بانتْ سعادُ فقَلبي اليومَ مَتبولُ مُتيَّمٌ إثْرَها لم يُفْدَ مكبولُ
نُبِّئتُ أنّ رسولَ الله أوعدَني والعفوُ عندَ رسولِ الله مأمولُ
ويقول:
مهلاً هداكَ الّذي أعطاكَ نافلةَ الـ قرآنِ فيها مواعيظٌ وتفصيلُ
إنّ الرسولَ لَنُورٌ يُستضَاءُ به مُهنَّدٌ من سيوفِ الله مسلولُ
وقد ألقى هذه القصيدة في حضرةِ رسول الله صلّى الله عليه وآله وأصحابِه، ولم يُنكِر عليه رسولُ الله صلّى الله عليه وآله.
• وهذا هو حسّانُ بن ثابت الأنصاريّ يرثي النبيَّ صلّى الله عليه وآله، ويذكرُ فيه مدائحَه، ويقول:
يدلُّ على الرّحمنِ مَن يقتدي به ويُنقذُ مِن هَوْلِ الخَزايا ويُرشِدُ
إمامٌ لهم يَهديهِمُ الحقَّ جاهداً مُعَلِّمُ صِدقٍ إنْ يُطيعوه يَسعَدوا
• وهذا هو عبد الله بنُ رواحة يُنشىء أبياتاً في هذا السّياق فيقول فيها:
خَلّوا بَني الكفّارِ عن سبيلِه خَلّوا فَكُلُّ الخيرِ في رسولِهِ
يا ربّ إنّي مؤمنٌ بقِيلِه أَعرِفُ حقَّ اللهِ في قبولِهِ
هذه نماذجُ ممّا أنشأَه الشّعراءُ المعاصرون لعهدِ الرّسالة في النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله ونكتفي بها لدلالتِها على ما ذكرنا. وهناك شعراء مخلِصون صاغوا فضائلَ النبيّ ومناقبَه في قصائدَ رائعة وخالدة مستلهمينَ ما جاءَ في الذِّكر الحكيمِ والسُّنّة المطهّرة في هذا المجال، فشَكرَ اللهُ مساعيَهم الحميدةَ وجهودَهم المخلصة. ولو قام باحثٌ بجمعِ ما قيلَ من الأشعار والقصائد حول النبيّ الأكرم لَاحْتاجَ في تأليفِه إلى عشرات المجلّدات، فإنّ مدْحَ النبيّ كانَ الشّغلَ الشّاغلَ للمخلِصين والمؤمنين منذ أن لبّى الرّسولُ دعوةَ ربِّه، ولا أظنُّ أنّ أحداً عاش في هذه البسيطة، نالَ من المدحِ بمقدار ما نالَه الرّسول صلّى الله عليه وآله من المدحِ بمختلفِ الأساليب.
3 - تقبيل كلِّ ما يمتُّ إلى النبيّ بِصِلةٍ كبابِ داره، وضريحِه وأستارِ قبره انطلاقاً من مبدأ الحبِّ الذي عرفتَ أدلّتَه. وهذا أمرٌ طبيعيٌّ وفطريٌّ في حياةِ البشر حيث يلثمون ما يرتبطُ بحبيبِهم ويقصدون بذلك نفسَه. فهذا «قيس العامريّ» كان يقبِّلُ جدارَ بيتِ ليلى ويصرِّحُ بأنّه لا يقبّلُ الجدار، بلْ يقصدُ تقبيلَ صاحبِ الجدار، يقول:
أَمُرُّ على الدّيارِ ديارِ ليلى أقبِّلُ ذا الجدارَ وذا الجدارا
وما حبُّ الدّيارِ شغفنَ قلبي ولكن حبُّ مَن سكنَ الدّيارا
4 - إقامة الاحتفالات في مواليدِهم وإلقاء الخطَب والقصائد في مدحِهم وذكرِ جهودِهم ودرجاتِهم في الكتاب والسُّنّة، شريطةَ أن لا تقترنَ تلك الاحتفالات بالمَنهيّات والمحرّمات. ومَن دعا إلى الاحتفال بمولد النبيّ صلّى الله عليه وآله في أيّ قرنٍ من القرون، فقد انطلقَ من هذا المبدأ، أي حبِّ النبيّ الذي أمرَ به القرآنُ والسُّنّة.
• يقولُ مؤلّفُ (تاريخ الخميس): «لا يزالُ أهل الإسلام يحتفلون بشهرِ مولدِه، ويعملون الولائم، ويتصدّقون في لياليه بأنواعِ الصّدَقات، ويُظهرون السّرور، ويزيدون في المبرّات، ويعتنون بقراءةِ مولدِه الشّريف، ويظهر عليهم من كراماتِه كلُّ فضلٍ عظيم».
• وقال «أبو شامة المقدسي» في كتابه [الذّيل على الرّوضتَين]: «ومن أحسنِ ما ".." في زماننا ما يفعَلُ في اليوم الموافق ليومِ مولدِه صلّى الله عليه وآله من الصّدَقات والمعروف بإظهارِ الزّينة والسّرور، فإنّ في ذلك -معَ ما فيه من الإحسان للفقراء- شعاراً لمحبّتِه».
• وقال القسطلانيّ: «ولا زال أهلُ الإسلام يحتفلون بشهرِ مولدِه عليه السلام، ويعملون الولائم، ويتصدّقون في لياليه بأنواعِ الصّدَقات، ويُظهرون السّرور، ويزيدون في المبرّات، ويعتنون بقراءة مولدِه الكريم، ويظهرُ عليهم من بركاته كلُّ فضلٍ عظيم. فَرَحِمَ اللهُ امرءاً اتّخذَ ليالي شهر مولدِه المبارك أعياداً، ليكونَ أشدَّ علّةً على مَن في قلبِه مرضٌ وأَعْياه دَاء».
• إذا عرفتَ ما ذكرْناه، فلا نظنُّ أن يشكَّ أحدٌ في جواز الاحتفال بمولد النبيِّ الأكرم صلّى الله عليه وآله، احتفالاً دينيّاً فيه رضى اللهِ ورسولِه، ولا تصحُّ تسميتُه بدعة، إذْ البدعةُ هي التي ليسَ لها أصلٌ في الكتاب والسُّنّة، وليس المرادُ من الأصل، الدّليل الخاصّ، بل يكفي الدّليلُ العامُّ في ذلك.
• ويرشدُك إلى أنّ هذه الاحتفالات تجسيدٌ لتكريم النبيّ صلّى الله عليه وآله، وجدانُك الحرّ، فإنّه يقضي -بلا مِريَة- على أنّها إعلاءٌ لمقامِ النبيّ صلّى الله عليه وآله، وإشادةٌ بكرامتِه وعظَمتِه، بل يتلقّاها كلُّ مَن شاهدَها عن كَثب على أنّ المحتَفلين يعزِّرون نبيَّهم ويكرمونه ويرفعون مقامَه اقتداءً بقولِه سبحانه: ﴿وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَك﴾ الانشراح:4.
• وفي السنّة النبويّة ما يفيد كرامةَ يوم مولده صلّى الله عليه وآله:
أخرجَ مسلم في (صحيحه) عن أبي قتادة أنّ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله سُئِلَ عن صوم يوم الإثنين، فقال: «ذاك يومٌ وُلِدْتُ فيه، وفيه أُنْزِلَ علَيَّ».
يقول الحافظُ ابنُ رجب الحنبلي -عندَ الكلام في استحبابِ صيامِ الأيّام التي تتجدّدُ فيها نِعَمُ الله على عبادِه- ما هذا لفظُه: «إنّ من أعظمِ نِعَمِ الله على هذه الأمّة إظهارَ محمّدٍ صلّى الله عليه وآله وبعثتَه وإرسالَه إليهم، كما قال اللهُ تعالى: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ..﴾ آل عمران:164، فصيامُ يومٍ تجدّدتْ فيه هذه النِّعمة من الله سبحانه على عبادِه المؤمنين حَسَنٌ جميل، وهو من بابِ مقابلةِ النِّعَمِ في أوقاتِ تجدُّدها بالشُّكر».
(الشيخ جعفر السبحاني، البدعة: مفهومها، حدّها وآثارها: ص 127 - بتصرّف)