الرسالة الثالثة
   أيضاً إلى زوجة سماحة
السيد أحمد الخميني حفظه الله

 

بسم الله الرحمن الرحيم

*عزيزتي فاطمة:
أخيراً فرضتِ عليّ كتابة عدة أسطر, ولم تقبلي عذر الشيخوخة، والتألم، والإبتلاءات.
 الآن، أبدأ الحديث من آفات الشيخوخة والشباب, حيث إني أدركت المرحلتين, أو فقولي طويتهما، و "أنا" الآن في منحدر البرزخ أو النار، وجهاً لوجه مع أعوان حضرة ملك الموت, وغداً تعرض عليّ صحيفة أعمالي السوداء, ويطلبون مني حساب عمري الضائع, ولا جواب لديّ سوى الأمل برحمة من وسعت رحمته كل شيء, الذي أنزل على من هو رحمة للعالمين (لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً), عسى أن أصبح مشمولاً لهذا النحو من الآيات الكريمة.

لكن، ما العمل بالنسبة للعروج إلى حريم الكبرياء, والصعود إلى جوار المحبوب والورود إلى ضيافة الله، التي يجب الوصول إليها بالسعي الشخصي. (1)

في (مرحلة) الشباب (2) حيث كان النشاط والإستطاعة, وبمكائد الشيطان انشغلت بالمفاهيم والإصطلاحات المنمّقة والمبهرجة, ولم يحصل لي منها جمعية{ جَمعٌ } ولا حال، ولم أحاول أبداً الحصول على روحها، ولا إرجاع ظاهرها إلى باطنها، ومُلكها إلى ملكوتها وقلنا:
"لم يتحصل من قيل المدرسة وقالها، إلا الكلام المحزن، بعد كل ذلك الجهد والتوثب".
(3)

وقد غُصت في عمق الإصطلاحات والإعتبارات، وانشغلت بدلاً من رفع الحجب بجمع الكتب، وكأنه ليس في الكون والمكان وجود لغير حفنةٍ من ورق ممزق، سمّيت باسم العلوم الإنسانية، والمعارف الإلهية، والحقائق الفلسفية, مع أنها تحول بين الطالب المفطور بفطرة الله، وبين الوصول إلى المقصد، وتغرقه في الحجاب الأكبر.

الأسفار الأربعة (4) بطولها وعرضها منعتني عن السفر نحو المحبوب.

 لا من الفتوحات (5) حصل لي فتح, ولا من "فصوص (6) الحكم" حصلتُ على حكمة, فضلاً عن غيرهما الذي له قصة محزنة.

وعندما بلغتُ الشيخوخة، أصبحت في كل خطوة مني مبتلىً بالإستدراج، إلى أن بلغت الكهولة وما فوقها، التي أكابدها الآن (ومنكم من يردّ إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علمٍ شيئاً).

 لأنك - ابنتي - بعيدة عن هذه المرحلة فراسخ، ولم تتذوقي طعمها، أوصلكِ الله إليها, فإنك – ودون أخذ عوارض الشيخوخة بنظر الإعتبار – تتوقعين مني الكتابة والحديث, وتمزجين أيضاً بين النظم والنثر, ولا تعلمين أنني لستُ كاتباً ولا شاعراً ولا خطيباً.

 وأنتِ يا ابنتي العزيزة التي {لم تخبري الحياة بعد} (أصبحت حلوى قبل أن تصبحي حصرماً (7))!
 اعلمي أنكِ سوف تحملين على ظهرك يوماً، حمْل التأسف الثقيل على الشباب الذي تضيعينه بهذه المشاغل، أو بما هو أفضل منها، كما أحمله أنا {وسوف ترين} أن قافلة العشاق المحبين لله فاتتك - لا سمح الله - إذاً، اسمعي من هذا الهرم البائس، الذي يحمل هذا الحمل وقد انحنى تحته.
 لا تكتفي بهذه الإصطلاحات التي هي الفخ الكبير لإبليس، وكوني بصدد البحث عنه جل وعلا.

أيام الشباب وأنسها وملذاتها سريعة الزوال, وأنا قد طويت جميع مراحلها، وأصارع الآن عذابها الجهنمي.

 والشيطان الداخلي مصرٌّ على إبقاء روحي في قبضته كي - والعياذ بالله تعالى – يسدد الضربة الأخيرة.
 ولكنّ اليأس من رحمة الله الواسعة، هو في حد ذاته من الكبائر العظيمة، ولا قدّر الله أن يبتلى العاصي به.
 يقال إن الحجاج بن يوسف، مجرم التاريخ، قال في آخر عمره: اللهم اغفر لي، رغم أني أعلم أن الجميع يقولون إنك لا تغفر لي وعندما سمع الشافعي ذلك قال: إذا كان قال ذلك فلعلّ.
 وأنا لا أعلم هل وفّق ذلك الشقي لهذا الأمر أم لا، وأعلم أن الأسوأ من كل شيء هو اليأس.

وأنتِ يا بنيتي لا تغترّي بالرحمة، فتغفلي عن المحبوب ولا تيأسي فتخسري الدنيا والآخرة.

حفظ الله بحقِّ أصحاب الكساء الخمسة, أحمد وفاطمة وحسن ورضا وعلي – الذين هم سلالة الرسول العزيز ووصيه وبهذا أفتخر ويفتخرون – من الشرور الشيطانية والأهواء النفسانية.

انتهى هنا كلامي، وحجة الله تامّة عليّ، والسلام.

ربيع الثاني 1407
آذرماه 1365

على الغلاف الأخير:
... وهذه الرسائل على صغر حجمها تقدم منهجاً متكاملاً يرسم ملامح الشخصية الإسلامية ويحدد مقوماتها, ويهدي إلى الصراط السوي في السلوك إلى الله تعالى.

وتكمن أهمية هذه الرسائل في كونها حصيلة معاناة طويلة وعصارة تجربة فريدة لعبد الله المسدد (الإمام الخميني) العظيم عرفاناً, وعبادة, وفقهاً, وجهاداً.


هوامش
(*) ما بين قوسين ( ) كلمات إيضاحية من المترجم.
1-* يشير رضوان الله عليه ِإلى أن العمل مع الأمل برحمة الله تعالى هو المطلوب, أما ترك العمل والإكتفاء بالأمل برحمة من وسعت رحمته كل شيء فهو مرفوض, فإذا خلط المسلم بين عمل صالح وآخر سيء لضعفه، واعتمد على الأمل برحمة الله تعالى فإن هذه الرحمة إذا شملته، تنقذه من العذاب, لكنها لا تؤمن له الدرجات العلى مثل العروج إلى حريم الكبرياء، والصعود إلى جوار المحبوب، والورود إلى ضيافة الله، فإن ذلك متوقف على العمل، ولا يؤمّنه الأمل وحده.
2- * يؤكد الإمام كثيراً على مرحلة الشباب كما ترى في رسائله الثلاث هذه، ويعتبر أن الشباب ربيع التوبة, فعندما يهرم الإنسان أو يذهب شبابه، تضعف إرادته كما تضعف قواه البدنية, فلا يعود قادراً على العزم على ترك المعصية, ولا قادراً على تدارك ما فات بالسهولة التي كانت متاحة له في شبابه. والسبب في ضعف القوى المعنوية ومنها – الإرادة – هو تمكن جذور شجرة حب الدنيا من قلبه, حيث تضرب في أعماقه بعيداً مما يجعل اقتلاعها عصياً.
3- مضمون بيت.
4- الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة, وقد اشتهر باسم: " الأسفار الأربعة " لصدر المتألهين صدر الدين الشيرازي رضوان الله عليه.
5- الفتوحات المكية للعارف الكبير محيي الدين بن عربي رحمه الله.
6- فصوص الحكم لابن عربي أيضاً ويعتبر أهم كتبه على الإطلاق.

7- مثل, يقال لمن لم يخبر الحياة.