الرسالة الأولى: المنعطف
     إلى السيد أحمد الخميني حفظه الله

 

بسم الله الرحمن الرحيم

رسالة من والدٍ هرمٍ بالٍ, أفنى عمره بحفنة ألفاظ ومفاهيم وضيّع حياته في إناء الأنا, وهو الآن يُصعد أنفاسه الأخيرة متأسفاً على ماضيه، إلى ولده الشاب الذي يمتلك فرصةً ليفكر كعباد الله الصالحين بتحرير نفسه من التعلق بالدنيا، التي هي فخ إبليس الخبيث.

*إبني :{1 }
كرُّ الدنيا وفرُّها وصعودها وهبوطها {كل ذلك } ينقضي بسرعة وكلنا نُسحق تحت عجلات الزمان.

ومن خلال ملاحظاتي ومطالعاتي في حال الشرائح المختلفة، وصلتُ إلى هذه النتيجة: أن الشريحة المقتدرة والثرية، آلامها الداخلية والنفسية والروحية أكثر من سائر الشرائح.

إن لهؤلاء آمالاً وتمنيات كثيرة لم يحققوها، وهذه {الآمال والتمنيات } أشد إيلاماً بل تُقَرِّحُ الأكباد.

في هذا الزمان الذي نعيش، والدنيا تعاني من القطبين القويين، فإن ألم العذاب الذي يبتلى به رؤساء تلك الدول، وألوان القلق المهلكة التي يعيشها كل قطب تجاه القطب الآخر، لا يمكن أن يقاس بآلام ومشاكل الشرائح المتوسطة وغير الفقيرة.

تنافس أولئك ليس تنافساً عملياً، بل هو تنافس قاتل يقصم ظهر كل منهم, وكأن كلاًّ منهم في مقابل الآخر ذئبٌ مفترسٌ, يقف فاغراً فاه, حادّ الأسنان يريد افتراس الآخر، وعذاب هذا التنافس موجود في جميع الشرائح، من الشرائح الثرية والقوية إلى الطبقات {والشرائح } الأخرى.

لكن كلما ذهبنا صعداً {في سلم الثراء والقوة } يزداد عذاب التنافس بنفس النسبة.

وما هو أساس نجاة البشرية واطمئنان القلوب هو التحرر والإفلات من الدنيا وتعلقاتها، ويحصل ذلك بالذكر الدائم لله تعالى.{2 }

أولئك الذين هم بصدد العلو كيفما كان, سواءً العلو في العلوم حتى الإلهية منها أو في القوة والشهرة والثروة، يسعون في زيادة آلامهم.

المتحررون من القيود المادية، {أو الذين} خلصوا أنفسهم إلى حدود مّا من شَرَك إبليس هذا, هم في هذه الدنيا في سعادةٍ وجنةٍ ورحمةٍ.

في تلك الأيام التي كانت تُوجه فيها – أيام رضا خان البهلوي – ضغوطاتٌ مهلكةٌ، بهدف تغيير زي الروحانيين، وكانت الحوزات العلمية تعيش حمّى ذلك وآلامه {لا قدر الله الرحمن أن تمر مثل تلك الأيام على الحوزات العلمية } رأيت شيخاً حراً نسبياً قرب مخبز، يأكل قطعة خبز {دون إدام } يقول: قالوا لي إنزع عمامتك, فنزعتها وأعطيتها لشخصٍ يخيط منها قميصين له، والآن أكلت خبزي وشبعت, وإلى الليل ألله كبير.

ولدي: إذا قلت إني أشتري هذه الحالة بجميع مقامات الدنيا فصدّق, ولكن هيهات خصوصاً من مثلي المبتلى بأشراك إبليس والنفس الخبيثة.

*إبني:
أما أنا فقد فاتتني القافلة "يشيب ابن آدم وتشبّ فيه خصلتان: الحرص وطول الأمل".

لكن أنت لديك نعمة الشباب وقدرة الإرادة, الأمل أن تستطيع سلوك طريق الصالحين.

ولا يعني ما ذكرت أن تترك خدمة المجتمع وتعتزل، وتكون كلاًّ على خلق الله، فإن هذه صفات الجاهلين المتنسّكين أو الدراويش أرباب الدكاكين.

سيرة الأنبياء العظام صلى الله على نبينا وعليهم أجمعين، والأئمة الأطهار عليهم السلام، الذين هم صفوة العارفين بالله، والمتحررين من كل قيدٍ وغٌلّ، والمتعلقون بالساحة الإلهية، هي القيام بكل القوى ضد الحكومات الطاغوتية وفراعنة الزمان, وقد عانوا الآلام من أجل إجراء العدالة في العالم، وبذلوا الجهود التي تلقننا الدروس, وإذا كانت لنا عين بصيرة، وأذن سميعة، فسنجد فيها ما يفتح أمامنا الطريق, "من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم".{3 }

*إبني:
لا الإعتزال الصوفي دليل الإرتباط بالحق، ولا الدخول في المجتمع وتشكيل الحكومة شاهد الإنفصال عن الحق, الميزان في الأعمال هو دوافعها.
{4 }
فكثيراً ما يكون العابد والزاهد مبتلىً بشَرَك إبليس، وهو يوسع ذلك الشَرك بما يناسبه من الأنانية والغرور، والعجب والتكبر، وتحقير خلق الله، والشِّرك الخفي، وأمثال ذلك مما يبعده عن الحق ويؤدي به إلى الشِّرك.

وكثيراً ما يكون المتصدي لشؤون الحكومة ذا دافع إلهيٍ، فيحظى بمعدن قرب الحق كداود النبي وسليمان النبي عليهما السلام، وأعلى منهما وأسمى كالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وخليفته الحق علي بن أبي طالب عليه السلام، وكحضرة المهدي أرواحنا لمقدمه الفداء في عصر حكومته العالمية.

إذاً، ميزان العرفان والحرمان هو الدافع, كلما كانت الدوافع أقرب إلى نور الفطرة, أكثر تحرراً من الحجب حتى حجب النور{5 }, تكون أكثر ارتباطاً بمبدأ النور إلى حيث يصبح الكلام عن الإرتباط كفراً.

* إبني:
لا تلقِ عن كاهلك حمل المسؤولية الإنسانية التي هي خدمة الحق في صورة خدمة الخلق, فإن جولات الشيطان وصولاته في هذا الميدان ليست أقل من جولاته وصولاته بين المسؤولين والمتصدين للأمور {العامة } ولا تتعب نفسك للحصول على مقام مهما كان – سواءً المقام المعنوي أم المادي – متذرعاً بأني أريد أن أقترب من المعارف الإلهية أكثر, أو أني أريد أن أخدم عباد الله، فإن التوجه إلى ذلك من الشيطان, فضلاً عن بذل الجهد للحصول عليه.

الموعظة الإلهية الفريدة, اسمعها بالقلب والروح, واقبلها بكل قوتك وسر في خطها.

"قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى".{6 }

الميزان في أول السير هو القيام لله، إنْ في الأعمال الشخصية والإنفرادية، أو في الفعاليات الإجتماعية.

اسعَ أن تكون موفقاً في هذه الخطوة الأولى, فإن ذلك في أيام الشباب أسهل والتوفيق له أكثر إمكانية.

لا تفعل مثل أبيك, تهرم فتبقى تراوح مكانك، أو تتراجع، وهذا محتاج إلى المراقبة والمحاسبة.

إذا أصبح لإنسان ما – بدافع إلهي – ملك الجن والإنس, بل إذا حصل عليه فهو عارف بالله وزاهد في الدنيا.

وإذا كان الدافع نفسانياً وشيطانياً، فكل ما حصل عليه حتى إذا كان " سبحة " فقد ابتعد بهذا المقدار عن الله تعالى.

* إبني:
طالع سورة الحشر المباركة فإن فيها خزائن من المعارف والتربية، وتستحق أن يمضي الإنسان عمراً يفكر فيها, ويتزود – بالمدد الإلهي – منها {ألواناً من الزاد } خصوصاً آياتها الأواخر، من حيث يقول سبحانه: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون".. إلى أخر السورة.

في هذه الآية الصغيرة لفظاً, الكبيرة جداً من حيث المعنى, احتمالات بنّاءة منبّهة يشار إلى بعضها:

1 - يمكن أن تكون خطاباً للأشخاص الذين حصلوا على مرتبة الإيمان الأولى, مثل إيمان العامة.

وبناءً على هذا الإحتمال, يكون الأمر بالتقوى، أمراً بأول مراتبها، الذي هو التقوى العامة، وهي الحذر من مخالفة الأحكام الإلهية الظاهرية, وهي كذلك مرتبطة بالأعمال القالبية, وبحسب هذا الإحتمال, تكون جملة "ولتنظر نفس ما قدمت لغد" تحذيراً من عواقب أعمالنا, وشاهداً على أن الأعمال التي نعملها تأتي نفسها بالصورة المناسبة في النشأة الأخرى, وستلحق بنا.

وقد وردت آيات وروايات كثيرة حول هذا {7 }

 التفكير في هذا الأمر يكفي القلوب المتيقظة, بل يوقظ القلوب المؤهلة, وقد يكون مدخلاً يسهل الطريق إلى المراتب الأخرى.

والظاهر أن الأمر بالتقوى مكرراً تأكيد, رغم أن هناك احتمالاً آخر.

وقوله "إن الله خبير بما تعملون" أيضاً تحذير جديد من أن أعمالكم ليست مخفية عن محضر الحق، فإن جميع العالم محضر الحق.

2 – يمكن أن تكون {الآية } خطاباً للأشخاص الذين أوصلوا الإيمان إلى قلوبهم, فكثيراً ما يكون الإنسان بحسب الظاهر مؤمناً معتقداً بالشهادتين، لكن قلبه لا علم له بذلك, يكون عالماً معتقداً بالأصول الخمسة، إلا أن هذا العلم لم يصل إلى قلبه.

ولعل غير خواص المؤمنين هم جميعاً كذلك.

المعاصي التي تصدر من بعض المؤمنين منشأها هو هذا, إذا كان القلب مطلعاً على يوم الجزاء والعقاب الكذائي { المرعب } وقد آمن بذلك, فإن صدور المعصية والتمرد بعيد جداً.

الشخص الذي آمن قلبه بعدم إله إلا الله، لن يميل إلى غير الحق تعالى فيمدح الآخرين, ولن يخاف ويحذر غيره.

* إبني:
أحياناً أرى أنك تظهر الإنزعاج والقلق من التهم المؤلمة، وترويج الشائعات الكاذبة.

أولاً: يجب أن أقول لك, ما دمت حياً وتتحرك ويراك { الآخرون } منشأ تأثير، فإن الإنتقاد والتهمة واختلاق الشائعات ضدك، أمور لا يمكن اجتنابها.

العُقد كثيرة, والتوقعات المتزايدة وألوان الحسد كثيرة.

من كانت له فعالية حتى إذا كانت لله مائة بالمائة، فلن يمكنه أن يكون بعيداً عن تجريح أصحاب الأهواء السيئة.

أنا شخصياً أعرف عالماً جليلاً متقياً, لم يكن يقال عنه طيلة الفترة التي سبقت وصوله إلى رئاسة جزئية إلا الخير – نوعاً – ، وتقريباً كان مورداً لتسالم أهل العلم والآخرين {كان الجميع متفقين على مدحه }.
بمجرد أن توجهت النفوس إليه، وحصل على شاخصية دنياوية ولو أنها لا تكاد تذكر بالنسبة إلى مقامه {المعنوي } أصبح مورداً للتهمة والأذى وأنواع الحسد، وغلت {مراجل } العُقَد, وظل ذلك حاله طيلة الفترة التي أمضاها في قيد الحياة.

وثانياً: يجب أن تعلم أن الإيمان بوحدة الإله ووحدة المعبود ووحدة المؤثر لم يصل – كما ينبغي – إلى قلبك.

إبذل الجهد لتصل كلمة التوحيد – التي هي أعظم كلمة وأسمى جملة – من عقلك إلى قلبك, فإن حظ العقل هو ذلك الإعتقاد البرهاني الجازم, وإذا لم يصل حاصل هذا البرهان بالمجاهدة والتلقين إلى القلب، فإن فائدته وأثره لا يكادان يذكران.

كثيراً ما يكون بعض هؤلاء, أصحاب البرهان العقلي والإستدلال الفلسفي أكثر من غيرهم في شَرَك إبليس والنفس الخبيثة "أرجل الإستدلاليين خشبية" وتبدل هذه الخطوة البرهانية والعقلية بخطوة روحانية وإيمانية، عندما تصل من أفق العقل إلى مقام القلب، ويقبل القلب ما أثبته الإستدلال العقلي.

* إبني:
عليك بالمجاهدة لتودع الله القلب, ولا ترى مؤثراً غيره, أوليس عامة المسلمين المتعبدين يصلّون في اليوم والليلة عدة مرات – والصلاة زاخرة بالتوحيد والمعارف الإلهية – ويقولون عدة مرات في اليوم والليلة {إياك نعبد وإياك نستعين } ويوضحون بالبيان أن العبادة والإعانة خاصتان بالله.

إلا أن غير المؤمنين بحق، الخاصين بالله – الآخرين – يتذللون لكل عالم وقوي وثري, وأحياناً يأتون بأكثر مما يأتون به للمعبود, ويستمدون العون من كل شخص، ويستعينون بكل حشيش من أجل آمالهم الشيطانية، وهم غافلون عن قدرة الحق.

بناءً على هذا الإحتمال: أن يكون مورد الخطاب الأشخاص الذين وصل الإيمان إلى قلوبهم, فإن للأمر بالتقوى لهؤلاء فروقاً عن الإحتمال الأول.

هذه التقوى ليست التقوى عن الأعمال غير اللائقة.

 إنها التقوى عن التوجه إلى غيره, تقوى عن الإستمداد من غير الحق والعبودية لغيره.

تقوى عن فسح المجال لغيره جل وعلا إلى القلب, تقوى عن الإتكال والإعتماد على غيره.

كل ما ترى أننا – نحن وأمثالنا – مبتلون به, وما هو سبب خوفي وخوفك من الشائعات ونشر الأكاذيب، والخوف من الموت والتحرر من الطبيعة وإسلام الروح {هو } من هذا القبيل الذي يجب الإتقاء منه.

وفي هذه الصورة فإن المراد من { ولتنظر نفس ما قدمت لغد } الأفعال القلبية التي لها في الملكوت صورة, وفوق ذلك أيضاً صورة, والله خبير بخطرات قلوب الجميع.

وهذا لا يعني أن يترك { الإنسان } الفعالية ويربي نفسه التربية المهملة, ويجتنب كل شخص وكل شيء، ويختار العزلة, على خلاف السنة الإلهية والسيرة العملية لحضرات الأنبياء العظام والأولياء الكرام.

هم عليهم صلوات الله وسلامه, بذلوا في سبيل الأهداف الإلهية والإنسانية كل الجهود اللازمة, ولكن لا على شاكلتنا نحن عمي القلوب الذين ننظر إلى الأسباب على نحو الإستقلال.

بل كانوا يعتبرون كل شيء في هذا المجال – وهو من مقاماتهم العادية – منه جل وعلا.

وكانوا يرون الإستعانة بكل شيء استعانة بالمبدأ, وأحد الفوارق بينهم وبين الآخرين هو هذا, أنا وأنت وأمثالنا ننظر إلى الخلق والإستعانة بهم، غافلين عن الحق تعالى.

وهم كانوا يرون الإستعانة به في الواقع, حتى إذا كانت في صورة الإستعانة بالأدوات والأسباب، وكانوا يرون الحوادث منه رغم أن الأمر في الظاهر عند أمثالنا غير ذلك.

ومن هنا فإن الحوادث مهما كانت منغصة فإنها كانت عندهم هنيئة.

* إبني:
هناك أمر يثلج أفئدتنا نحن المتخلفين عن "قافلة الأبرار" وهو – في ما أرى – قد يكون دخيلاً في بناء من يكون بصدد بناء نفسه.

يجب أن ننتبه إلى أن منشأ فرحنا بالمدح والثناء، واستيائنا من الإنتقادات والشائعات هو حب النفس الذي هو أخطر شراك إبليس اللعين.

نحن نميل أن يكون الآخرون مداحين لنا, حتى إذا صوّروا أفعالنا العادية, وحسناتنا المتخيَّلة أكبر من حجمها بمئات المرات.

ونحب أن تكون أبواب انتقادنا – ولو بحق – موصدة أو يتحول انتقادنا إلى مديح.

ننزعج من الحديث عن معايبنا، لا لأنها ليست حقاً, ونفرح بالمدح والثناء لا لأنه حق بل لأنه "عيبي أنا" و "ومدحي أنا".

إذا صدر منك أمر ما, وصدر عين ذلك الأمر أو أفضل منه وأسمى من شخص آخر، خصوصاً أولئك الذين هم زملاؤك, وانبرى المداحون لمدحهم، فسيكون ذلك مزعجاً لك.

وأدهى من ذلك إذا حولوا عيوبهم مدائح!

 في مثل هذه الصورة, تيقّن أن يد الشيطان والنفس الأسوأ هي السبب.

* إبني:
ما أحسن أن تلقّن نفسك  حقيقة واحدة - وتقنعها بها - وهي أن مدح المداحين وإطراء المطرين كثيراً ما يهلك الإنسان ويجعله بعيداً عن التهذيب وأشدَّ بعداً.

التأثير السيء للثناء الجميل في نفوسنا الملوثة، أساس تعاساتنا والإلقاء بنا نحن ضعفاء النفوس بعيداً عن المحضر المقدس للحق جل وعلا.

ولعل البحث عن العيوب والشائعات مفيد لعلاج معايبنا النفسية – وهو كذلك – كالعملية الجراحية المؤلمة المفيدة للمريض.

أولئك الذين يبعدوننا بمدائحهم عن جوار الحق أصدقاء، يعبّرون عن عداوتهم لنا بصورة صداقة.

وأولئك الذين يظنون أنهم يعبّرون عن عداوتهم لنا بالذم والفحش واختلاق الإشاعات، هم أعداء يصلحوننا – إذا كنا أهلاً لذلك – إنهم يعبرون عن صداقتهم بصورة عداوة.

أنا وأنت إذا اقتنعنا بهذه الحقيقة، وتركنا الحيل الشيطانية والنفسية، نرى الواقعيات كما هي, عندها سنضطرب من مدح المداحين وثناء أهل الثناء، كما نضطرب اليوم من ذم الأعداء وشائعات المغرضين, وسنتفاعل مع الذم ونتلقاه، كما نتفاعل اليوم مع المدائح والإطراءات ونتلقاها.

إذا وصل إلى قلبك {شيء} مما ذكر, لن تتألم من المنغصات واختلاق الأكاذيب وستحصل على اطمئنان القلب, فإن أكثر المنغصات من الأنانية.

رحمنا الله جميعاً بالنجاة منها.

3 – الإحتمال الآخر: أن الخطاب لأصحاب الإيمان من خواص أهل المعرفة، والمولعين بمقام الربوبية، عاشقي الجمال الجميل الذين يرون بعين القلب ومعرفة الباطن جميع الموجودات مظهر الحق، ويرون نور الله في جميع المرائي {المرئيات } وأدركوا {الآية } الكريمة {الله نور السماوات والأرض } بالمشاهدة المعنوية والسير القلبي, رزقنا الله وإياكم.

بناءً على هذا الإحتمال فإن للأمر بالتقوى لهذه الطائفة من العشاق والخواص فروقاً عن الأمر بها للآخرين.

من الممكن أن تكون التقوى عن رؤية الكثرة وشهود المرائي والرائي {المرئيات ومن يراها } تقوى عن التوجه إلى الغير، حتى إذا كان في صورة التوجه إلى الحق من الخلق، تقوى عن "ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله قبله ومعه وبعده" {9 } الذي هو المقام العادي لخلّص الأولياء فإن لـ "شيء" هنا دخلاً في الحديث.

تقوى عن مشاهدة {الله نور السماوات والأرض }.

تقوى عن مشاهدة {هو معكم } و {وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض }.

تقوى عن مظهر جمال الحق في الشجرة.

ومن هذا القبيل ما يرتبط برؤية الحق في الخلق.

وعلى هذا المنوال يكون المراد من الأمر بالنظر في ما قدمناه لغد، تلك الحالات: مشاهدة الحق في الخلق، والوحدة في الكثرة، التي لها صورها المناسبة في العوالم الأخرى.

4 – احتمال أن الخطاب لأولئك الخلّص من الأولياء، الذين تجاوزوا مرحلة رؤية الحق في الخلق، وجمال حضرة الوحدة في الكثرة الفعلية، ولا أثر لغبار الخلق في مرآة مشاهداتهم، وتخلصوا من الشِّرك الخفي في هذه المرحلة، إلا أنهم أسلموا القلب لتجليات أسماء الحق، وأصبحوا العشاق المتيّمين لحضرة الأسماء, وتجلياتُهم الأسمائية فانية من الغير، ولا يشاهدون شيئاً غير جلوات {مظاهر} الأسماء.

بناءً على هذا يكون الأمر بالتقوى، تقوى عن رؤية الكثرات الأسمائية، والجلوات الرحمانية والرحيمية، وسائر أسماء الله.

كأن صوتاً يصيخ في مسامعهم، أنه من الأزل إلى الأبد، ليس هناك إلا جلوة واحدة.

وتفسر جميع الفقرات بما يناسب هذا, وأنهم إذا تجاوزوا هذا، فليس بعده شاهد ومشاهدة وشهود, وليس إلا الفناء في "هو المطلق" و "لا هو إلا هو".

5 – أشمل الإحتمالات أن كل لفظ مثل "آمنوا" و "اتقوا" و "انظروا" و "ما قدمت" وهكذا, يحمل على معناه المطلق، وكل مراتبه حقائق، فإن الألفاظ موضوعة للمعاني بدون قيد، ومطلقة من الحدود.

وإذا كان ثمة من احتمالات أخرى، فهي تندرج في هذا الإحتمال ومن مراتبه.

بناءً على هذا تشمل {الآية } كل فئة وطائفة من المؤمنين، بالمعنى الحقيقي وتكون {جميع الفئات والأقسام } مصاديق للعنوان المطلق.

وهذا المطلب يفتح طريق فهم كثير من الأخبار التي تطبق الآيات على فئة أو شخص، فيُتوهم الإختصاص، وليس كذلك، بل هو ذكر المصداق، أو المصاديق.
وبهذا المنوال الذي ذكر من الإحتمالات يُفتح الطريق – أيضاً – لفهم الآية المباركة {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون } التي هي بعد الآية المتقدمة.

وبحسب الإحتمالات المتقدمة, في هذه الآية الشريفة أيضاً، احتمالات متناسبة مع تلك الإحتمالات، مختلفة المراتب ومتحدة الحقيقة, لا مجال لتفصيلها, وأكتفي فقط بذكر نكتة{نقطة} واحدة،  وهي أن نسيان الحق موجب لنسيان النفس، سواء " النسيان " بمعنى عدم التذكر أو بمعنى الترك.

وفي كل من المعنيين إنذار عاصف.

إن لازم نسيان الحق تعالى، أن ينسى الإنسان نفسه، أو فقل يجره الحق تعالى، إلى نسيان نفسه وهو {أمر } صادق في جميع المراحل السابقة.

في مرحلة العمل, فإن الذي ينسى الله وحضوره جل وعلا، يبتلى بنسيان ذات نفسه أو يجر إلى ذلك.

ينسى عبوديته، فيجر من مقام العبودية، ومن لا يعرف ما هو؟ ومن هو؟ وما هي وظيفته والعاقبة؟ يحل الشيطان فيه، ويجلس بدلاً من ذاته, والشيطان عامل عصيان وطغيان.

وإذا لم يثب إلى رشده، ويرجع إلى ذكر الحق، وانتقل من هذا العالم على هذه الحال من الطغيان والعصيان، فقد يظهر {في ذلك العالم } على شكل شيطان مطرود من الحق تعالى.

وبالمعنى الآخر الذي هو بمعنى الترك, الأمر أشد إيلاماً، لأنه إذا كان ترك إطاعة الحق، وترك الحق، موجباً أن يتركه الحق {10 } ويكله إلى نفسه، ويقطع عنه عناياته، فلا شك في أنه ينتهي إلى  خذلان الدنيا والآخرة. {11 }

في الأدعية الشريفة للمعصومين، نجد أنه تم التأكيد على الدعاء، كي لا يكلنا الله إلى نفوسنا, لأنهم عليهم السلام، كانوا يعلمون نتائج هذه المصيبة ونحن غافلون عنها.

* إبني:
الذنوب, حتى إذا كانت صغيرة بنظرك, لا تستخفّ بها "انظر إلى من عصيت" وبهذا المنظار كل الذنوب عظيمة وكبيرة, لا تغتر بأي شيء، لا تغتر {برحمة } الله تبارك وتعالى، الذي كل شيء منه، وإذا انقطعت عنايته الرحمانية عن موجودات جميع أرجاء عالم الوجود لحظة، لن يبقى أثر حتى من الأنبياء والمرسلين، والملائكة المقربين، لأن جميع العالم جلوة {مظهر} رحمانيته جل وعلا.

ورحمته الرحمانية جل وعلا، هي على نحو الإستمرار – مع قصور اللفظ والتعبير – مُبقيةٌ لنظام الوجود و "لا تكرار في تجليه جل وعلا".

وأحياناً يعبر عنها ببسط الفيض، وقبضه على سبيل الإستمرار.

على أي حال, لا تنس حضوره، ولا تغتر برحمته، كما يجب أن لا تيأس ولا تغتر بشفاعة الشافعين عليهم السلام، فإن لذلك كله موازين إلهية ونحن لا نعرفها.{12 }

إجعل التأمل في أدعية المعصومين عليهم السلام وتحرُّقِهم وتفجُّعِهم، خوفاًَ من الحق والعذاب، عنوان أفكارك وسلوكك.

الأهواء النفسانية, وشيطان النفس الأمارة، يدخلاننا في الغرور ويجراننا – على هذا الطريق – إلى الهلاك.

* إبني:
لا تقْفُ أبداً أثر تحصيل الدنيا، حتى الحلال منها، فإن حب الدنيا حتى حلالها، رأس جميع الخطايا، لأنها حجاب كبير، وتجر الإنسان مرغماً إلى الدنيا الحرام.

أنت شاب، وتستطيع بقوة الشباب التي أعطاك الحق، أن تبتر أول خطوة انحراف، ولا تدعها تنجر إلى خطوات أخرى, لكل خطوة خطوة تتبعها, وكلُّ ذنب – حتى إذا كان صغيراً – يجر الإنسان إلى ذنوب كبيرة، وأكبر، بحيث تصبح الذنوب الكبيرة في نظر الإنسان، ليست شيئاً يذكر.

بل أحياناً يفتخر الأشخاص على بعضهم، بارتكاب بعض الكبائر، وأحياناً – بواسطة شدة الظلمات والحجب الدنيوية – يصبح المنكر معروفاً، والمعروف منكراً.

أنا أسأل الله تعالى جل اسمه أن ينير عين قلبك بجماله الجميل، ويرفع الحُجب من أمام عينيك، وينجيك من القيود الشيطانية والإنسانية، حتى لا تتأسف مثل أبيك – بعد تصرم أيام الشباب, وحلول الكهولة – على ماضيك, وتربط قلبك بالحق، حتى لا تستوحش من أي حادث، وتحرر قلبك من الآخرين، لتحرر نفسك من الشرك الخفي والأخفى.

بعد هذه الآيات إلى آخر السورة مسائل شيقة جداً، لا حال لي ولا مجال لأتحدث حولها.

يا إلهي, اجعل أحمد عندك, وافطم يا محمود فاطمة {عن الذنوب } واجعل حسن أحسن، ويسِّر أمر ياسر، وربِّ هذه العائلة المنتسبة إلى أهل بيت العصمة، بعناياتك الخاصة واحفظها من شر شياطين الداخل والخارج، ومُنَّ عليهم بسعادة الدارين.

وآخر وصيتي هي:
ابذل جهدك في خدمة الأرحام، خصوصاً أمك التي لها علينا حقوق، واحصل على رضاهم.

 والحمد لله أولاً وآخراً، والصلاة على رسول الله وآله الأطهار، واللعن على أعدائهم.

بتاريخ 17 / شوال / 1404 {هجري – قمري }
26 تير 63 {هجري – شمسي }
روح الله الموسوي الخميني


هوامش
{1 } ما بين قوسين {  } كلمات إيضاحية من المترجم.
{* } الهامش الذي يوضع في أوله علامة * هو من المترجم وما عداه من هوامش النسخة الفارسية.

{2 } إشارة إلى قوله تعالى " ألا بذكر الله تطمئن القلوب " الرعد / 28.

{3 } أصول الكافي – كتاب الإيمان والكفر باب الإهتمام بأمور المسلمين حديث 1 و 4 باختلاف يسير.
{4 } مضمون روايات متعددة حول أهمية النية مثل الرواية المعروفة " إنما الأعمال بالنيات " و " لا عمل إلا بنية " و " كل عامل يعمل على نيته " تراجع روايات باب النية في أصول الكافي كتاب الإيمان والكفر.
{5 }  إشارة إلى فقرة من المناجاة الشعبانية " وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور " بحار الأنوار ج 91 / 97.
{* } وتعتبر المناجاة الشعبانية من ركائز الخطاب الأخلاقي للإمام رضوان الله تعالى عليه.
{* } جاء في المحجة البيضاء 8 / 314: " واشتغال القلب بشهواته ومقتضى حواسه حجاب مرسل بينه وبين مطالعة اللوح { المحفوظ  } الذي هو من عالم الملكوت، فإن هبت ريح حركت هذا الحجاب ورفعته تلألأ في مرآة القلب شيء من عالم الملكوت كالبرق الخاطف وقد يثبت وقد لا يدوم وهو الغالب ".
وفي كتاب " در محضر أستاذ " ص 88 ما ترجمته بتصرف:
معنى حجاب النور، هو أن الإنسان تكون له أحياناً أهداف غير الله ،إلا أنها مورد لرضا الله سبحانه، كالعبادات التي يأتي بها الإنسان خوفاً من عذاب جهنم، أو طمعاً في دخول الجنة, وكصلاة الليل، أو بعض الأعمال المستحبة لسعة الرزق... هذه الأهداف وأمثالها حجب، لأنها اتُّخذت أهدافاً بدل أن يكون الله تعالى هو الهدف, وصاحبها يصل إليها، ولا يصل إلى الله لأنها هي هدفه حقيقة.
وهي نور لأنها ليست مورداً لغضب الله تعالى, بل هو عز اسمه، حللها.
وحجب الظلام، تلك الناتجة عن الأهداف الشيطانية والأعمال الشيطانية، فإن الإنسان في مثل هذه الحالة، بالإضافة إلى أنه يصبح محجوباً, يكون حجابه مظلماً, فيجعله مظلماً ويحول بينه وبين كل خير.

{6 } سبأ – 46.
{* } وتعتبر هذه الآية الكريمة أيضاً من ركائز الخطاب الأخلاقي للإمام القائد رضوان الله تعالى عليه.

{7 } من الآيات والروايات الدالة على أن للأعمال صوراً غيبية وأنها تلحق صاحبها الذي عملها وتلازمه في عالم ما بعد الموت:
" ووجدوا ما عملوا حاضراً " الكهف / 49.
" يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً " آل عمران / 30.
" وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى " النجم / 40.
" يؤمئذٍ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " الزلزلة / 6 – 7 – 8.
وروي عن الإمام الصادق عليه السلام:
إذا دخل المؤمن في قبره كانت الصلاة عن يمينه والزكاة عن يساره والبر مطلٌّ عليه ويتنحى الصبر ناحية فإذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مساءلته قال الصبر للصلاة والزكاة والبر: " دونكم صاحبكم فإن عجزتم عنه فأنا دونه ". الكافي / كتاب الإيمان والكفر – الصبر.
وروي عنه عليه السلام: إذا وضع الميت في قبره مُثِّل له شخص فقال له: " يا هذا كنا ثلاثة كان رزقك فانقطع بانقطاع أجلك وكان أهلك فخلّفوك وانصرفوا عنك وكنت عملك فبقيت معك أما إني كنت أهون الثلاثة عليك " بحار الأنوار 6 / 265.
{* } أهون الثلاثة عليك: كنت تستهين بي, وكان اهتمامك بي دون اهتمامك بالرزق والأهل.

{8 } * ترجمة صدر بيت لمثنوي وترجمة عجزه: والأرجل الخشبية لا يقر لها قرار.
{9 } الرواية في علم اليقين 1 / 149 باختلاف يسير.
{10 } * المراد والله العالم أن النسيان إذا كان بمعنى عدم التذكر فإن من ينسى الله ولا يتذكره ينسيه الله تعالى نفسه فلا يعود يتذكرها وهذا لا يدل على أن العنايات الإلهية تنقطع عنه حتماً, فقد تشمله عنايةٌ ما رغم أن الله أنساه نفسه فهو سبحانه لم يتركه وإنما أنساه نفسه.
أما إذا اعتبرنا النسيان بمعنى الترك فإن الآية بمعنى قوله تعالى { نسوا الله فنسيهم  } التوبة 67 أي تركوا الله فتركهم وترك الله تعالى للإنسان أشد من حمله له على نسيان نفسه, إنه بمعنى الخذلان خذلانه وإيكاله إلى نفسه, ومن هنا كان { الأمر أشد إيلاماً  }.

{11 } ورد في الأدعية المروية عن الموالي الكرام عليهم السلام " لا تكلني إلى نفسي " و " لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً " أصول الكافي كتاب الدعاء – باب القول عند الإصباح والإمساء حديث 10 وباب الدعاء للكرب والهم حديث 20 وباب دعوات موجزات لجميع الحوائج حديث 15.
ويقول الإمام زين العابدين عليه السلام في أحد الأدعية: " وانظر في جميع أموري فإنك إن وكلتني إلى نفسي عجزت عنها ولم أقم ما فيه مصلحتها " الصحيفة السجادية الدعاء 22.
ويقول عليه السلام في دعاء آخر: " ولا تكلني إلى حولي وقوتي " الصحيفة – الدعاء 47.

{12 } * أي أن الشفاعة حق ولكن ما الدليل لأحدنا على أن الموازين الإلهية التي تقوم الشفاعة وفقها تنطبق عليه حتماً حتى يغتر بشفاعة الشافعين عليهم السلام, وهذا يعني أن يعيش أحدنا – في مسألة الشفاعة – بين الخوف والرجاء الخوف من عدم انطباق موازينها الإلهية عليه والرجاء بشمول الشفاعة له وانطباق موازينها عليه, وهذا غير الركون الحتمي إليها والإغترار بها.
- مضمون رواية عن الإمام السجاد عليه السلام " حب الدنيا رأس كل خطيئة " ورواية عن الإمام الصادق عليه السلام: " رأس كل خطيئة حب الدنيا " أصول الكافي كتاب الإيمان والكفر باب ذم الدنيا والزهد فيها حديث 11 وباب حب الدنيا والحرص عليها حديث 1.