الحوارُ المُتسامي
دفعاً لعودةِ البَداوة العمياء
ـــــ إبراهيم محمود ـــــ
في زمن طاولت فيه «النّهايات» كلَّ ما حواه الميراث العالميّ من قِيم، راح الغربُ يستشعرُ خواءً مثيراً للهَلع في منظومته الأخلاقيّة. ولعلّ الجدلَ الذي يظهر حيناً ويخبو حيناً آخر، حول عودة الإيمان الدّينيّ ليملأَ الفراغات الرّوحيّة التي خلّفتها تجارب العلمانيّة الحادّة في غرب ما بعد الحداثة، إنّما يترجم أحد أوجه الخواء المشار إليه.
قبل نحو ثلاثة عقود، رفع الفيلسوف الألمانيّ «كارل بوبر» الصّوت، باحثاً عن عالم أفضل. ورأى أنّ المجتمع البشريّ بات يحتاج إلى السّلام أكثر من أي يومٍ مضى، لكنّه إلى هذا، يحتاج إلى صراعاتٍ فكريّة جادّة: قِيَم وأفكار يمكن الكفاح من أجلها.
كما بيّن -بوبر- درجةَ الجنون التي بلغها الصِّدام بين الحضارات والأديان والهويّات التي تشمل العالم كلّه، حتّى أنّه انبري إلى استعادة صورة «البداوة العمياء» التي عاشتها أوروبا في القرون الوسطى، مبدياً تشاؤمه من عودة هذه الصّورة، وإن استُبدلت بتقنيّات وآليّات عصر ما بعد الحداثة.
ويقرّر أنّ حضارة الغرب هي حضارة ناقصة، وأنّ هذا النّقص أمر بديهيّ. وحجّته البالغة في ذلك، أنّ من السهل إدراك أنّ المجتمع المثاليّ مستحيل. إذ في مقابل القيم التي يلزم أن ينتظمها مجتمعٌ ما، هناك قِيم أخرى تعارضها. حتى الحريّة، التي قد تكون أسمى القيم الاجتماعيّة والشّخصيّة، لا بدّ لها أن تكون مقيّدة، لأنّ حرية امرىءٍ ما قد تتعارض بالطّبع تعارضاً واضحاً مع حريّة امرىء آخر.
«القانون» أو «النظام»، هو الذي يمنح الحريّة عمقَها الوجوديّ، وبالتّالي أصالتَها. وهذا يعني أنّه لا مناص من ناظمٍ يتّصف بالرّحمانيّة، وتكون غايته الوصول بالكثرة الإنسانيّة إلى المشاركة الخلّاقة في الخير العام. وذلك لا يُحصّل إلّا متى كان لكلّ فرد حظّه من الحريّة. أي أن يحظى بفرديّته من دون أن يشعر بالاستلاب؛ خصوصاً حين يتنازل طوعاً عن قسط من «أنانيّته» للنّظام الذي يتولّى حفظ ما هو خيّرٌ فيه. فالشّيء المهّم الذي ينجزه «النّاظم الرحمانيّ» -بما هو حافظ للفرد والجماعة- هو ما يمكثُ في تسييل أحكام العقل، ودفعها باتجاه ملء مناطق الفراغ. فالفراغ معادلٌ للجهل، وهذا الأخير هو مصدرُ كلّ عنف وإلغاء وإقصاء... كما أنّه يجرّد الحريّة من رحمانيّتها، ويرمي بالاجتماع البشريّ في جحيم الفوضى القاتلة.
فلا بدّ من السّؤال عن السبيل الذي يأخذ بيدنا إلى ذلك الصّراط من الحرّيات المقيّدة برحمانيّة القانون. ووجدنا أن نؤسّس الجواب على ما نسمّيه بــ «أخلاقيّة الحوار». وهذه قاعدة تفضي إلى رؤية الغير بعين التبصّر الخلقيّ. ثمّ تنتهي إلى اللّقاء به كـ «وليٍّ حميم». على أنّ مقتضى التّبصّر الخلقيّ، هو أن ننظر إلى الغير بما هو ذاتنا من وجه مختلف. ووجه الاختلاف هنا ضروريّ لكلّ حوار منتج وخلّاق.
حين يُستأنف السّجالُ على نشأة العنف، لا يعود ثمة متَّسع للدفع الرّحمانيّ نحو الخير العامّ. وفي عالم يكتظّ اليوم بما لا حصر له من عوامل النّزاع، يفيض التّساؤل عمّا يمكن أن يصير إليه معنى الحوار وجدواه. ثمّة من يسأل عن احتمال نشوء «أمميّة للحوار»، بقيادة المرجعيّات العليا للأديان التّوحيديّة، وقوى المجتمع المدنيّ، والنُّخب الفكريّة والثقافيّة في الشّرق والغرب.
هل تنشأ مثل هذه الأمميّة الحواريّة، بحيث يكون ذلك حفراً لمسار، يعيد الاعتبار لنظام القِيم والأخلاق في العالم، ويستطيع إحداث توازن مع صانعي الشّأن الدّوليّ لمنع الحروب، ومكافحة الأوبئة، وصون حقّ الإنسان في الحياة والوجود؟