* إلى بيت هانيء
طبيعي جداً أن دخول ابن زياد إلى الكوفة كان إيذاناً ببدء
مرحلة جديدة للنظام والمعارضة على حد سواء، وطبيعي أيضا أن
ترتفع وتيرة حذر الشهيد مسلم، ليتجلى ذلك قبل كل شيء بالإنتقال
إلى مكان جديد تتوفر فيه المواصفات الأمنية والعسكرية الخاصة .
وكانت
هذه المواصفات تنطبق على بيت الشهيد هانيء بن عروة المرادي،
فانتقل الشهيد مسلم إليه.
ولا
ينبغي أن يؤبه بما في بعض المصادر من أن مسلماً انتقل دون علم
هانيء مسبقاً " فكره مكانه حين رآه، فقال له مسلم: "أتيتك
لتجيرني وتضيفني فقال: رحمك الله لقد كلّفتني شططاً، ولولا دخولك
داري وثقتك بي، لأحببت أن تنصرف عني، غير أنه يأخذني من ذلك
ذمام، وليس مردود مثلي على مثلك عن جهل. أدخل. فآواه ".
(1)
والدليل على عدم الإعتناء بهذا النص ما يلي:
1- 1- عند دخول ابن زياد الكوفة، وانتقال الشهيد مسلم إلى بيت
الشهيد هانيء، لم يحدث انهيار في الموقف الكوفي بمستوى أن يضطر
الشهيد مسلم إلى البحث عن مأوى يلجأ إليه، فيتوجه إلى بيت بدون
علم صاحبه.
2- وهل كان مسلم ليقبل الدخول إلى بيت هانيء وهو يعامله كلاجيء
مهيض الجناح.
3- قال الطبري نفسه: "وأخذت الشيعة تختلف إليه في دار
هانيء".
(2)
وتجمع المصادر على ذلك، وهو يشعر بأن نزول الشهيد مسلم كان
طبيعياً لا يشوبه من الشهيد هانيء حذر غير اعتيادي، يؤدي إلى
المنع أو التضييق.
4- استفاض في المصادر الحديث - كما سيأتي- عن جمع الرجال
والسلاح في الدور المجاورة لبيت الشهيد هانيء، سواء ما ورد على
لسان ابن زياد، أو ما ورد في سياق الحديث عن خروج الشهيد مسلم
لمحاصرة قصر الإمارة، وبديهي أن ذلك لا يتم بدون علم الشهيد
هانيء وتدبيره، وهو لا يتناسب مع كونه قد قبل استضافة الشهيد
مسلم على مضض.
ويخلص
ما تقدم إلى نتيجتين:
1- لا يمكن تقييم النصوص التي تغمز من قناة الشهيدين في هذه
الحادثة، بمعزل عن أجواء الرعب والإنكسار التي خيّمت على
المخلصين من آل الشهيد هانيء وذويه، وطال ليلها، فجعلتهم يروون
قصة دخول مسلم إلى دارهم بما ينسجم مع ما ذكره هانيء نفسه
رضوان الله تعالى عليه في مجلس ابن زياد، بدافع التقية.
2- أن أمر الإمام الحسين لسفيره إلى الكوفة بأن ينزل عند" أوثق
أهلها" ليس خاصاً بالمنزل الأول الذي اختاره عند وصوله الكوفة،
بل يشمل أي منزل يختاره، كما يشمل أن يكون هذا " الأوثق" من
صلب حركة الممانعة والإعتراض، مستعداً للتضحية بالغالي
والنفيس، وكذلك كان الشهيد الجليل هانيء، فاختاره ثقة الحسين
كمصداق بارز لأوثق أهل الكوفة في تلك المرحلة.
لهذا
كله فإن من الطبيعي جداً أن يكون انتقال الشهيد مسلم إلى بيت
الشهيد هانيء قد تم بعلمه مسبقاً ، واستعداده التام لكل ما
يترتب على ذلك.
ويتوقف معرفة ما جرى في بيت الشهيد هانيء على معرفة صاحب
البيت، فمن هو الشهيد هانيء بن عروة. وماذا كان يمثل في
الكوفة؟
* الشهيد هانيء بن عروة
* على أعتابه
ويبقى إسمه الوادع رمز مفصل بارز في غرائب حركة التاريخ.
كيف يواجه الحب بالحقد، والأمانة بالخيانة، والنصيحة بالغدر؟
لا تجد الإجابة على ذلك كله إلا لدى عمرو بن الحجاج وعمرو بن
الحجاج وعمرو بن الحجاج، الذي لا يُعرف من خاتمته إلا الهرب من
الكوفة ولكن لا يدرى هل اختطفته السماء، أم ساخت به الأرض من
هول جريمته النكراء.
(3)
ولولاه - وشُريح - لكان معقل وحتى محمد بن الأشعث، وأسماء بن
خارجة، وحتى الطامح اللاهث كُثَير بن شهاب، أعجز من أن تهوي على
أيديهم هذه القمة الشامخة.
ولكان ابن زياد آثر الهرب ملتقطاً العرض بأن يترك الكوفة
"فإنه قد جاء من هو أحق من حقك وحق صاحبك".
*ضبط الإسم
هانيء بن "عروة بن نمران بن عمرو بن فعاس
(4)
بن عبد يغوث بن محدش بن عصر بن غنم بن مالك بن عوف بن منبه بن
غطيف المرادي ثم الغطفي".
(5)
و"
مراد" بطن من" مذحج، مثال مسجد : أبو قبيلة من اليمن، وهو مَذحِج
بن يحابر بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ
(6)
" و يتفرع من هذا البطن أفخاذ كثيرة، منها : النخع، بنو الحارث
بن كعب، مراد، سعد العشيرة بن مذحج، الأشعر بن مذحج، طيء بن
مذحج، مالك بن مذحج. وكان أغلبهم يسكنون اليمن".
(7)
والصحيح في لفظ "هانيء" أنه بالياء المهموزة، أما " هاني" بدون
الهمزة فتجوُّزٌ ويُسر تناول.
(8)
*
أبرز الملامح
* كان أبوه من وجوه الكوفة الذين وقفوا مع الشهيد حجر بن عدي،
وكانت لزياد يد عنده في التدخل لصالحه عندما أراد معاوية قتله.
(9)
* و كان ابنه هانيء من أشراف الكوفة وأعيان الشيعة.
(10)
* وروي أنه أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتشرّف بصحبته،
وكان يوم قتل ابن تسع وثمانين سنة
(11) ،
وقيل إنه جاوز التسعين.
قال
ابن حَجَر:
" .. واستدعى (ابن زياد) بهانئ بن عروة فأدخل عليه القصر وهو ابن
بضع وتسعين سنة، فعاتبه، ثم طعنه بالحربة وحز رأسه، ورمى به من
أعلى القصر. والقصة مشهورة في جزء مقتل الحسين. والغرض منها
قوله إنه جاوز التسعين فيكون أدرك من الحياة النبوية فوق
الأربعين فهو من أهل هذا القسم، وقد مضى ذكر أبيه عروة في
القسم الثالث أيضا".
(12)
* تشرّف بصحبة أمير المؤمنين عليه السلام، وكان شديد الولاء له
وشارك معه في حرب الجمل، وينقل عنه أنه ارتجز فيها :
يالك حرباً حشّها جمّالها قائدة بنقصها ضلالها
هذا علي حوله أقيالها
(13)
والأقيال: جمع قيل، وهو الرئيس الأعظم، والنافذ قوله، والمعنى
هذا علي وحوله الرؤساء والقادة الكبار.
(14)
* كان موقعه الإجتماعي والسياسي والعسكري في الكوفة مميزاً،
فهو أحد الأعمدة الأساسيين والقلائل الذين كان يقوم بهم بنيان
هذه الحاضرة الأم، يقول المسعودي : هانيء بن عروة المرادي، شيخ
مراد، وزعيمها، وهو يومئذٍ يركب في أربعة آلاف دارع، وثمانية
آلاف راجل وإذا أجابتها أحلافها من كندة وغيرها، كان في ثلاثين
ألف دارع.
(15)
ويكشف ما قاله محمد بن الأشعث لابن زياد، وهو يستعطفه مخافة
على نفسه ليصفح عن هانيء، عن عظيم منزلة هانيء ومذحج في
الكوفة، فقد قال: إنك قد عرفت منزلة هانئ بن عروة في المصر
وبيته في العشيرة،".." (و) هم أعز أهل المصر وعدد أهل اليمن ".
(16)
والراجح أن الكوفة آنذاك كانت تعبيء مائة ألف مقاتل بل أكثر من
ذلك، مما يعني أن هانئاً رضوان الله تعالى عليه كان يعادل في
الظروف الطبيعية ثلث الكوفة - على أقل تقدير- وقد اختلف الأمر
جذرياً بعد هلاك معاوية، ثم ها هو مسلم بن عقيل يتحول إلى
داره، ليصبح هانيء يمثل - قبل الإنهيارالعام- كل الكوفة، وتطلعات
الممانعة والتغيير.
* نحن إذاً أمام شيخ جليل، طاعن في السن، شديد الولاء لأمير
المؤمنين وأهل البيت عليه السلام، ومن الضروري استحضار ذلك،
ونحن نتابع دخوله على ابن زياد - إبن الثلاثين أو حواليها -
(17)
ونتأمل مواجهته التطورات المتسارعة الحرجة، ونرصد من خلالها
ولاءه، والمودة في القربى.
* اعتراضات مردودة
ثمة تضارب شديد في النصوص حول الشهيد هانيء، وإذ يُحاول بعضها
الغمز من قناته، يتكفل البعض الآخر الدفاع والتنزيه. ويرجع
السبب في ذلك إلى أن أكثر المسائل التي اختلف فيها أنها صدرت
عن هانيء أم لم تصدر، هي من الأمور التي تتوفر الدواعي للكتمان
فيها بسبب الظروف الإستثنائية التي كان يعيشها هانيء، وتعيشها
الكوفة عموماً، في الفترة التي هي مسرح أكثر هذه النصوص، وقد
استمر ذلك لسنين.
وخلاصة ما تتحدث عنه المصادر المختلفة في هذا المجال، أن هناك
أربعة اعتراضات على هانيء بن عروة، تناولها المرجع الجليل
السيد بحر العلوم
(18) مثبتاً أنها لا تنسجم مع شخصية هانيء ومواقفه
الرائدة .
* الإعتراض الأول : أن هانيء بن عروة كان يزور ابن زياد بعد
دخول الأخير إلى الكوفة. ويُردُّ هذا الإعتراض بأن عدم ذهابه
إلى ابن زياد خلاف المصلحة لأن معرفة الأشخاص الموالين لمسلم
سوف تعرّضهم للإعتقال، وتسهم بالتالي في إجهاض محاولة السيطرة
على الكوفة، قبل أي تحرك فعلي إضافة إلى أن هانيء من الشخصيات
المعروفة والتي يعني حضورها، أو غيابها الشيء الكثير لوالٍ
جديد كابن زياد في ذلك الظرف المتفجر .
* الإعتراض الثاني: أن هانيء بن عروة نهى مسلماً عن الخروج على
ابن زياد، والجواب أن ذلك لا يُعد سبباً للإنتقاص من هانيء،
فلعله وجد مصلحة في تأخير الخروج ولم يسجل بأن مسلم قد اعترض
على هذا الرأي أو أنه حصل خلاف بينه وبين هانيء، وغاية الأمر
أن يكون قد أخطأ في تحديد المصلحة.
* الإعتراض الثالث : أن هانئاً منع مسلماً من قتل ابن زياد في
بيته. وسيأتي تضارب النصوص في هذا المجال، وأن التدبير لقتل
ابن زياد في بيت هانيء ليس أمراً ثابتاً، إضافة إلى أن هناك بعض
النصوص تشير إلى أن هانئاً كان هو المدبر لقتل ابن زياد في بيته،
إلا أن زوجة هانيء تعلقت بمسلم ومنعته من ذلك، وعندما علم هانيء
بما فعلت، قال : يا ويلها قتلتني ، وقتلت نفسها، والذي فرت منه
وقعت فيه. أضف أيضا أنه نوع تقدير للموقف.
* الإعتراض الرابع : أنه ذهب مع كندة إلى معاوية ودار بينه
وبين معاوية كلام طويل، ومن جملة ما ينقل في هذه القصة أن هانيء
بن عروة طلب من معاوية أن يتولى أخذ البيعة ليزيد، ويناقش
السيد بحر العلوم هذه الرواية فيعتبرها متهافتة باعتبار أن
أولها يعارض آخرها ولا يمكن القبول بها ولم ترد إلا في مصدر
واحد .
والطريف هنا أن هذه الرواية نفسها تسجل موقفاً لهانيء ينسجم مع
سيرته ومما ورد " أن هانيء بن عروة المرادي وكان سيداً في قومه
قال يوماً في مسجد دمشق والناس حوله العجب لمعاوية، يريد أن
يقسرنا { يجبرنا } على بيعة ابنه يزيد، وحاله حاله، وما ذاك
والله بكائن. وكان في المجلس فتى قرشي، فمضى ونقل كلام هانيء
رضوان الله عليه إلى معاوية، الذي كان يعرف موقع هانيء ومكانته
فأراد أن يحذره من هذا السلوك بطريقة غير مباشرة فقال للشاب
القرشي ترجع إلى هانيء وتنظر حتى يتفرق الناس من حوله وتقول له
هذه الكلمات وترد إليّ جوابه. قل له:" أيها الشيخ قد وصلت
كلمتك إلى معاوية ولست في زمن أبي بكر وعمر، ولا أحب أن تتكلم
بهذا الكلام فإنهم بنو أمية وقد عرفت جرأتهم وإقدامهم، ولا
يدعوني إلى هذا القول إلا النصيحة لك والإشفاق عليك ".
وذهب الشاب إلى هانيء فقال له هذه الكلمات، لكن هانئاً أدرك
بثاقب رؤيته أن هذا الكلام هو لمعاوية فقال : والله يا ابن أخي
ما بلغت نصيحتك كل ما أسمع، وإن هذا الكلام لكلام معاوية وأنا
أعرفه، فقال الفتى : وما أنا ومعاوية والله ما يعرفني. فقال :
ولا عليك إذا لقيته فقل له يقول لك هانيء: والله ما إلى ذلك من
سبيل، إذهب يا ابن أخي راشداً، فقام الفتى فدخل على معاوية
فأعلمه ، فقال : نستعين بالله عليه.
(19)
* التقييم النهائي : وبعد أن تناول السيد بحر العلوم رضوان
الله تعالى عليه، هذه الإعتراضات وفندها، قال :
"وهذه الأخبار على إختلافها في أمور كثيرة قد اتفقت وتطابقت
على ان هانيء بن عروة قد أجار مسلماً وحماه في داره وقام بأمره
وبذل النصرة له، وجمع له الرجال والسلاح في الدور حوله، وامتنع
من تسليمه لابن زياد لعنه الله، وأبى عليه كل الإباء، واختار
القتل على التسليم، حتى أهين وضرب، وعذّب، وحبس، وقتل صبراً،
على يد الفاجر اللعين. وهذه جملة كافية في حسن حاله وجميل
عاقبته ودخوله في أنصار الحسين عليه السلام وشيعته المستشهدين
في سبيله .
ويستشهد السيد بنصين لهانيء بن عروة يكشفان عميق ولائه لأهل
البيت عليهم السلام :
الأول: عندما قال الشهيد لابن زياد : لقد جاء من هو أحق من حقك
وحق صاحبك .
الثاني: عندما قال له أيضا : والله لو كانت رجلي على طفل من
أطفال آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ما رفعتها حتى تقطع".
ومما يدل أيضا على جلالة قدر هانيء رضوان الله عليه - كما نبه
على ذلك السيد أيضا - أن الإمام الحسين عليه السلام عندما أتاه
خبر شهادته وشهادة مسلم قال مراراً : رحمة الله عليهما ، وله
عليه السلام قول آخر: أتانا نبأ فظيع شهادة هانيء ومسلم ،
وكذلك قوله عليه السلام عندما بلغه شهادة عبد الله بن بقطر وقد
وصل ذلك إليه بعدما وصل خبر شهادة مسلم وهانيء : أللهم اجعل
لنا ولشيعتنا منزلاً كريما، واجمع بيننا وبينهم في مستقر من
رحمتك إنك على كل شيء قدير .
ومما يستشهد به السيد بحر العلوم لجلالة قدر هانيء، زيارته
التي يزار بها في الكوفة، وانتشارها بين علمائنا وهذه الزيارة
تتضمّن المدح الكبير، وهذه بعض فقراتها :
" سلام الله العظيم، وصلواته، عليك يا هانيء بن عروة،
السلام عليك أيها العبد الصالح، الناصح لله، ولرسوله، ولأمير
المؤمنين، والحسن، والحسين، أشهد أنك قتلت مظلوما".." أشهد أنك
لقيت الله وهو راض عنك، بما فعلت ونصحت وأشهد أنك بلغت درجة
الشهداء"
ويختم السيد قائلاً :
وذكروا - أي العلماء - له صلاة بعد الزيارة ووداعاً
بما يودع به مسلم بن عقيل، ويبعد أن يكون مثل هذا عن غير نص
وارد وأثر ثابت ".." وقد وجدنا شيوخ أصحابنا كالمفيد - رحمه
الله - وغيره يعظمونه في كتبهم ويعقبون ذكره بالترضية والترحم، ولم أجد أحداً من علمائنا طعن عليه أو غمز فيه.
* البيت وما حوله
كان التجمع السكاني في الكوفة قبلياً، أي كانت القبيلة كلها
تنزل في منطقة واحدة، ومن هذه القبائل "مراد" التي تتفرع من
قبيلة " مَذْحِج" والتي كان رئيسها الشهيد هانيء بن عروة، كما
تقدم " شيخها وزعيمها وهو يومئذٍ يركب في أربعة آلاف دارع،
وثمانية آلاف راجل، وإذا أجابتها أحلافها من كندة وغيرها كان
في ثلاثين ألف دارع".
(20)
ومعنى ذلك أن البيت الذي حل فيه الشهيد مسلم هو مركز الثقل
الأول في الكوفة بلا منازع، خصوصاً في الفترة الممتدة بين هلاك
معاوية واستدراج الشهيد هانيء إلى قصر الإمارة، وهي الفترة
التي كان غلب فيها على الكوفيين " وهم الثورة" كنتيجة طبيعية
لمعاناتهم من الولاة في عهد معاوية وفي طليعتهم سوء عهد زياد
ابن أبيه وشدة بطشه.
لقد تنفس الكوفيون الصعداء عند هلاك معاوية ومن الطبيعي أن
يجدوا في الشهيد هانيء الشخصية القيادية التي تقودهم في هدي
أهل البيت إلى الغد المشرق، بعد مخاض عسير طال ليله.
ولئن لم نجد اسم الشهيد هانيء في عداد الذين تحلقوا في منزل
سليمان بن صرد وكتبوا إلى الإمام ولا في أي من رسائل الكوفيين
إليه عليه السلام، فقد وجدنا هانئاً محور الشيعة في الكوفة
عندما ادلهمَّ الأفق ولاحت فيه سحب الشيطان عبر دخول ابن زياد
والياً عليها.
في هذا الظرف بالذات أصبح بيت الشهيد هانيء والدور من حوله
القلعة المدججة بموقع مذحج في المصر وبالرجال والسلاح بانتظار
ساعة الصفر.
ورغم أن الأمور قد اتخذت مسارها المأساوي، إلا أن هذا يكشف عن
ثقة المعارضة آنذاك قيادة وقاعدة بالشهيد هانيء، كما يكشف عن
موقع الشهيد هانيء المركزي في حركة المعارضة.
ويكشف أيضا أن بين ابن زياد ومهاجمة بيت الشهيد هانيء عقبات
كؤداً دون اجتيازها بالقوة العسكرية خرط القتاد، بل إن مجرد
محاولته ذلك يهدد وجوده بالإقتلاع.
* شريك بن الأعور
وفي هذا البيت أيضا نزل ضيف آخر جليل القدر عظيم المنزلة، هو
الآخر من كبار القادة المذحجيين، مما يرفع من مستوى استعداد
مذحج - لولا موت شريك والخيانة التي أفرغت مذحج من محتواها -
لتكون بمستوى خوض اللجج لإحقاق الحق، وقد جاء هذا الضيف القائد
مع ابن زياد من البصرة إلى الكوفة.
إنه شريك بن الأعور الحارثي الذي تقدم أنه تمارض في الطريق كما
ورد في المصادر لكي يؤخر ابن زياد عن الوصول إلى الكوفة.
كان مرض شريك حقيقياً، ولا ينافي أنه تظاهر بعدم تحمل مواصلة
السير، ثم اشتد به المرض، وتوفي في بيت هانيء، وكان صديقاً
لابن زياد يكرمه هذا الأخير، إلا أن شريكاً كان سليم المعتقد،
شديد الولاء لأهل البيت عليهم السلام، وربما يكون اصطحاب ابن
زياد له بهدف الإستعانة به في الكوفة على المذحجيين بشكل خاص،
أو بهدف إفراغ البصرة من مثله، أو للهدفين معاً، ويقوى
الإحتمال الثاني إذا صح أن الوفد المرافق لابن زياد بلغ
الخمسمائة، وقد تقدم استبعاده.
* وكان شريك بن الأعور من خواص أمير المؤمنين عليه السلام، شهد
معه الجمل وصفين.
(21)
* وتذكر في بعض المصادر مساجلة ملفتة بينه وبين معاوية، قال
شريك إثرها:
أيشتـمني مـعاوية بن صخر وسيفي صارم ومعي لساني
وحـولي من ذوي يمن ليوث ضراغمة تهش إلى الطعان
فلا تبسط علينا يا ابن هـند لسانك أن بلغت ذوي الأماني
وإن تـك للشقاء لنـا أميرا فإنـا لا نُقـر على الهـوان
وإن تـك من أمية في ذراها فـإني في ذرى عبـد المُدان
(22)
* وقد ولاّه معاوية كرمان، لأن ثقله الإجتماعي كان يفرض نفسه،
ولأنه لم يكن يظهر ولاءه لأهل البيت عليهم السلام، ولذلك
اصطحبه ابن زياد معه من البصرة- كما تقدم- وعندما اشتد عليه
مرضه، قررّ زيارته في بيت هانيء.
* وينبغي التنبه إلى أن شريكاً ليس ابن الحارث الهمداني الشهير
بين أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام المميز بحبه له، فإن
شريكاً مذحجي، والحارث همداني، ويوقع في الإشتباه وصف الحارث
بالأعور الهمداني، ووصف شريك بابن الأعور الحارثي الهمداني،
ويسهم البيت الأخير - من الأبيات المتقدمة - في أيضاح سبب وصف
شريك بالحارثي فإن عبد المدان ينسب إلى الحارث المذحجي، أما
وصف شريك بالهمداني فسببه غير واضح، وذكر في توجيهه أنه نزل
فيهم.
(23)
وتظهر فائدة هذه الخصوصية التي تكشف لنا عن مذحجية شريك، حين
نستعرض ما تناقلته المصادر عن تخطيط شريك لإغتيال ابن زياد،
فهو لم يكن مجرد ضيف عند زعيم المذحجيين في الكوفة، بل هو من
زعماء المذحجيين وأركانهم، ولذلك نزل عندهم، كما أنها تزيل أهم
أسباب استغراب نزوله في بيت هانيء، فلو "كان ابن الحارث
الهمداني لنزل عنده، في بيت أبيه، فقد كان الحارث حيّاً آنذاك
وتوفي عام 65 للهجرة".
(24)
* إغتيال ابن زياد: فكرة أم محاولة؟
نحن هنا أمام نقطة شديدة الغموض في حركة مسلم بن عقيل رضوان
الله عليه، وسأرجع أولاً إلى أربعة نصوص لعلها أقدم ما وصلنا،
لأعود بعد ذلك إلى محاكمتهما في ضوء غيرها مما ورد حول نفس
الموضوع أو حول ما يرتبط به.
وهذه النصوص الأربعة على قسمين، اثنان منها يصرحان بمجيء ابن
زياد مرتين إلى بيت الشهيد هانيء، مرة لعيادة صاحب البيت، ومرة
لعيادة ضيفه شريك، وفي كلتيهما طرحت فكرة الإغتيال، ولم يوافق
عليها الشهيد هانيء، واثنان يصرحان بأن مجيء ابن زياد كان مرة
واحدة، ويختلفان، فيصرح أحدهما بأنه جاء لعيادة هانيء، وأن
هانئاً هو صاحب فكرة الإغتيال، ولا يذكر شيئاً عن شريك
نهائياً، بينما يصرح الثاني بأن ابن زياد جاء لعيادة شريك الذي
طرح الفكرة ولم يوافق عليها الشهيد هانيء. وهذه النصوص كما
يلي:
1- قال الطبري:
(25) (الوفاة310).
"ثم قال له : {أي مسلم بن عوسجة لمعقل} إختلف إلي
أياماً في منزلي فأنا طالب لك الإذن على صاحبك {أي مسلم بن
عقيل} فأخذ يختلف مع الناس، فطلب له الإذن، فمرض هانيء بن
عروة فجاء عبيد الله عائداً له، فقال له عمارة بن عبيد الله
السلولي :
(26) إنما جماعتنا وكيدنا
قتل هذا الطاغية، فقد أمكنك الله منه فاقتله، فقال هانيء: ما
أحب أن يقتل في داري، فخرج، فما مكث إلاّ جمعة حتى مرض شريك بن
الأعور، وكان كريماً على ابن زياد وعلى غيره من الأمراء، وكان
شديد التشيع، فأرسل إليه عبيد الله إني رائح اليك العشية.
" فقال لمسلم إن هذا الفاجر عائدي العشية، فإذا جلس فاخرج إليه
فاقتله، ثم اقعد في القصر ليس أحد يحول بينك وبينه، فإن برئت
من وجعي هذا أيامي هذه سرت إلى البصرة وكفيتك أمرها.
" فلما كان من العشي أقبل عبيد الله لعيادة شريك، فقام مسلم بن
عقيل ليدخل وقال له شريك: لا يفوتنّك إذا جلس، فقام هانيء بن
عروة إليه فقال : إني لا أحب أن يقتل في داري، كأنه استقبح
ذلك.
" فجاء عبيد الله بن زياد فدخل فجلس فسأل شريكاً عن وجعه وقال:
ما الذي تجد ومتى اشتكيت، فلما طال سؤاله إياه ورأى أن الآخر
(مسلم) لا يخرج خشي (شريك) أن يفوته، فأخذ يقول: ما تنظرون
بسلمى أن تحيوها، إسقنيها وإن كانت فيها نفسي، فقال ذلك مرتين
أو ثلاثاً، فقال عبيد الله ولا يفطن ما شأنه: أترونه يهجر ؟
فقال له هانيء: نعم أصلحك الله، ما زال هذا ديدنه قبيل عماية
الصبح حتى ساعته هذه.
" ثم قام فانصرف، فخرج مسلم، فقال له شريك: ما منعك من قتله؟
فقال : خصلتان، أما إحداهما فكراهة هانيء أن يقتل في داره،
وأما الأخرى، فحديث حدّثه الناس
(27) عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم أن الإيمان قيد الفتك ولا يفتك مؤمن، فقال هانيء: أما
والله لو قتلته لقتلت فاسقاً فاجراً كافراً غادراً، ولكن كرهت
أن يقتل في داري، ولبث شريك بن الأعور بعد ذلك ثلاثاً ثم مات،
فخرج ابن زياد فصلى عليه. وبلغ عبيد الله بعدما قتل مسلماً
وهانئاً أن ذلك الذي كنت سمعت من شريك في مرضه إنما كان يحرض
مسلماً ويأمره بالخروج إليك ليقتلك، فقال عبيد الله : والله لا
أصلي على رجلٍ من أهل العراق أبداً ووالله لولا أن قبر زياد
فيهم لنبشت شريكاً .
" ثم إن معقلاً مولى ابن زياد الذي دسه بالمال إلى ابن عقيل
وأصحابه اختلف إلى مسلم بن عوسجة أياماً ليدخل على ابن عقيل
فأقبل به حتى أدخله عليه بعد موت شريك بن الأعور ".
(28)
وقد أورد الطبري نفسه هذه الحادثة برواية أخرى، عن غير أبي
مخنف
(29) وليس فيها ذكر لمرض هانيء ولزيارة ابن زياد له، وهي أسوأ
حالاً من هذه الرواية، ويكفي لإهمالها أنها تنص على تفطن مهران
لمحاولة الإغتيال وأنه حدَّث ابن زياد بذلك وهما يغادران البيت
"وهو يطرد به"، وسيأتي أن هذا ينافي الرواية الأخرى كلياً،
وينافي أن ابن زياد لم يجعلها محور "محاكمة" الشهيدين هانيء
ومسلم.
2- وقال البلاذري: ( القرن الثالث).
" ومرض هانيء بن عروة المرادي فأتاه عبيد الله بن زياد عائداً،
فقيل لمسلم بن عقيل: أخرج إليه فاقتله. فكره هانئ أن يكون قتله
في منزله فأمسك مسلم عنه. ونزل شريك بن الأعور الحارثي أيضا
على هانئ بن عروة، فمرض عنده فعاده ابن زياد، وكان شريك شيعياً
شهد الجمل وصفين مع علي فقال لمسلم: إن هذا الرجل يأتيني
عائداً فاخرج إليه فاقتله. فلم يفعل {مسلم} لكراهة هانئ ذلك.
فقال شريك :ما رأيت احداً أمكنته فرصة فتركها إلا أعقبته ندماً
وحسرة وأنت أعلم؟! وما على هانيء في هذا لولا الحصر ؟ ! ! !
ومات شريك بن الأعور، في دار هانئ من مرضه ذلك. وإسم الأعور
الحارث".
(30)
3- وقال الدينوَري: ( الوفاة282).
" ومرض شريك بن الأعور في منزل هانئ بن عروة مرضاً شديداً،
وبلغ ذلك عبيد الله بن زياد، فأرسل إليه يعلمه أنه يأتيه
عائداً. فقال شريك لمسلم بن عقيل: إنما غايتك وغاية شيعتك
هلاك هذا الطاغية، وقد أمكنك الله منه، هو صائر إليّ ليعودني،
فقم، فادخل الخزانة حتى إذا اطمأن عندي، فاخرج إليه، فاقتله
(31)
ثم صر إلى قصر الإمارة، فاجلس فيه، فإنه لا ينازعك فيه أحد من
الناس، وإن رزقني الله العافية صرت إلى البصرة، فكفيتك أمرها،
وبايع لك أهلها. فقال هانئ بن عروة: ما أحب أن يقتل في داري
إبن زياد. فقال له شريك: ولم؟ فو الله إن قتله لقربان إلى
الله. ثم قال شريك لمسلم: لا تقصِّر في ذلك. فبينما هم على
ذلك إذ قيل لهم: الأمير بالباب. فدخل مسلم بن عقيل الخزانة،
ودخل عبيد الله بن زياد على شريك، فسلم عليه، وقال : ما الذي
تجد وتشكو؟. فلما طال سؤاله إياه استبطأ شريك خروج مسلم، وجعل
يقول، ويُسمع مسلماً:
ما تنظرون بسلمى عند فرصتها فقد وفى ودها واستوسق الصرم.
وجعل يردد ذلك. فقال ابن زياد لهانيء: أيهجر؟ - يعني يهذي - .
قال هانيء : نعم، أصلح الله الأمير، لم يزل هكذا منذ أصبح . ثم
قام عبيد الله وخرج، فخرج مسلم بن عقيل من الخزانة، فقال شريك:
ما الذي منعك منه إلا الجبن والفشل؟ . قال مسلم: منعني منه
خلتان: إحداهما كراهية هانيء لقتله في منزله، والأخرى قول رسول
الله صلى الله عليه (وآله) وسلم: إن الإيمان قيَّد الفتك، لا
يفتك مؤمن . فقال شريك : أما والله لو قتلته لاستقام لك أمرك،
واستوسق لك سلطانك. ولم يعش شريك بعد ذلك إلا أياماً، حتى
توفي، وشيع ابن زياد جنازته، وتقدم فصلى عليه".
(32)
4- وقال اليعقوبي: (الوفاة 284).
" وقدم عبيدالله بن زياد الكوفة، وبها مسلم بن عقيل قد نزل على
هانيء بن عروة، وهانئ شديد العلة، وكان صديقاً لابن زياد، فلما
قدم ابن زياد الكوفة أخبر بعلة هانيء، فأتاه ليعوده، فقال
هانيء لمسلم بن عقيل وأصحابه، وهم جماعة : إذا جلس ابن زياد
عندي وتمكّن، فإني سأقول أسقوني، فاخرجوا فاقتلوه، فأدخلهم
البيت وجلس في الرواق. وأتاه عبيد الله بن زياد يعوده، فلما
تمكن قال هانيء بن عروة: اسقوني ! فلم يخرجوا، فقال: اسقوني،
ما يؤخركم ؟ ثم قال : اسقوني، ولو كانت فيه نفسي، ففهم ابن
زياد، فقام، فخرج من عنده، ووجه بالشرط يطلبون مسلماً".
(33)
وهذه النصوص الأربعة رغم اختلافها، متفقة على عدم موافقة
الشهيد هانيء على الإغتيال، وإذا أضفنا إليها رواية الطبري
الأخرى فهي - على تهافتها- توحي بأن التداول بين شريك ومسلم،
حول الإغتيال قد تم دون علم هانيء، فلا دليل فيها على موافقته،
وهي تصرح بأن الذي ضيَّع فرصة الإغتيال هو مهران، ويأتي مزيد
إيضاح.
ولدى الرجوع إلى المصادر الأخرى المختلفة، نجد أن التضارب بلغ
ذروته، إلى حدٍ يصبح معه التشكيك في أصل الحادثة وارداً،
خصوصاً وأن الشيخ المفيد والمسعودي لم يذكرا هذه القصة ولا
أشارا إليها من قريب أو بعيد، ولئن كان المسعودي يعتمد
الإختصار في مروجه، محيلاً إلى "أخبار الزمان" فليست الإشارة
إلى مثلها مما يسوغه الإختصار خاصة من مؤرخ عالم ثبت مثله،
وليس الإختصار دأب الشيخ المفيد في الإرشاد.
وإليك تلخيصاً بالنقاط الأساسية التي أوردتها المصادر السابقة
وغيرها:
1- أن ذلك حدث مرة واحدة في بيت هانيء، باقتراح من شريك.
(34)
2- أن ذلك حدث مرتين في بيت هانيء، وقد طرح الفكرة على مسلم
وهانيء، عمارة السلولي مرة، وشريك مرة، فلم يصدر من مسلم ما
يدل على موافقته، وكره هانيء أن يقتل ابن زياد في داره.
(35)
3- أن ذلك تم في بيت هانيء بموافقته التي تفهم من طلب شريك منه
أن يكون مسلم عنده للتنفيذ، وكان.
(36)
3- أن المحاولة كانت في بيت شريك، الذي طرح فكرة الإغتيال على
هانيء وأخذ موافقته، وطلب منه أن يرسل مسلماً ليكون عنده
للتنفيذ، وذلك في بيت شريك الذي انتقل إليه مسلم بعد أن كان في
بيت هانيء
(37)
4- أنها كانت عند عيادة ابن زياد لهانيء، وأن الذي طرح الفكرة
هو الشهيد هانيء، دون ذكر لشريك أبداً.
(38)
5- أن التنفيذ كان سيتم على يد مجموعة فيهم الشهيد مسلم.
(39)
6- أن مسلماً كان في الدار الذي كان فيه شريك، لا في نفس
الغرفة.
(40)
7- أن مسلماً كان في نفس الغرفة التي فيها شريك {في الخزانة}.
(41)
8- أن مهران غلام ابن زياد فطن لمحاولة الإغتيال من تكرار شريك
طلب الماء، فغمز ابن زياد، فقام مسرعاً ومهران يستحثه على
الخروج، كي لا يصغي لمقالة شريك أريد أن أوصي إليك.
(42)
9- أن ابن زياد نفسه "توهم وخرج".
(43)
9- أن جارية خرجت بقدح
(44) أو بكوز ماء ثلاثاً وكانت ترى مسلماً في
الخباء فترجع "ففهم مهران الغدر فغمز مولاه".
(45)
10- أن ابن زياد علم بذلك بعد موت شريك وصلاته عليه.
(46)
وعندما تصل المصادر إلى الإجابة على سؤال: لماذا لم ينفذ مسلم
محاولة الإغتيال، فإنها تعود مجدداً إلى التضارب مقدمة لنا
الإجابات التالية :
1- كراهة هانيء، أو نهيه، وحديث الإيمان قيّد الفتك.
(47)
2- زوجة هانيء تعلقت به ورجته أن لا يقتله في بيتهم.
(48)
3- الجبن.
(49)
4- كان من أشجع الناس، ولكن أخذته كبوة.
(50) ( أو: كبرة).
(51)
وإزاء هذا القلق البيَّن في نصوص هذه النقطة، كان لابد من
تسجيل ملاحظاتٍ أساسية :
1- إن الرواة الحقيقيين لهذا التداول - على فرض وقوعه - هم :
شريك وهانيء ومسلم، ومن البعيد أن تتسع دائرته ليشمل هذا وذاك
من الأنصار، فضلاً عن أن يوضع في متناول المرأة والجارية،
وعليه فإن أكثر ما قيل حول هذه الحادثة - إن لم يكن كله - يبدو
أنه من باب التخمين.
2- لنفترض أننا الآن في الكوفة عام 60 للهجرة، في نفس ذلك
الظرف فهل الأفضل أن تتم محاولة اغتيال ابن زياد في عقر دور
المذحجيين، وفي بيت زعيمهم، أو فقل في عرين الثورة، فيتحمل
المذحجيون والثورة تبعة الفشل، أم أن الأفضل أن تتم المحاولة
في مكان آخر- ولو كان في الطريق ذهاباً أو إياباً - حتى لا
تتحمل المعارضة ومذحج بالخصوص عواقب الفشل.
3- ثم لماذا ينبغي أن توكل هذه المهمة إلى رأس "الثورة " في
الكوفة، ثقة الحسين عليه السلام من أهل بيته مسلم بن عقيل؟
وأين الأربعة آلاف مذحجي الذين كانوا مجاورين لبيت زعيم
المذحجيين هانيء؟ وإذا كانت المصلحة تقضي بتحييد المذحجيين عن
التنفيذ، فأين الثمانية عشر ألفاً الذين بايعوا في مراحل
الثورة الأولى؟
4- ولا يقل غرابة عن ذلك تبرير عدم إقدام مسلم على اغتيال ابن
زياد بحديث الإيمان قيّد الفتك، مع وفرة الروايات عن سرايا
الفتك التي بعثها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقتل
أشخاص حادوا الله ورسوله، ولم يكن خطرهم يبلغ خطورة ابن زياد،
ففي تاريخ الخميس - مثلاً - نجد الحديث عن سرية عمر بن عدي
لقتل العصماء اليهودية
(52)
وسرية محمد بن مسلمة لقتل كعب الأشرف
(53)
وسرية عبد الله بن أنيس لقتل سفيان بن خالد.
(54)
6- لو أن ابن زياد قد لمح أي تصرف غير اعتيادي حين عيادته
شريكاً، كما تدل عليه جميع النصوص التي تتحدث عن تنبه مهران
لمحاولة الإغتيال، لأدرك تلقائياً أنه كان على حافة الموت،
ولطالب بذلك هانئاً ومسلماً، في حين أنه لم يظهر شيء يدل على
ذلك في محاورتيه لهما رغم طولهما وحساسيتهما، ولقد اضطر ابن
زياد إلى الإفتراء والإختلاق في حديثه مع مسلم حين اتهمه بشرب
الخمر، ولو كان ثمة أي مؤشر على محاولة اغتياله لجعلها محور
الحديث والأخذ والرد، بدلاً من الإختلاق.
ومن هنا يتضح مدى التهافت في الأول من نصي الطبري الذي يحدثنا
بأن غلام ابن زياد "فطن" لمحاولة الإغتيال فغمزه وخرجا مسرعين،
فلو أن ذلك حصل، لأدرك ابن زياد قطعاً بمجرد أن أخبره معقل بأن
مسلماً في بيت هانيء، أن ثمة أمراً كان قد دُبِّر له.
وتسأل : ألم يقل ابن زياد لهانيء :
" فكان جزائي أن خبأت في
بيتك رجلاً ليقتلني ؟ ".
(55)
والجواب : إن المقصود قطعاً، إخفاء مسلم عنده وجمع الرجال
والسلاح تمهيداً للثورة عليه، بدلالة السياق:
" فكان جزائي أن خبأت في بيتك رجلا ليقتلني؟ قال: (أي هانيء)
ما فعلت فأخرج التميمي (أي معقل) الذى كان عيناً عليهم فلما
رآه هانئ علم أن قد أخبره الخبر".
(56) ويؤكده أن الراجح من روايتي
الطبري نفسه قد ورد فيه التصريح بأن ابن زياد لم يعلم بمحاولة
قتله في بيت هانيء إلا بعد مقتل هانيء ومسلم، كما سيأتي.
7- وإذا رجحنا النص الثاني للطبري وجعلناه مقياساً بلحاظ
روايته عن أبي مخنف وأهل مكة أدرى بشعابها، فإن ذلك يمكننا من
الإجابة على ما تقدم من عدم مطالبة ابن زياد لهانيء ومسلم
بمحاولة اغتياله، لأن رواية الطبري هذه تنص على أن ابن زياد لم
يعرف بذلك إلا بعد مقتلهما، فقد ورد فيها: "وبلغ عبيدالله
بعدما قتل مسلماً وهانئاً أن ذلك الذي كنت سمعت من شريك في
مرضه إنما كان يحرَّض مسلماً ويأمره بالخروج إليك ليقتلك، فقال
عبيدالله: والله لا أصلى على جنازة رجلٍ من أهل العراق أبداً، ووالله لولا أن قبر زياد فيهم لنبشت شريكاً".
(57) إلا أن المشكلة
التي تواجهنا- كما سبقت الإشارة بإيجاز، مشكلة تضمن هذا النص
وما يلتقي معه - مجيء ابن زياد مرتين، مرة لعيادة هانيء ومرة
لعيادة شريك، وهو لاينسجم مع تصريح ابن زياد بأنه لو علم بمرضه
لعاده، كما نص على ذلك الطبري نفسه
(58) والشيخ المفيد
(59) بلفظ واحد
يبدو أنه لفظ أبي مخنف
(60) وهو:
وخاف هانئ بن عروة عبيدالله بن
زياد على نفسه فانقطع من حضور مجلسه وتمارض، فقال ابن زياد
لجلسائه: ما لي لا أرى هانئاً؟ فقالوا : هو شاك، فقال : لو
علمت بمرضه لعدته.
وتطرح هذه الخصوصية السؤال التالي:
إذا كان ابن زياد قد عاد هانئاً فلماذا يقول: لو علمت بمرضه
لعدته؟
ويمكن الإجابة على ذلك بأن الطبري بعد أن أورد هذه الرواية،
أورد رواية لأبي مخنف بسند آخر جاء فيها قول ابن زياد: "
قد بلغني أنه قد برأ وهو يجلس على باب داره
(61)". وهو ينسجم مع أنه
كان مريضاً فعاده وبلغه أنه "قد برأ".
ولكن هذا الجواب لا يحسم الخلاف لأن أبا مخنف يروي كلام ابن
زياد في الموردين عن راوٍ واحد باختلاف الواسطة في الموردين
(62)،
وهو ما يضعنا أمام استحكام الإضطراب في نصوص أبي مخنف حول
عيادة ابن زياد لهانيء، والترجيح بينها في مثل هذه الحال تحكم،
خصوصاً إذا لاحظنا استبعاد كون ابن زياد يتحدث بقوله: "لَعدته"
عن "عيادة" ثالثة لبيت هانيء.
وبناءً على كل ما تقدم فإن السؤال الذي يجب أن يطرح، هو
التالي:
هل كانت هناك محاولة اغتيال حقاً، أم أنها كانت مجرد فكرة
طرحها مرة عمارة بن عبيد الله السلولي، وطرحها بإصرار أكثر
شريك، إلا أن مسلماً لم يوافق عليها، وصرح هانيء برفضه لها ؟
وما تحدثنا عنه النصوص التي يمكن اعتمادها، لم يكن في الحقيقة
محاولة اغتيال وإنما هي فكرة طرحت، وتبناها شريك بقوة، أو
طرحها هو وتبناها، ولم يوافق عليها الشهيدان هانيء ومسلم، وكل
ما في الأمر أن شريكاً لقوة شخصيته، كان يتصرف وكأنه صاحب
البيت، ومن الطبيعي أن ترتبط موافقة مسلم بموقف هانيء.
ولم يسجل أي من المصادر- ماعدا أحدها من القرن السادس
(63) - أن
الشهيد مسلماً وافق على عملية الإغتيال. أو مال إلى قبولها في
ما سجلت بوضوح إعتراض هانيء وإصراره على موقفه بعد مغادرة ابن
زياد بيته، رغم قناعته بأن مسلماً لو قتله لقتل " فاسقاً فاجراً
غادراً كافراً " إلا أنه لم يستسغ أن يحصل ذلك في بيته.
والملاحظة الهامة التي يتساوى تجاهلها مع "الإسقاط" وتجنب
البحث العلمي، هي أنه ينبغي أن يدرس امتناع هانيء عن اغتيال
ابن زياد في بيته بلحاظ الوضع الذي كان قائماً آنذاك، حيث كانت
الكوفة في قبضة هانيء، وليس بينه وبين طرد ابن زياد أو قتله
إلا أن تحين ساعة الصفر، ويؤكد ذلك ما أشار إليه السيد المرتضى
من أن الشهيد مسلم بن عقيل عندما قاد من تمكن من اللحاق به على
جناح السرعة استطاع أن يشكل تهديداً جدياً لابن زياد وأن يضيق
عليه الخناق لولا حدوث ما لم يكن بالحسبان على الإطلاق.
(64)
إن الفارق كبير جداً بين أن تدرس مسألة الإغتيال في ضوء ما
حصل، وبين أن تدرس في ضوء ما كان قائماً، فلقد كانت "المعارضة"
في غنى عن أن تقدم على ذلك.
وعلى أي حال فينبغي عدم طرح هذه الفكرة في مجالس العزاء
لسببين:
1- أنها مجرد فكرة، ولم تكن محاولة.
2- خصوصية الحديث المذكور في نصوصها "الإيمان قيَّد الفتك "
الذي يلقي شبهة في الذهن لا مبرر لها، فإن إنزال حكم الله
العادل بالمفسد في الأرض ليس من باب الفتك إطلاقاً، ولذلك كان
رسول الله صلى الله عليه وآله يرسل من يغتال بعض المفسدين وهو
مجمع عليه بين المسلمين.
(65)
ويشير إلى ذلك أن الشهيد مسلماً لم يجعل الحديث السبب الأول،
بل جعله ثانياً بعد كراهية هانيء للإغتيال، ولو كان يرى أن
الحديث الشريف يمنع من هذا الإغتيال لجعله السبب الوحيد.
ومن أصر على طرحها في المجالس، فليذكر أنها مجرد اقتراح،
وليعالجها بما لا يتنافى مع الثوابت المتقدمة.