انقطع الإمام الخميني رضوان الله عليه, إلى الله تعالى, وعاش معه, يرتل كتابه ويتدبر آياته، يسبر أغوارها، ناظراً فيها بنور الله, عارضاً عليها سنة المصطفى وأهل بيته عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، معمقاً حصيلته من ذلك بالمخزون الشعوري والوجداني الهائل، الذي منحه إياه الله تعالى, المتمثل بحمل هم الآخرة والدنيا, هم الوقوف بين يدي الله عز وجل، وهم المسؤولية عن عباده, فكان "خط الإمام" الذي يمتاز عن سائر الخطوط والسبل، ليتحد مع خط الإسلام وصراطه المستقيم.

لقد سلك الكثيرون صراط التزكية, العلم, العمل, إلا أن الإمام قد وفقه الله جل وعلا أن يبلغ في كل ذلك الذرى, لتصبح تجربته خطاً وميزاناً.

لا التزكية وحدها طريق إلى العلم, ولا العلم وحده, بل إنهما معاً بمعزل عن العمل زوبعة سرعان ما تتلاشى.

"واتقوا الله ويعلمكم الله, والله بكل شيء عليم". (1)

"إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه". (2)

"العلم يزكو على الإنفاق". (3)

ولا إنفاق للعلم أفضل من مواجهة سلاطين الجور بكلمة الحق, ودعوة المستضعفين إلى نصرة دين الله، وإعلاء كلمته.

وبمقدار البراءة من الطواغيت, تكون ولاية الرحمن "فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله" حتى يُ$دخل الله تعالى الولي في درعه الحصينة التي يجعل فيها من يشاء, فيصبح عينه التي بها يبصر، وسمعه الذي به يسمع، ويده التي بها يبطش.

وكما تصبح الرمية رمية الله, تصبح الكلمة كلمة الله، تسديداً من الله تعالى لعبده، ووفاء بوعد الذكر لمن ذكره, والإستجابة لمن دعاه, وهو بعد أكرم الأكرمين.

ولا تجد الأمة في هذا القرن من حمل هم الآخرة والدنيا كالإمام الخميني، فالهم الخميني فريد فرادة صاحبه, بل هو السر في شخصية الإمام.

 والبراءة الخمينية من الطواغيت فريدة.

 من هنا كانت ولايته فريدة, فوفقه الله تعالى لهز الخافقين، واقتحام الدنيا براية لا إله إلا الله محمد رسول الله.

وما يزال الخميني المفدى, وبعد وفاته, هاجس كل الطواغيت "والذي نفس محمد بيده، لَعالِمٌ واحد أشد على إبليس من ألف عابد، لأن العابد لنفسه، والعالم لغيره". (4)

فكيف إذا كان العالم عابداً.

وكيف إذا كان العالم العابد كالإمام الخميني طيب الله ثراه.

***

وما أقدمه للقاريء الكريم من "وصايا الإمام" رضوان الله عليه، هو ثلاث رسائل:

* الأولى: إلى ولده حجة الإسلام السيد أحمد الخميني حفظه الله.
* الثانية والثالثة: إلى زوجة السيد أحمد، السيدة فاطمة الطباطبائي
.

وقد نُشرت الرسالة الأولى بالفارسية باسم "المنعطف".

كما نُشرت الثانية والثالثة مرتين باسم: "خمرة العشق" و "طريق العشق".

تكمن أهمية هذه الرسائل، في كونها حصيلة معاناة طويلة وعصارة تجربة فريدة لعبد الله المسدد العظيم عرفاناً, وعبادة, وفقهاً, وجهاداً.

وهذه الرسائل - على صغر حجمها - تقدم منهجاً متكاملاً، يرسم ملامح الشخصية الإسلامية ويحدد مقوماتها, ويهدي إلى الصراط السوي في السلوك إلى الله تعالى.

والخطوط العامة لهذا المنهج هي:

1 – عمق الإيمان بالله تعالى.
2 – حمل هم بناء النفس, وأثر الذكر في ذلك.
3 – الإهتمام بأمور المسلمين و "القيام" ضد الطواغيت.
4 – الدافع الإلهي في جميع الأعمال
.

وأذكر هنا بعض ما قاله رضي الله عنه حول هذه الخطوط الرئيسة ليتابع القاريء الكريم التقاط ما يصب فيها:

*حول عمق الإيمان:
إ
بذل الجهد لتصل كلمة التوحيد ".." من عقلك إلى قلبك, فإن حظ العقل هو ذلك الإعتقاد البرهاني الجازم, وإذا لم يصل حاصل هذا البرهان بالمجاهدة والتلقين إلى القلب، فإن فائدته وأثره لا يكادان يذكران ".." عليك بالمجاهدة لتودع الله القلب ولا ترى مؤثراً غيره.

* وحول بناء النفس وأثر الذكر فيه:
* ما أحسن أن تلقن نفسك حقيقة واحدة – وتقنعها بها – وهي أن مدح المداحين وإطراء المطرين كثيراً ما يهلك الإنسان ويجعله بعيداً عن التهذيب وأشد بُعداً.
* التأثير السيء للثناء الجميل في نفوسنا الملوثة, أساس تعاستنا والإلقاء بنا بعيداً عن المحضر المقدس للحق جل وعلا.
* القيود والأغلال والأقفال الشيطانية إذا تمت الغفلة عنها في مرحلة الشباب، فستضرب جذورها في كل يوم يمضي من العمر وتصبح أقوى.
* في الطريق آفات كثيرة، ولكل عضو ظاهرٍ وباطنٍ منا آفات, لكلٍ حجاب, إذا لم نتخط ذلك ونتجاوزه، فلن نصل أبداً إلى أول خطوة من السلوك إلى الله.
* وهذا لا يكون إلا بالمجاهدة، وترك شجرة إبليس بكل غصونها وأوراقها وجذورها المنتشرة في وجودنا، وهي كل يوم تزداد قوة واتساعاً.
*ما هو أساس نجاة البشرية واطمئنان القلب، هو التحرر من الدنيا وتعلقاتها، ويحصل ذلك بالذكر الكثير لله تعالى.

*وفي الإهتمام بأمور المسلمين:
*... ولا يعني ما ذكرتُ أن تترك خدمة المجتمع، وتعتزل، وتكون كلاًّ على خلق الله، فإن هذه صفات الجاهلين المتنسكين أو الدراويش أرباب الدكاكين.
* سيرة الأنبياء العظام, والأئمة الأطهار, هي القيام بكل القوى ضد الحكومات الطاغوتية وفراعنة الزمان "من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم".

*وفي الدافع الإلهي:
*إذا أصبح لإنسان ملك الجن والإنس - بل إذا حصل عليه - فهو عارف بالله وزاهد في الدنيا، وإذا كان الدافع نفسانياً وشيطانياً فكل ما حصل عليه حتى إذا كان "سبحة" فقد ابتعد بهذا المقدار عن الله تعالى.

* أولئك الذين وجدوه وعشقوه ليس لهم دافع سواه, وبهذا الدافع أصبحت كل أعمالهم إلهية, الحرب والسلم, والضرب بالسيف, والكر, وكل ما تتصورين "ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين" لولا هذا الدافع الإلهي لما كانت تعادل فلساً، حتى إذا كانت سبباً لفتحٍ كبير.

***

وهكذا يقدم الإمام المنهج الذي يصون الفرد والأمة من مرض "البعد الواحد" الذي يحمل على تجزئة الطرح الإسلامي في بناء الشخصية المسلمة، واعتماد بعد إيماني مثلاً بمعزل عن حمل هم الأمة, أو بعد حركي سياسي بمعزل عن حمل هم الآخرة وعمق الإيمان بالله، والوقوف بين يديه سبحانه, أو يحمل على اعتماد منحى ثالث ملفق من هذا وذاك، يأخذ من كل منهما ضغثاً, إلا أنه لا يعطي الدافع الإلهي أهميته الحقيقية التي يبينها الإمام بكل وضوح قائلاً:

* إبني: لا الإعتزال الصوفي دليل الإرتباط بالحق, ولا الدخول في المجتمع وتشكيل الحكومة شاهد الإنفصال عن الحق, الميزان في الأعمال هو دوافعها, فكثيراً ما يكون العابد الزاهد مبتلى بشَرَك إبليس ".." وكثيراً ما يكون المتصدي لشؤون الحكومة ذا دافع إلهي فيحظى بمعدن قرب الحق كداود النبي...".

* ابنتي اهتمي برفع الحجب لا جمع الكتب ".." لا أقول اهربي من العلم والعرفان والفلسفة، واقضي عمرك بالجهل فإن هذا انحراف, أقول: اسعي وجاهدي كي يكون الدافع إلهياً ومن أجل المحبوب، وإذا عرضت شيئاً من العلم فليكن لله ولتربية عباده لا للرياء والتظاهر، فتصبحي لا سمح الله من علماء السوء الذين يتأذى أهل النار برائحتهم.

ولا أبالغ أبداً إذا قلت إن بعض فقرات رسائل الإمام رضوان الله عليه هي في حد ذاتها منهج متكامل في السلوك إلى الله, ومن ذلك قوله طيّب الله ثراه:

* إبني: لا تقْفُ أبداً أثر تحصيل الدنيا حتى الحلال منها، فإن حب الدنيا حتى حلالها، رأس جميع الخطايا، لأنها حجاب كبير، وتجر الإنسان مرغماً إلى الدنيا الحرام.

***

وفي الختام: ما أمس الحاجة إلى كتاب في "وصايا الإمام" يستخرج هذه الوصايا المبثوثة في كتبه وخطبه، وبياناته ومواقفه رضوان الله عليه، ويبوبها، لتكون الدليل على "خط الإمام".
 وما هذه الرسائل – على أهميتها – إلا غيض من فيض.

تغمد الله الإمام المقدس بواسع رحمته, وأفاض علينا من بركاته ورزقنا الثبات في خطه، حتى نحشر معه تحت راية المصطفى وأهل بيته الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين، يوم لا ظل إلا ظله سبحانه وتعالى, إنه سميع مجيب.

بيروت – حسين كوراني
25 ج 1 1411
هجرية

 


هوامش
(1) البقرة / 282.
(2) فاطر / 10.
(3) نهج البلاغة – الحكم – 147.

(4) ميزان الحكمة 6 / 461.