العزاء الحسيني في شبه القارة الهندية
مراسم يشارك فيها الشيعة والسنّة.. والهندوس
إنّ شهادة أبي عبد الله الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه بما تضمّنته من فجائع يهتزّ لها كلّ ذي وجدان حيّ، بالإضافة إلى قداسة الهدف الذي كانت لأجله، جعل مراسم العزاء التي تقام لأجلها عابرة للأقوام، والأديان بأعرافها المتنوّعة، يأخذ كلّ منها بحسبه، ويصبغها بطابعه الذي هو عليه، فتتعدّد تلك المراسم، وتتكثّر بالصور التي يُنتجها تفاعل أولئك مع أعظم حدث في تاريخ الإنسان على وجه الأرض.
يُضيىء هذا التحقيق على صور من العزاء والبكاء على سبطِ رسول الله صلّى الله عليه وآله، في شبه القارة الهندية حيث يظهر التمازج واضحاً بين المراسم الشرعية، وعادات أهل تلك البلاد وتقاليدهم، وقد أُعدّ بالاقتباس من كتاب (تاريخ النِّياحة على الإمام الشّهيد الحسين بن علي عليهما السلام) للسيّد صالح الشّهرستاني (ت: 1395 للهجرة).
اعتاد سكان شبه القارة الهندية (الهند والباكستان) على اختلاف مللهم ونحلهم، وخاصة المسلمين منهم، على إقامة المأتم على الإمام الحسين عليه السلام، وبذل النفس والنفيس في هذا السبيل منذ أن تسرّبت أخبار هذه الفاجعة في أواخر القرن الأوّل الهجري إلى تلك الأصقاع. وأنباء إقامة هذه المهرجانات الحزينة في الهند والباكستان متوفّرة منذ أكثر من إثني عشر قرناً، وقد طفحت الكتب والصحف بذلك، ما يدلّ على اهتمام المسلمين وخاصة الشيعة منهم في أنحاء شبه القارة الهندية بهذه المناحات، وبإقامة المآتم والتعازي، وتسيير السبايا والهوادج، وتشكيل مجالس العزاء واجتماعات الحزن في شهرَي محرم وصفر من كل عام.
هذا وقد تأثر الهندوس والأقوام الهندية الأخرى غير المسلمة بمشاهد هذه المآتم والنياحات وحفلات الحزن، فسايروا المسلمين فيها، وأصبحت لديهم من العادات والتقاليد المتمسّكين بها في هذين الشهرين، وحتّى أّن في بعض المدن والمناطق الهندية أنشأ الهندوس المباني والعمارات وأوقفوها على الإمام الحسين عليه السلام ومناحاته، وأطلقوا عليها اسم (الحسينية) تأسّياً بالمسلمين. ويقيمون فيها شعائر الحزن والأسى والمأتم، وأصبح اسم «الحسين» لديهم من الأسماء التي يتبرّكون بها ويقدّسونها، ولا يذكرون هذا الاسم إلّا بكلّ احترام وتعظيم وتجليل.
شواهد في وصف المناحات على الحسين عليه السلام
* وصف العلّامة السيد عبد اللطيف الموسوي الشوشتري في الصفحات المختلفة من مؤلّفه القيّم (تحفة العالم) باللغة الفارسية، عند شرح تجواله في مختلف أنحاء الهند، المناحات وإقامة المآتم على الإمام الحسين عليه السلام وصفاً دقيقاً، منها ما ترجمته:
«والغريب في مدينة حيدر آباد إنّه على الرغم من عدم الشعور بالإسلامية فيها، فإنّ العظماء والأثرياء والهنود فيها يقيمون المآتم العظيمة على الإمام الحسين في أماكنها الخاصة. فإنهم فور رؤيتهم هلال شهر الأحزان، يلبس الجميع لباس الحداد والحزن، ويلقون جانباً الملذات ولذائذ الحياة، ومعظمهم يتركون نهائياً تناول المأكولات والمشروبات اللذيذة. وحتى أنّ بعضهم لا يدَعون الطعام يمرّ في حلقومهم خلال مدة الأيام العشرة الأولى من المحرم، ويقضون ليلهم ونهارهم في هذه الأيام بترديد النياحات وقراءة المراثي، باللغات الهندوسية، أو الفارسية، كما أنّ كلّ إنسان منهم يقوم بإطعام الفقراء والبذل على المساكين، كلّ حسب طاقته، ثمّ يوزّعون ماء الورد بالمجان، ويسبلونه على المارة في كلّ زاوية من زوايا الأسواق والشوارع والأزقة، ويصنعون التماثيل من الخشب أو الورق على شكل الأضرحة المقدّسة، ويمرّون أمامها. وبعد انقضاء العشرة الأولى من المحرم يلقون بهذه التماثيل إمّا في الأنهر أو يدفنونها في أماكن معينة من الأرض، ويطلقون عليها اسم (كربلاء)».
* وجاء في الكتاب نفسه وصفٌ للمأتم الذي يقيمه أحد راجات الهند المعروفين «آصف الدولة» في إحياء ذكرى الإمام الحسين عليه السلام، ما ترجمته:
«لقد أنشأ آصف الدولة، ولاءً منه للأئمّة الأطهار، مقراً عظيماً لإقامة العزاء الحسيني ومسجداً فخماً بالقرب من داره، وقد أنفق على بنائهما وتزيينهما مبالغ طائلة جداً، كلّ ذلك في سبيل إحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام وإقامة النياحة عليه، وقد قيل: إنّه لم يكن في الهند كلها بناء أعظم وأوسع وأشرح للصدر من هذا المكان..».
* نقلت (موسوعة العتبات المقدسة) في صفحتها 373 من المجلّد الأول، قسم كربلاء، عن كتاب (تاريخ الشيعة في الهند) للدكتور «هوليستر» عن أهمية شهر محرم وإقامة مراسيم العزاء فيه، ما نصّه:
«إنّ إحياء مراسيم محرّم وطقوسه في الهند قد انتشرت بانتشار الشيعة في البلاد. ويمكن أن تلاحظ في الهند -وعلى الأخصّ في (لكنهو) حيث لا يزال شيء من البهاء والرونق اللذين كانت تُعرف بهما أيام ملوك (أوده) الأولين، محتفظاً به حتى اليوم- من أنّ البذخ الذي كان يبدو من النوابين الذين صرف أحدهم في سنة من السنين على مراسيم محرّم وحفلاته الدينية ثلاثمائة ألف باون قد انتهى أمره، مع ذلك فإنّ الهبات والأوقاف التي أوقفها محمّد علي شاه هناك تجعل المراسيم المقامة في محرّم اليوم مفعمة بالحيوية والنشاط، منذ أول ابتدائها من مساء اليوم الذي يتقدّم أول يوم منه. كما أنّ عساف الدولة ملك (أوده) المتوفّى سنة 1775م، قد صرف على مراسيم العزاء خلال شهر محرم في إحدى السنين ستة ألكاك روبية».
ثمّ يصف الدكتور هوليستر كيفية احتفال المسلمين في الهند خلال أيام الحداد العشرة من محرم، ويعدّد أنواع هذه الاحتفالات وأشكالها، فيبدأ بوصف مجالس التعزية التي تقرأ فيها قصة مقتل الحسين بصورة متسلسلة موزّعة على عشرة أيام، مبتدئة بدعوة أهل الكوفة للإمام عليه السلام، ومنتهية باستشهاده المفجع، يقول:
«إنّ اليومين الأولين يروى فيهما للمحتفلين المحتشدين تهيّؤ الحسين للسفر، وزيارة المقرّبين له، ومذاكراته معهم، والمشورات التي قدّمت له، ثمّ سفره ووصوله إلى كربلاء. وتروى في اليوم الثالث أخبار المخيّم الذي خيّم فيه الحسين وآله وأصحابه، وتردّده ما بينه وبين النهر، ومذاكرة بني أسد حول دفن القتلى الذين خرّوا صرعى في ساحة القتال. أمّا في اليومين الخامس والسادس فتقصّ على المحتفلين فيها مصائب الإمام وصحبه، والبطولة التي أبداها عليّ الأكبر قبل استشهاده. وفي اليوم السابع تروى قصة القاسم بن الحسن وبطولته في القتال، علاوة على قصة زواجه بابنة عمه الحسين. ويخصّص اليومان الثامن والتاسع لأخبار العباس وأصحاب الحسين الاثنين والسبعين، بينما تروى في اليوم العاشر الظروف الأليمة والشكل الفظيع الذي قُتل فيه الإمام الشهيد، وهو بيت القصيد من مجالس التعزية كلها».
مجسّمات لضريح الحسين عليه السلام
ويصف الكاتب ما يسمّى في الهند بـ(التعزية)، ويعتبرها من أبرز ما يلفت النظر في احتفالات الحداد في الهند أثناء محرم. والظاهر أنّ كلمة تعزية تطلق في شمال الهند على الهيكل المصغّر لقبر الحسين، الذي يُحمل مع مواكب العزاء الحسيني في يوم عاشوراء، وتُطلق عليه في جنوب الهند كلمة «تابوت»، وقد نشأت عادة حمل هذه الهياكل المصغرة في مواكب العزاء -على ما يقال- منذ أيام (تيمور لنك) الذي جاء بمثل هذا الهيكل إلى الهند من كربلاء نفسها. وتوضع هذه التعازي على اختلاف أحجامها ومظاهر الزينة فيها فوق هيكل من الخيزران، فتُحمل على أكتاف الرجال الذين يكونون عادة من الهندوس المستأجرين، وتزيَّن بأنواع الزينة والزخارف من الخارج، وقد يعمد الأثرياء والموسرون إلى إنشائها من الخشب المغّلف بالعاج، أو الأبنوس، أو الفضة.
أثر من كربلاء
يقول المؤرّخ هوليستر إنّ شيعة لكنهو محظوظون لأنّ عندهم وبين ظهرانيهم نفس (البنجة) أو الكفّ المعدنية التي كانت تعلو علَم الحسين بكربلاء، وهي محفوظة في (درگاه) شيّد خصيصاً لها. أمّا كيفية أخذها إلى الهند فيذكر قصة تروى عنها، وهي أنّ أحد الحجاج الهنود في مكة رأى في المنام ذات ليلة العباس بن عليّ عليهما السلام، حامل لواء الحسين عليه السلام، فدلّه على المكان الذي توجد مدفونة فيه في كربلاء نفسها. وحينما ذهب الحاج الهندي إلى ذلك المكان وجد (البنجة) عينها، فجاء بها إلى النواب عساف الدولة، عامل لكنهو، فعمد هذا إلى تشييد مزار خاص لها، وعهد بسدانته إلى الحاج المحظوظ الذي جاء بها من كربلاء بلد الحسين، وبعد مدة تمرّض سعادت علي خان وشفي، فشيّد على أثر ذلك «دركاهاً» أجمل للبنجة المقدسة. ويأتي الناس في اليوم الخامس من محرم إلى هذا المركز كلّ سنة ليلمسوا البنجة بأعلامهم. ويقدَّر أنّ الأعلام التي يؤتى بها لهذا الغرض كانت تبلغ في الأيام السالفة حوالي ٤٠ أو ٥٠ ألف علم».
ثمّ يستطرد هوليستر كلامه عن وصف المآتم والأحتفالات العزائية في الهند، فيقول:
«إنّ عدداً غير يسير من أهل السنة، كذلك الهندوس يشاركون فيها، ويعتقدون بها كثيراً ".." وإنّ النساء والرجال من بين الطبقات العليا ينذرون من أجل الحصول على النسل والأولاد أن يقوموا ببعض الأدوار في مواكب محرم، لعدة سنين، وخلال مدة حياتهم كلّها في بعض الأحيان، وهؤلاء يمتنعون خلال محرّم عن تناول الملح والطعام الحيواني، ويهجرون جميع وسائل الترف. وتعتبر مختلف طبقات الهندوس في بارودا التعزيات التي تحمل مواكب العزاء أشياء مقدّسة، وهم يمارسون بعض الحركات للتبرّك بها، مثل المرور من تحتها أو رمي أنفسهم على الأرض في طريقها».
وتستطرد موسوعة (العتبات المقدسة) كلامها بعد انتهائها من نقل وصف الدكتور هوليستر فتقول:
«وقد كان من المعروف في بارودا أنّ الرئيس أو الفيكوار الهندوسي يرعى مراسيم العزاء في محرّم بنفسه، وأنّ المهراجا الهندوسي في غواليور يقود المواكب كلّ سنة في عاصمته. ويقال إنّ منشأ هذا هو أنّ المهراجا كان قد مرض قبل خمسين أو ستين سنة، فرأى ذات ليلة من ليالي مرضه الإمام الحسين في المنام، فقيل له إنّه سوف يشفى من مرضه في الحال إذا ما أقام مجلساً من مجالس التعزية في محرّم باسم الحسين عليه السلام، ووزّع الصدقات فيه، وقد فعل ذلك، فشفي بإذن الله، فبقيت العادة حتى يومنا هذا. لكنّ المهراجا الحالي من نسله صار يكتفي اليوم بركوب حصان فاره يتقدّم به موكب العزاء في يوم عاشوراء، وتقوم خزينة الدولة هناك بتسديد مصاريف الموكب».
* جاء في الصفحة 196 من كتاب (المجالس السنية في ذكرى مصائب العترة النبوية)، نقلاً عن رسالة الحكيم الألماني الدكتور ماربين، عن النهضة الحسينية وأثرها في الإسلام والعالم الإسلامي ما نصّه: «..كلّما ازدادت قوّة أتباع عليّ، ازداد إعلانهم بذكر مصائب الحسين، وكلّما سعوا وراء هذا الأمر ازدادت قوتهم وترقّيهم، وجعل العارفون بمقتضيات الوقت يغيّرون شكل مصائب الحسين قليلاً قليلاً فجعلت تزداد كل يوم بسبب تحسينهم وتنميقهم لها، حتى آل الأمر إلى أن صار لها اليوم مظهر عظيم في كلّ مكان يوجد فيه مسلمون، حتى أنها سرت شيئاً فشيئاً بين الأقوام وأهل الملل الأخرى، خصوصاً في الصين والهند، وعمدة أسباب تأثيرها في أهل الهند، هو أنّ المسلمين جعلوا طريقة إقامة العزاء مشابهة لمراسيم إقامة العزاء عند أهل الهند..».
* جاء في الصفحة 79 من المجلد 56 من (أعيان الشيعة) للسيّد محسن الأمين ما لفظه:
«كانت للمجالس الحسينية التي تعقد بانتظام خلال شهري محرّم وصفر في مدن الهند والباكستان، وأحياناً أيضاً خلال بقية الشهور، الأثر الفعّال، لا في إنماء المعارف الدينية فحسب، بل في التقدم الخُلقي والعقلي والروحي للشيعة، وبفضل هذه المجالس التي تقام لذكرى شهيد الإسلام العظيم الحسين بن عليّ عليهما السلام، نبغ بين الشيعة في شبه القارة الهندية خلال الأجيال الطويلة فحول الشعراء، والكتّاب، وأخيراً الخطباء...».
عداء الوهابيين لمراسم عزاء الحسين عليه السلام
* جاء في الصفحة 254 من كتاب (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) للدكتور علي الوردي عن النياحة على الحسين في الباكستان، ما نصّه: «إنّ مدينة تيري والمناطق المجاورة لها في الباكستان تحتوي على كثير من الشيعة الذين اعتادوا أن يقيموا المواكب الحسينية في يوم عاشوراء من كلّ عام. والغريب أنّ هذه المدينة فيها مدرسة دينية يدرَّس فيها المذهب الوهابي ويقيم فيها كثير من طلبة العلم، واسمها (مدرسة الهدى)، وأخذ الوهّابيون يضايقون الشيعة ويهدّدونهم لكي لا يقيموا الموكب حسب عادتهم في كلّ عام؛ فالمواكب في نظرهم بدعة ومروق عن الإسلام. وفي عام 1962م استعدّ الوهّابيون لمنع المواكب بالقوة، وفي يوم عاشوراء هجم الوهّابيون على المواكب بضراوة واستخدموا في هجومهم الأسلحة، والمعاول، والمجارف، والفؤوس، والخشب، فسقط المئات من الجرحى والقتلى، وكانت مذبحة فظيعة. وممّا يلفت النظر أنّ عدداً من أهل السنّة قد قُتلوا فيها لأنّهم كانوا يشاركون الشيعة في مواكبهم، كما هو الحال في بعض مناطق العراق».