كيف يتحدّث العلماء عن الصّدِّيقة الكبرى عليها السلام
«رُوحُ النّبِيِّ في عظيمِ المَنزِلة»
ـــــــــ أسرة التحريرـــــــــ
بين لغة «يرضى الله لرضاها» ولغة «الكاتبة الإسلامية الأولى» في توصيف الزهراء عليها السلام، فرقُ ما بين الثُّريّا والثّرى، وعندما يُطلَق التوصيف الثاني فنحن –وبكلّ مسؤوليّةٍ وموضوعيّة- أمام معضلة عقائديّة، يجب التّصدِّي لعلاجها بروح علميّة، من جملة أساليبها تذكير أنفسنا باللّغة التي يتحدّث بها علماؤنا الأعلام عبر القرون عن الصّدّيقة الكبرى عليها السلام.
في ما يلي تقدّم «شعائر» نموذَجين من كلمات بعض علمائنا الأعلام في هذا المجال. |
النموذج الأوّل: قال سيّد العلماء المراقبين -كما يصفُه الشيخ البهائي- السيّد الجليل إبن طاوس قدّس سرّه:
«الفصل الخامس في ما نذكره من صيام يوم العشرين من جمادى الآخرة، وبعض فضائله الباطنة والظّاهرة، روينا ذلك بإسنادنا إلى شيخنا المفيد رضوان الله عليه ".." فقال عند ذكر جُمادى الآخرة ما هذا لفظُه: يوم العشرين منه كان مولد السيّدة الزّهراء عليها السلام سنة اثنتين من المبعث، وهو يومٌ شريفٌ يتجدّد فيه سرور المؤمنين، ويُستحبّ صيامُه والتطوّع فيه بالخيرات والصّدقة على أهل الإيمان.
فصلٌ في ما نذكره من تعظيم هذا اليوم العشرين منه، المعظّم عند الأعيان [المعصومين عليهم السلام]، وما يليق به من الإحسان وزيارة سيّدتنا فاطمة الزّهراء عليها أفضل السلام المولودة فيه "..".
إعلم أنّ يوم ولادة سيّدتنا الزّهراء البتول إبنة أفضل الرُّسل صلوات الله عليه وآله، هو يومٌ عظيمُ الشأن من أعظم أيّام أهل الإسلام والإيمان لأمور:
O منها: أنّ نسبَ رسول الله صلّى الله عليه وآله انقطعَ إلّا منها.
O ومنها: أنّ أئمّة المسلمين والدّعاة إلى ربّ العالمين من ذرّيّتها "..".
O ومنها: أنّها أفضل من كلّ امرأةٍ كانت أو تكون في الوجود، وهذا فضلٌ عظيم السّعود.
O ومنها: أنّها المزوّجة في السماء، والمختصّة بالطّهارة والمباهلة، وهي المختارَة من سائر النساء.
O ومنها: أنّها المشرّفة بنزول المائدة عليها من السماء، وهذا مقامٌ عظيمٌ من مقامات الأنبياء.".." وقد صنَّف جماعةٌ من أهل الوفاق والخِلاف مجلّداتٍ في مناقب والدتنا المعظّمة فاطمة، شرّفها الله جلَّ جلالُه بعُلوِّ الدّرجات "..".
فيَا سعادة من ظفرَ بموافقة أهل بيت المباهلة والتطهير، والثِّقل المعظّم المنير المصاحبِ للقرآن المنيف، وسفينة النّجاة في التكليف، واحتمل في رضى المالك اللّطيف كلَّ تهديدٍ وتخويف، وسار معهم إلى محمَّدِ مقامِهم الشريف. فينبغي أنْ يُصاحب هذا اليوم بقدْر ما يستحقُّه من جلالته وحُرمته والإعتراف لله جلّ جلالُه بمِنَّتِه، ولرسوله صلوات الله عليه وآله بمحمل ولادته ولِما صدر عنها، من أنّ المهدي الذي بشّر به النبيُّ صلّى الله عليهما منها. فَلْيجتهد الإنسان في القيام لله جلّ جلالُه بشكره ولرسولِه عليه السلام بعظيمِ قدره، ويواصل أهلَ الايمان بما يقدر عليه من برِّه، ويختمه بخاتمة كلّ يوم أشرنا في ما سلف إلى تعظيم أمره، ويستقبل كلّما يبلغ اجتهادُه من الطّاعات والخيرات إليه، فإنّ حقَّ الله جلّ جلالُه وحقَّ رسولِه صلوات الله عليه وآله وخاصّته لا يُقضى، وإنْ اجتهد الإنسان بغاية إرادته، لأنّ المنّةَ لهم سابقة ولاحقة، وباطنة وظاهرة، وماضية وحاضرة "..".
عن أبي جعفر الباقر عليه السلام أنّه سُئل لِمَ سُمِّيتِ الزّهراء؟ قال: لأنّ الله تعالى خلقها من نورِ عَظَمته، فلمّا أشرقتْ أضاءتِ السماواتُ والأرضُ بنورِها، وغشِيت أبصار الملائكة وخرّت الملائكةُ لله ساجدين، وقالوا إلَهنا وسيّدنا ما هذا النّور؟ فأوحى الله إليهم: هذا نورٌ من نوري، أسكنتُه في سمائي، وخلقتُه من عَظَمتي، أُخرجه من صُلب نبيٍّ من أنبيائي، أُفضِّلُه على جميع الأنبياء، وأُخرِجُ من ذلك النّور أئمّةً يقومون بأمري، ويهدون إلى حقّي، وأجعلهم خلفائي في أرضى بعد انقضاء وحيي». (إقبال الأعمال، السيد ابن طاوس)
النموذج الثاني: لآية الله الشيخ محمّد حسين الأصفهاني المعروف بالكمپاني أو الغَرَوي.
* من هو آية الله الشيخ محمد حسين الأصفهاني؟
هو العالم الجليل المرجع الدّيني، والفيلسوف الإسلامي الكبير، الذي يفتخر السيّد الطّباطبائي صاحب (تفسير الميزان) بأنّ الله عزّ وجلّ مَنّ عليه بلُطفٍ خَفِيّ، فوُفِّق للتّتلمُذ على يدَيه ستّ سنوات.
هذا العالم الجليل له قصائد في أهل البيت، في المصطفى الحبيب وآله الأطهار، وتكشف قصائدُه عن لغة علمائنا في أدبِ الحديث عن الصّدِّيقة الكُبرى عليها السلام.
ولكي لا تتبادر إلى الذّهن شبهةُ ضعفِ الإستشهاد بالشِّعر في مثل هذه المواضيع الحسّاسة، أُوضِحُ أوّلاً أنّ شعر العالم المحقّق، والفيلسوف المدقّق، والعَلَم الرَّبّاني، يختلف عن شعر غيره، فهو لا يُطلق الكلامَ جزافاً، بل بلحاظ أنّه مسؤول عن دلالة كلّ كلمة يقولها، خصوصاً عندما يكون المضمون الذي يصدر منه هو ما ورد في الرّوايات كما تجد في ما يأتي.
واستحضِرْ في ذهنك استشهادَ المصطفى الحبيب بشعر «لبيد» ومدحه لمضمونه، واعتباره أفضل كلمة قالها الشّعراء، مردّداً قولَه: ألا كلُّ شيءٍ ما خلا الله باطل إلخ، ولا تنسَ أنّ المورد هنا ذكرُ نماذج من كلمات علمائنا الأعلام، وللحديث الإستدلالي سياقٌ آخر.
في قصيدته حول الصّدِّيقة الكبرى عليها السلام من ديوانه (الأنوار القدسيّة)، يقول آية الله الأصفهاني قدّس سرّه:
جوهرةُ القُدسِ من الكنْزِ الخَفِي بدَت فأبدَت عالياتِ الأحرفِ
إلى أن يقول:
بل هي أُمّ الكلمات المُحكمة |
في غيب ذاتِها نكاتٌ مبهمَة |
أُمّ أئمّة العقـول الغرّ، بَل |
أُمُّ أبيها، وهو علَّة العلل |
روحُ النبيّ في عظيم المنزلةْ |
وفي الكفاء كفُوُ مَن لا كفؤَ له |
وحبُّها من الصّفات العالية |
عليه دارت القرون الخالية |
وليس في محيط تلك الدائرة |
مدارِها الأعظمِ إلّا الطّاهرة |
حجابُها مثل حجاب الباري |
بارقةٌ تذهب بالأبصارِ |
إلى أن يقول:
دنت إلى مقام «أو أدنى» فلا تبتغِ من ذاك أعلى مثلا
".." بلْ وَجْهها الكريمُ وجهُ الباري وقِبلة العارف بالأسرارِ.
عظمة الزهراء عليها السلام -كما ورد في آخر بيت- أنّها «وجه الله».
الزّهراء عليها السلام، وجهُ الله عزّ وجلّ!
وللأسف فإنّ السائدَ عند «المستغرِبين» ومدّعي الحداثة والعقلانية، أنْ ينفروا من هذا المصطَلح بمجرّد سماعه، ثم يبادرون إلى التهجُّم على «الغلوّ»، ويتمادون في التبرّي من المغالين «الجَهَلة» «السُّذّج» بزعمِهم!!
فإذا دخلنا مع المُنصف منهم في بحثٍ علميّ، ووجدنا أنّ هذا المصطلَح قرآني، وأنّ تعبير «وجه الله» يُمكن أن يفسَّر تفسيرات كثيرة، وكلّها مقبولة، فسيتّضح أنّه لا مسوِّغ لضيق صدورهم التي تدّعي الإنفتاح إلّا على مَن يحمل مثل هذه الأفكار، ويعتقد بمثل هذه المعتقدات.
أقف بما يتناسب مع هذا الحديث عند بعض الرّوايات الكثيرة بمضمون «نحن وجهُ الله»، ثمّ بيان معنى «الوجه» عموماً، وتطبيقاته على أهل البيت عليهم السلام.
* من الروايات
أورد الشيخ الصّدوق في كتابه المرجعي (التوحيد) في باب تفسير قول الله عزَّ وجلّ: ﴿..كلّ شيءٍ هالكٌ إلّا وجهه..﴾ القصص:88، عدّة روايات -حول «وجه الله»- منها:
1 - عن أبي حمزة، قال: قلتُ لأبي جعفر عليه السلام: قولُ الله عزّ وجلّ: ﴿..كلّ شيءٍ هالكٌ إلّا وجهه..﴾ القصص:88؟ قال: فَيهلك كلُّ شيءٍ ويبقى الوجه، إنّ الله عزّ وجلَّ أعظمُ من أن يوصَف بالوجه، ولكنْ معناه كلّ شيءٍ هالكٌ إلّا دينُه والوجهُ الذي يُؤتى منه.
2 - عن أبي بصير، عن الحارث بن المغيرة النّصري قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿..كلّ شيءٍ هالكٌ إلّا وجهه..﴾ القصص:88، قال: كلُّ شيءٍ هالكٌ إلّا من أخذَ طريقَ الحقّ.
3 - عن صفوان الجمّال، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ: ﴿..كلّ شيءٍ هالكٌ إلّا وجهه..﴾ القصص:88، قال: مَن أتى الله بما أمرَ به من طاعةِ محمّدٍ والأئمّة من بعده صلوات الله عليهم، فهو الوجهُ الذي لا يهلَك. ثمّ قرأ: ﴿من يُطِعِ الرّسول فقد أطاعَ الله..﴾ النساء:80.
4- وبهذا الإسناد: قال أبو عبد الله عليه السلام: نحنُ وجهُ الله الذي لا يهلَك.
(الشيخ الصدوق، التوحيد: ص 149)
* معنى الوجه عموماً وتطبيقاته
الوجه، هو الجزءُ المشْرف في الإنسان الذي إذا أردتَ أن تخاطبَ إنساناً فإنّك تواجهُه، فإذا أرادَ الإنسانُ أن يخاطبَ اللهَ عزّ وجلّ -واللهُ سبحانه وتعالى منزَّهٌ عن الجسميّة- فإلى مَن يتوجّه؟
يتوجّه إلى رسول الله، وأهل البيت، وليس غيرُهم أحدٌ يُتوجَّه به إلى الله عزّ وجلّ.
وتقريبٌ آخر: الوجه يُستعمَل في اللّغة العربية بمعنى الجهة؛ أنتَ أرسلت إنساناً إلى مكان. يذهب هذا الشخص ويقول: ذهبتُ في الوجه الذي وجَّهني إليه أبي أو فلان.
وهو تعبيرٌ مستعملٌ في اللّغة العربية: «في الوجه الذي وجّهتني إليه»، مثلاً: في رسالة الشهيد مسلم بن عقيل رضوان الله عليه، أو في رسائل أخرى نجد هذا النصّ: «الوجه الذي وجّهتني فيه» أو «إليه». إذاً الوجه: جِهة.
رسولُ الله صلّى الله عليه وآله، وأهل البيت عليهم السلام، جهةُ الله تعالى. الجهة التي تؤدّي وتوصِل إلى الله عزّ وجلّ، والتي مَن أتاها فقد أتى الله تعالى.
تقريبٌ ثالث: وجهُ الشيء أو وجه القوم: هو الوجيهُ في القوم، فلانٌ وجْهُ القوم.
مثلاً: كان الشيخ الصّدوق وجهَ العلماء في زمانه، أو: فلان وجهٌ من الوجوه المعروفة.
وجهُ القوم هو وجيهُ القوم، أي هو الموجَّه عند هؤلاء القوم، وكلّ من واجهه وجهاً لوجه فقد واجَه القومَ كلَّهم.
إذاً، وبهذا المعنى يكون معنى وجه الله: الوجيه عند الله: الموجَّه عند الله.
فيكون معنى أنّ أهل البيت عليهم السلام، وجهُ الله تعالى أنّهم الموجّهون عنده عزّ وجلّ، في سياق: ﴿..وكان عند الله وجيهاً﴾ الأحزاب:69.
﴿فتلقّى آدمُ من ربِّه كلماتٍ فتابَ عليه..﴾ البقرة:37
عن ابن عبّاس قال: سألتُ النبيَّ صلّى الله عليه وآله عن الكلمات التي تلقّى آدمُ من ربِّه فتابَ عليه، قال: سألَه بحقِّ محمّدٍ وعليٍّ وفاطمة، والحسنِ والحسين، إلّا تبتَ عليّ، فتابَ عليه. (الإربلي، كشف الغمّة: ج 2، ص 91)