصيه العدّ ولا يجمعه، وفي جدار قبلة المسجد باب بديع يؤدِّي إلى قبّة عجيبة تتوقّد ذهباً وتتلألأ جمالاً، وتحت القبّة، الضّريح المبارك، وحوله الرّخام البديع المجزَّع الغريب التّرصيع، وثريّات الفضّة والذّهب وقناديل التِّبر الخالص والإبريز».
يزدحم المصريّون على زيارة السيّدة نفيسة في مشهدها، ولا سيّما في أيّام الآحاد، ويقيمون الصّلاة فيه، وطلب الحوائج من الله تعالى، بعد أن تسالموا على استجابة الدعاء في المرقد الشّريف منذ عصور، فعن ذلك قال المقريزي: وقبر السيدة نفيسة أحد المواضع المعروفة بإجابة الدعاء بمصر. وقال السخاوي: إنّه مجرّب بإجابة الدّعاء. وغير ذلك ممّا قيل عن بركة الدّعاء عند مرقدها الطّاهر.
ويتداول النّاس الكثير من كراماتها في الماضي والحاضر، من ذلك ما يخبرونه أنَّ النّيل توقّف عن الزّيادة في زمنها، فحضر الناس إليها، وشكوا ما حصل من توقُّف النيل، فدفعت قناعها إليهم وقالت لهم: ألقوه في النّيل، فألقوه فيه، فزاد حتى بلغ الله به المنافع.
ويؤمن النّاس باستجابة الدُّعاء بحضرتها، وينذورن لله تعالى في مقامها لقضاء حوائجهم، هذا وأنَّ حبّ أهل البيت عليهم السلام في نفوس المصريّين صادق وعميق، ولم تستطع أصوات الحقد والكراهية من ثَنْيِهم عن حبِّهم الكبير لهم، والتّوجُّه إلى مقاماتهم في القاهرة التي سيكون لنا حولها أكثر من تحقيق في الأعداد القادمة إن شاء الله تعالى.
0
أيـــــــــــــــــــــــــن الرَّجبيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــون؟ يستحب في شهر رجب قراءة سورة التوحيد عشرة آلا مرة..
يدعوكم المركز الإسلامي- حسينية الصديقة الكبرى عليها السلام للمشاركة في مجالس ليالي شهر رمضان لعام 1433 هجرية. تبدأ المجالس الساعة التاسعة والنصف مساء ولمدة ساعة ونصف. وفي ليالي الإحياء يستمر المجلس إلى قريب الفجر. نلتمس دعوات المؤمنين.