ومن الإسلاميّين.. مادّيّون*
_______ الشيخ حسين كوراني _______
عندما نلتقط من سُوق الثَّقافة العالميّة بعض سِلَعها، ونُمعن في التزامها الانتقائي بعشوائيّة، نُفَلسف ذلك بالانفتاح الثَّقافي!
فبماذا نُبرِّر عشوائيّة تطبيق الانفتاح الثَّقافي نفسه؟
هل يعني هذا الانفتاح العلاقة بالآخر الذي هو الخارج فقط؟
أم أنَّه يعني كلّ مجالات الثّقافة أينما وُجِدت؟
وهل هناك أولويّات في هذا الانفتاح؟
وهل من الأولويّات أن تَحظى قصص «روكامبول» و«أرسين لوبين» بما لا يَحظى به من احترام ما كَتَبه السَّهروَردي أو صدر المتألِّهين؟
أوَليس ذلك تطبيقاً مغلوطاً جدّاً ومُمعِناً في القُبح لِسلعة «الانفتاح الثَّقافي»؟
أوَليس في واقعه انغلاقاً وتحجُّراً وتصحُّراً يَتظاهر بالحداثة؟
مَن يرى من واجبه أن «يَلعن» التَّصوُّف والعرفان، فليفعل ذلك وهو يَقرأ نتاجهما، أو وهو مُنفتح على قراءته.
أوَلسنا نحثُّ على القراءة للكفَّار والملحدين والمجانين، وحجَّتنا في ذلك أنَّ «النّصّ» يؤكِّد على الانفتاح الثّقافي الذي جعلناه انتقائيّاً.
وما هو السّرّ في ضراوة هذه العدوانيّة لكلِّ ما يُمكن اتِّهامه بالتَّصوُّف ورَمْيه بالعرفان.
هل هو الشَّطح والهلوَسة التي اشتهر بهما أكثر المتصوِّفة أو كلّهم، وكثيرٌ من «العرفاء».
أم هو «الأنا» الثّقافيّة! التي تُصرُّ على الابتعاد عن مواطن التُّهمة ثَبُتت أم لم تَثبت، حقّاً كانت أم باطلاً؟
أم أنّه «الأنا» الحديثة! التي بلغت في ذُرى الحداثة الموقع الذي يخوِّل مَن لم يَدرس «المنطق» أن يرثي لحال أرسطو والمنطق الصّوري، ويَزدري هؤلاء الذين لم يغادروا بعد مَنْطقه المتخلِّف، ويَسمح كذلك لمَن تَسْتَبِن له حقيقة أمر الحلَّاج أن يساوي بينه وبين «صدر المتألّهين».
ما أنا بصدده بالتَّحديد هو الدِّفاع عن الخزين الرّوحي في النّصّ المعصوم -الذي هو الأساس في كلِّ أبعاده- دون أدنى اكتراث بالدِّفاع عن المتصوِّفة أو العرفاء.
لقد ضاع هذا الخزين في عالمنا الذي حَمِي فيه وَطيسُ المادّة، إلى حيث صَهَر أَتونُه العقول وأَعاد قَوْلبتها، فلا يمكنها أن تغادر الإخلاد إلى الأرض لتُحلِّق في آفاق المعنى وسموِّ الرُّوح.
ولم يكن ذلك ممكناً في العالم الإسلامي لو لم يَضعف البُعد الرُّوحي في المسلمين.
ولم يكن ضعفه المفرط الذي وَصل إليه متاحاً إلَّا بالمدخل المناسب.
وليس أشدّ مناسبة من «شطحات» التَّصوُّف، وادِّعاءات أكثر «العرفاء».
يتَّضح من ذلك أن جناية التّصوُّف وأدعياء العرفان، تحتلّ المرتبة الأولى بين أسباب الماديّة «الإسلاميّة» لِيَتماهى دورُها في ذلك مع دور انحرافات الكنيسة التي أسَّست للمادّيّة الراهنة في الغرب والعالم عموماً.
ولم يكن بوسع الظّواهريّين أن يحقّقوا «إنجازاتهم» في محاربة المخزون الرّوحي في النصّ المعصوم، لولا هذه المادّة الخصبة التي وُضِعت في متناولهم، فانطلقوا منها إلى التّعميم والإطلاق من دون أيّ دليل علميّ.
ويتركّز خطأ هذا التّعميم، وخطر هذا الإطلاق في ثلاث مجالات:
الأوّل: اعتبارُ كلّ مَن يحاول التّعمّق في دلالة اللّفظ صوفياً.
الثاني: اعتبار أنّ ادّعاءات الأغلبيّة من «العرفاء» تجعل العرفان والتصوّف من بابٍ واحد وعلى حدٍّ سواء، وعدم التقاط المائز بين العرفاء والعرفان أو بين أكثر ألوان العرفان وبين اللّون السّليم منه.
الثالث: وَلْنَفترض أنّ العرفاء والعرفان من نفس طينة التصوف وشَطحات الصّوفيّين، فما هو المسوِّغ للإعراض العملي عن المحتوى الرّوحي في الإسلام، الذي لا يُمكن أن يبلغ «الحالة» التي بلغها من دون موقفٍ نظريّ.
_______________________
* من كتاب (في المنهج: المعصوم والنص)