علمُ الرّجال
منهج عِلمي في اعتمادِ النّصّ
ـــــ إعداد: «شعائر» ـــــ
نظراً إلى أهميّة «عِلم الرّجال» في اعتبار النّصّ، ونظراً إلى عدم اطّلاع الكثيرين على الجهد المُضني الذي يبذلُه العلماء للوصول إلى مرحلة «اعتبار النّصّ» واعتماده للبحث والتّحليل، تمسُّ الحاجةُ إلى معرفة حقيقة علم الرّجال، والفرق بينه وبين علمَي التّراجم والدّراية.
ما يلي، تعريفٌ بعلم الرّجال، وبموضوعه ومسائله كما وردت في كتاب (كليات في علم الرّجال) للشيخ جعفر السبحاني، على أن يتمّ التعريف في الأعداد اللاحقة بعلمَي التراجم والدّراية، وتمايزهما عن علم الرّجال.
يُشار إلى أنّ شروحات عددٍ من المصطلحات الواردة أدناه، منقولة عن كتاب (معجم مصطلحات الرّجال والدّراية) لمحمّد رضا جديدي نجاد. |
لـ«علم الرّجال» تعاريف كثيرة ، ولعلّ أشهرها ما يلي:
الأوّل: علمُ الرّجال علمٌ يُبحث فيه عن أحوال الرّواة من حيثُ اتّصافهم بشرائطِ قبول أخبارِهم وعدمِه.
الثاني: هو علمٌ يُبحث فيه عن أحوال رُواة الحديث التي لها دخلٌ في جواز قبول قولِهم وعدمِه.
الثالث: وربّما يعرّف بأنّه علمٌ وُضِعَ لتشخيص رواةِ الحديث ذاتاً ووصفاً، ومَدْحاً وقدْحاً.
والمرادُ من تشخيص الرّاوي «ذاتاً»، هو معرفةُ ذاتِ الشّخص، وكوْنه فلان بن فلان [نسبه]. كما أنّ المراد من التّشخيص الوصفيّ، هو معرفةُ أوصافه من الوثاقة ونحوِها. وأمّا عبارة: «مدْحاً وقدحاً» فهي بيانٌ لوجوه الوصف.
والمطلوبُ المهمُّ في هذا العلم –حسبما يكشفُ عنه التّعريف- هو التعرّف إلى أحوال الرّواة من حيث كونهم عدولاً أو غير عدول، موثّقين أو غير موثّقين، مَمدوحين أو مَذمومين، أو مهمَلين، أو مجهولين، والاطلاع على مشايخِهم، وتلاميذِهم، وحياتِهم، وعصورهم، وطبقاتِهم في الرّواية [الطبقة: هي في الاصطلاح عبارة عن جماعة اشتركوا في السّنّ ولقاء المشايخ، فَهُم طبقة، ثمّ بعدهم طبقةٌ أخرى، وهكذا]، حتّى يعرف «المُرسَل» عن «المُسنَد»، ويميز «المشترك»، إلى غير ذلك ممّا يتوقّف عليه قبولُ الخبر.
[المرسَل: هو الحديث الذي رواه عن المعصوم عليه السلام مَن لم يُدركه، سواءً كان الرّاوي السّاقطُ واحداً أم أكثر، وسواءً رواه بغير واسطة أم بواسطة، نَسِيَها أو تركها مع علمِه بها، أو أبهمَها كقولِه: «عن رجل» أو «عن بعضِ أصحابِنا»، هذا هو المعنى العام للمرسَل المتعارف عند أصحابِنا، وقد يختصُّ المرسَل بإسنادِ التّابعيّ إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله من غيرِ ذِكر الواسطة، وهذا هو المعنى الأشهر له عند الجمهور.
المُسنَد: هو الحديث الذي اتّصل سندُه مرفوعاً من راويه إلى منتهاه إلى المعصوم عليه السلام، وأكثرُ ما يستعمَلُ في ما جاء عن النبيّ صلّى الله عليه وآله. ويُقال له: «المتّصل» و«الموصول» أيضاً.
المشترك: هو ما كان أحدُ رجاله أو أكثرها مشتركاً بين الثّقة وغيره، ولابدّ من التّمييز؛ لتوقّف معرفة حال السّند عليه، والتمييزُ تارةً بقرائن الزمان، وأخرى بالرّاوي، وثالثة بالمَرويّ عنه، وغير ذلك من المميّزات]
ما هو موضوعُ علم الرّجال؟
موضوعه عبارة عن رُواة الحديث الواقعين في طريقِه، فبِما أنّ كلّ علمٍ يُبحَث فيه عن عوارض موضوعٍ معيّن وحالاته الطارئة عليه، ففي المقام يبحث عن أحوال الرّواة من حيث دخالتها في اعتبار قولهم وعدمه، أمّا حالاتهم الأُخَرَ التي ليست لها صلة في قبول قولِهم، فهي خارجة عن هذا العلم، فالبحثُ في هذا العلم إنّما هو حول اتّصاف الرّاوي بكونه ثقةً وضابطاً [المرادُ بالضّابط من يغلبُ ذكرُه سهوَه، لا مَن لا يسهو أصلاً] أو عدلاً أو غير ذلك من الأحوال العارضة للموضوع، أمّا الأحوال الأُخَرَ ككونه تاجراً أو شاعراً أو غير ذلك من الأحوال التي لا دخالة لها في قبول حديثِهم، فهي خارجة عن هذا العلم.
ما هي مسائله؟
إنّ مسائل علم الرّجال هي العلمُ بأحوال الأشخاص من حيث الوَثاقة وغيرها، وعند ذلك يُستشكل على تسمية ذلك علماً، فإنّ مسائل العلم يجبُ أن تكون كليّةً لا جزئيّة، وأُجيب عن هذا الإشكال بوجهين:
الأوّل: إنّ معرفة أحوال الرّاوي -كزُرارة ومحمّد بن مسلم- يعطي ضابطةً كليّة للمستنبِط بأنّ كلّ ما رواه هذا أو ذاك فهو حجّة، والشّخصُ مقبول الرّواية، كما أنّ معرفة أحوال وهب بن وهب يُعطي عكسَ ذلك، وعلى ذلك يُمكن انتزاعُ قاعدة كليّة من التّعرف على أحوال الأشخاص، فكانت المسألة في هذا العلم تدور حول: «هل كلُّ ما يرويه زرارة أو محمّد بن مسلم حجّة أم لا؟»، والبحث عن كونه ثقةً أو ضابطاً يعدّ مقدّمةً لانتزاع هذه المسألة الكليّة.
وهذا الجواب لا يخلو من تكلّفٍ كما هو واضح، لأنّ المسألة الأصليّة في هذا العلم هو وثاقة الرّاوي المعيّن وعدمها، لا القاعدة المنتزَعة منها.
الثاني: موافقٌ للتّحقيق، وهو أنّ الالتزام بكون مسائل العلوم مسائل كليّة، التزامٌ بلا جهة، لأنّا نرى أنّ مسائل بعض العلوم ليست إلّا مسائل جزئيّة، ومع ذلك تُعَدُّ من العلوم، كالبحث عن أحوال الموضوعات الواردة في علمَي الهيئة [الفلك] والجغرافيَة، فإنّ البحث عن أحوال القمر والشّمس وسائر الكواكب بحوثٌ عن الأعيان الشخصيّة، كما أنّ البحث عن الأرض وأحوالها الطبيعيّة والاقتصاديّة والأوضاع السياسيّة الحاكمة على المناطق منها، أبحاثٌ عن الأحوال العارضة للوجود الشخصيّ، ومع ذلك لا يُوجِب ذلك خروجَهما عن نطاق العلوم. ويقرُب من ذلك «العرفان»، فإنّ موضوع البحث فيه هو «الله» سبحانه وتعالى، ومع ذلك فهو من أهمّ المعارف والعلوم، وبذلك يظهر أنّه لا حاجة إلى ما التزموا به من لزوم كون مسائل العلوم كليّة، خصوصاً العلوم الاعتبارية، كالعلوم الأدبيّة والرّجال، التي يكفي فيها كون المسألة (جزئيّةً كانت أم كليّة) واقعة في طريق الهدف الذي لأجلِه أُسِّسَ العِلم الاعتباري.
[قال الشعراني في تعليقه على (شرح أصول الكافي) للمازندراني: العلمُ إمّا جزئيّ، وإمّا كُلّي، ولا كمالَ في معرفة الجزئيّ من حيث أنّه جزئيّ، ألا ترى أنّه لا يهتمُّ أحدٌ بمعرفة أفراد الإنسان والنبات، وعمدتُهم معرفةُ الكلّي، وقد يُعتَنى بالجزئيّ من حيث إنّه يفيد فائدةً كليّة؛ كَعِلم الرّجال والتواريخ ومعرفة النّجوم الثوابت.]
..إِنَّمَا أَتَاكَ بِالْحَدِيثِ أَرْبَعَةُ رِجَال
سُئل أميرُ المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام عن أحاديث البِدع، وعمّا في أيدي الناس من اختلاف الخبَر. فقال عليه السلام:
إنَّ فِي أَيْدِي النَّاسِ حَقّاً وَبَاطِلاً، وَصِدْقاً وَكَذِباً، وَنَاسِخاً وَمَنْسُوخاً، وَعَامّاً وَخَاصّاً، وَمُحْكَماً وَمُتَشَابِهاً، وَحِفْظاً وَوَهْماً ".." وَإِنَّمَا أَتَاكَ بِالْحَدِيثِ أَرْبَعَةُ رِجَالٍ لَيْسَ لَهُمْ خَامِسٌ:
1- رَجُلٌ مُنَافِقٌ مُظْهِرٌ لِلْإِيمَانِ، مُتَصَنِّعٌ بِالْإِسْلاَمِ، لاَ يَتَأَثَّمُ وَلاَ يَتَحَرَّجُ، يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم- مُتَعَمِّداً، فَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ كَاذِبٌ لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ، وَلَمْ يُصَدِّقُوا قَوْلَهُ ".."
2- وَرَجُلٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللهِ شَيْئاً لَمْ يَحْفَظْهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَوَهِمَ فِيهِ، وَلَمْ يَتَعَمَّدْ كَذِباً، فَهُوَ فِي يَدَيْهِ، يَرْوِيهِ وَيَعْمَلُ بِهِ، وَيَقُولُ: أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم- فَلَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ وَهِمَ فِيهِ لَمْ يَقْبَلُوهُ مِنْهُ، وَلَوْ عَلِمَ هُوَ أَنَّهُ كَذلِكَ لَرَفَضَهُ.
3- وَرَجُلٌ ثَالِثٌ، سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم- شَيْئاً يَأْمُرُ بِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ نَهَى عَنْهُ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ، أَوْ سَمِعَهُ يَنْهَىُ عَنْ شَيْءٍ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ وَهُوَ لا يَعْلَمُ، فَحَفِظَ المَنسُوخَ، وَلَمْ يَحْفَظِ النَّاسِخَ، فَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضَهُ، وَلَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ إذْ سَمِعُوهُ مِنْهُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضُوهُ.
4- وَآخَرُ رَابِعٌ ".." حَفظَ مَا سَمِعَ عَلَى وَجْهِهِ، فَجَاءَ بِهِ عَلَى مَا سَمِعَهُ، لَمْ يَزِدْ فِيهِ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ، وَحَفِظَ النَّاسِخَ فَعَمِلَ بِهِ، وَحَفِظَ الْمَنْسُوخَ فَجَنَّبَ عَنْهُ، وَعَرَفَ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ، وَالمُحْكَمَ والمُتَشَابِهَ فَوَضَعَ كُلَّ شَيْءٍ مَوْضِعَهُ.
وَقَدْ كَانَ يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم- الْكَلاَمُ لَهُ وَجْهَانِ: فَكَلاَمٌ خَاصٌّ، وَكَلاَمٌ عَامٌّ، فَيَسْمَعُهُ مَنْ لاَ يَعْرِفُ مَا عَنَى اللهُ بِهِ، وَلاَ مَا عَنَى بِهِ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم- فَيَحْمِلُهُ السَّامِعُ، وَيُوَجِّهُهُ عَلَى غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِمَعْنَاهُ، وَمَا قُصِدَ بِهِ، وَمَا خَرَجَ مِنْ أَجْلِهِ، وَلَيْسَ كُلُّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم- مَنْ كَانَ يَسْأَلُهُ وَيَسْتَفْهِمُهُ، حَتَّى إِنْ كَانُوا لَيُحِبُّونَ أَنْ يَجِيءَ الْأَعْرَابِيُّ أَوْ الطَّارِىءُ، فَيَسَأَلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى يَسْمَعُوا، وَكَانَ لاَ يَمُرُّ بِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ إِلاَّ سَأَلْتُ عَنْهُ وَحَفِظْتُهُ، فَهذِهِ وجُوهُ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ فِي اخْتِلاَفِهِمْ، وَعِلَلِهِمْ فِي رِوَايَاتِهِمْ.
|