إرادةُ الله تعالى
كما قدّمها العلّامة الطّباطبائي
____ د. علي أكبر ضيائي* ______
«يُفهم من كلام العلّامة السيّد محمد حسين الطباطبائي في (نهاية الحكمة) أنّ إرادة الله تعالى ليست مثلَ علمِ عينِ ذات الباري تعالى، بل هي من صِفات الفعل..».
في هذا السياق تحدّث الدكتور علي أكبر ضيائي في مخطوطة فلسفيّة، تقتطف «شعائر» منها هذا البحث. |
تُنتزَع الإرادة من مقام الفِعل مثل سائر الصّفات الفعليّة.
هذا الإنتزاع يتحقّق بشكلَين:
الأول: يُنتزع من نفس الفعل الذي يتحقّق في الخارج حيث يريد الله تعالى، ثمّ الإيجاب، ثمّ الوجوب، ثم الإيجاد، ثمّ يتحقّق الوجود.
الثاني: يُنتزع من العلّة التامة للفعل، حيث إنّ الفاعل عندما يجمع أسباب الفعل بصورة تامّة وكاملة يحدث الفعل.
ويقول العلامة الطباطبائي -في (النهاية) أيضاً- ردّاً على الذين يعتبرون الإرادة مصداقَ العِلم: «الذي نتسلمه أنّ الفاعل المختار من الحيوان لا يفعل ما يفعل إلّا عن علمٍ بمصلحة الفعل، وإرادةٍ بمعنى الكيف النفساني، وأنّ الواجب تعالى لا يفعل إلّا عن علمٍ بمصلحة الفعل، وأما أنّ هذا العلم الذي هناك، وجودُه وجودُ الإرادة والمشيئة وإنْ لم تكن ماهيّته هي الكيف النفساني فغير مسلَّم. نعم لنا أن ننتزع الإرادة من مقام الفعل كسائر الصّفات الفعليّة ".." وبالجملة لا دليلَ على صِدق مفهوم الإرادة على علم الواجب تعالى بالنّظامِ الأَصلح، فإنّ المراد بمفهومها:
1- إمّا هو الذي عندنا، فهو كيفيّة نفسانيّة مغايرة للعلم.
2- وإمّا مفهوم آخر يقبل الصّدق على العِلم بأنّ الفعل خير، فلا نعرف للإرادة مفهوماً كذلك، ولذا قدّمنا أنّ القول بأنّ علم الواجب تعالى بالنّظام الأحسن إرادةٌ منه أشبه بالتّسمية».
وفي بحث الصّفات الفعليّة وكوْنها زائدة على الذّات، أرجعَ العلّامة الطباطبائي الصّفاتِ الفعليّةَ المضافةَ إلى الغير -مثل الخالق والرّازق والمُعطي والجواد والغفور والرحيم وأمثال ذلك- إلى صفة القيّوم، معتبراً إيّاها زائدةً على الذّات المقدّسة.
يقول الحكيم السبزواري في (شرح المنظومة):
إنّ الحقيقي من المضافْ زِيدَ على الذّات بلا خلافْ
لكنّ مباديها القيوميـّةْ ترجع ذي نسبة إشراقيّةْ
ومن وجهة نظر العلّامة الطباطبائي أنّ الصفات الفعليّة تصدقُ حقيقةً على الله تعالى، لأنّ جميع هذه الصّفات ترجع الى أصلٍ في الذّات هو مصدرُ كلّ خيرٍ وكمال، ولهذا السبب فإنّ حدوث الصّفات وتأخّرَها عن الذّات لا يكون سبباً لحدوث التغيير والتكثُّر في الذّات.
ويعتقد العلّامة في بحث الإرادة أنّ الله إذا جعل أمراً ما ممكناً، فإنّ ذلك يكون مرادُه، واذا أراد شيئاً فإنه يوجِده.
وأمّا تعبيره رضوان الله عليه في إثبات كون الصّفات الفعليّة زائدةً على الذات فقد ورد في (نهاية الحكمة) بهذا الشّكل:
«لا ريب أنّ للواجب بالذّات صفاتٍ فعليّةً مضافةً إلى غيره كالخالق والرّازق والجواد والغفور والرحيم، إلى غير ذلك، وهي كثيرة جدّاً تجمعها صفة القَيُّوم. ولمّا كانت مضافةً إلى غيره تعالى كانت متوقّفةً في تحقُّقها إلى تحقّق الغير المضاف إليه، وحيث كان كلُّ غيرٍ مفروضٍ معلولاً للذّات المتعالية متأخّراً عنها، كانت الصّفة المتوقّفة عليه متأخّرة عن الذّات زائدةً عليها، فهي مُنتزعة عن مقام الفعل منسوبةٌ إلى الذّات المتعالية، فالموجود الإمكاني –مثلاً- له وجودٌ لا بنفسه، بل بغيره، فإذا اعتُبِر بالنّظر إلى نفسه كان وجوداً، واذا اعتُبر بالنّظر إلى غيره كان إيجاداً منه وصدق عليه أنّه مُوجِدٌ له، ثم إنّ وجوده باعتبارات مختلفة إبداعٌ وخَلْقٌ وصُنعٌ ونعمةٌ ورحمة، فيصدق على موجدِه أنّه مُبدِعٌ خالقٌ صانعٌ مُنعِمٌ رحيم.
ثمّ إنّ الشيء الذي هو موجده إذا كان ممّا لوجوده بقاءٌ ما -فإنّ بين يدَيه ما يديمُ به بقاؤه، ويرفعُ به جهاتَ نقصِه وحاجتِه- إذا اعتُبر في نفسه، انتُزع منه أنّه رِزقٌ يرتزق به، وإذا اعتُبر من حيث أنّه لا بنفسه، بل بغيره الذي هو علّتُه الفيّاضة له، صدق على ذلك الغير أنّه رازقٌ له، ثمّ صدق على الرِّزق أنّه عطيّةٌ ونعمةٌ وموهبةٌ وجُودٌ وكَرمٌ بعنايات أُخَر مختلفة، وصدق على الرّازق أنّه مُعطٍ منعمٌ وهّابٌ جوادٌ كريمٌ إلى غير ذلك، وعلى هذا القياس سائرُ الصّفات الفعليّة المتكثّرة بتكثُّر جهات الكمال في الوجود، وهذه الصّفات الفعليّة صادقة عليه تعالى صدقاً حقيقيّاً، لكنْ لا من حيث خصوصيّات حدوثها وتأخُّرها عن الذّات المتعالية حتّى يلزم التغيير فيه تعالى وتقدّس، وتُركّب ذاتُه من حيثيّات متغايرة كثيرة، بل من حيث أنّ لها أصلاً في الذّات ينبعث عنه كلُّ كمالٍ وخير، فهو تعالى بحيث يقوم به كلُّ كمالٍ ممكنٍ في موطنِه الخاصّ، فهو تعالى بحيث اذا أمكنَ شيءٌ كان مراداً له، واذا أراد شيئا أوجدَه، واذا أوجدَه ربّاه، وإذا ربّاه أكمَلَه، وهكذا. فَلِلواجب تعالى وجوبُه وقِدمُه، وللأشياء إمكانُها وحدوثُها».
وقال العلّامة الطباطبائي في الردّ على الذين يُرجِعون الإرادة الى العِلم:
«فإن قلتَ: ما سلكتموه من الطّريق لإثبات القدرة للواجب تعالى –وهو أنّ القدرة المجرّدة عن النّواقص والأَعدام هو كوْن الشيء مبدأً فاعليّاً للفعل عن علمٍ بكونه خيراً، وعن اختيارٍ في ترجيحِه، والواجبُ تعالى مبدأٌ فاعليٌّ لكلّ موجودٍ بذاته، له عِلمٌ بالنّظام الأصلح في الأشياء بذاته، وهو مختارٌ في فعلِه بذاته، إذ لا مؤثِّر غيره يؤثّر فيه، فهو تعالى قادرٌ بذاته– خِلوٌ عن إثبات الإرادة بما هي إرادةٌ له، والذي ذكره في تعريف القدرة بـ إنّها كونُ الشيء بحيث إنْ شاء فَعل وإنْ لم يشأ لم يفعل يتضمّن إثبات الإرادة صفةً ذاتيّةً للواجب، مقوّمة للقدرة، غير أنّهم فسّروا الإرادة الواجبيّة بأنّها علمٌ بالنّظام الأَصلح.
قلتُ: ما ذكروه في معنى القدرة يرجع إلى ما أوردناه في معناها المتضمّن للقيود المبدئيّة والعلم والإختيار، فما ذكروه في معنى قدرته تعالى حقّ، وإنّما الشأن كلّ الشأن في أخذهم علمَه مصداقاً للإرادة، ولا سبيل إلى إثبات ذلك، فهو أشبهُ بالتّسمية».
ومن وجهة نظر بعض الفلاسفة مثل صدر الدين الشيرازي والحكيم السّبزواري فإنّ الإرادة مصداقٌ للعلم، وليس بالشكل الذي بيّنه العلّامة الطباطبائي بالعكس، لأنّ الإرادة من وجهة نظر الفلاسفة عبارة عن العلم العنائي بالنظام الأتمّ والأكمل والأصلح، وبناءً على هذا فإنّ العلم -من وجهة نظر هؤلاء- أعمُّ من الإرادة وليس بالعكس، وبما أنّ العلم الإنفعالي لا يُعتبر مصداقاً للإرادة، فلا يمكن اعتبار العلم مصداقاً للإرادة، بل إن الإرادة هي مصداقٌ للعلم، والمقصود من المصداق هو معنى خاصّ للعلم، وهو نفس العلم العنائي بالنظام الأصلح.
* الحجّة البالغة في عينيّة العِلم والإرادة عند الامام الخميني، ورأي الحكماء فيها (لم يطَبع).