العلمانيّة
تمويهُ اللَّفظ، وخُبث الأهداف
______ د. علي محمد جريشة* ______
قد تُشْعِر كلمةُ «العلمانيّة» في اشتقاقها أنّها تعني رفعَ شعار العلم، ومن ثمّ فلا تعارضَ بينها وبين الإسلام، بل إنّها إحدى وسائل الإسلام وبعض أهدافه! وهو ما نَحسب أنّهم قصدوا إليه حين ترجموا معنى الكلمة إلى العربيّة، لِيَقع المسلمون في هذا الوَهم.
العلمانيّة في الغرب
لم يكُن غريباً أن تجد العلمانيّة مكانها في الغرب؛ فقد فَرَضت ذلك ظروفُ الغرب نتيجة تسلّط الكنيسة وتحالفها مع الظالمين على شعوب الغرب المختلفة، وتجاوزها هذا الحَجْر على العقول إلى حَجْرٍ على القلوب، حين فَرَضَت صُكوك الغفران وقرارات الحرمان، وراحت تُتاجر بها. وغَرقت أوروبا في دماء ضحايا الكنيسة، حيث سقط المئات بل الآلاف تحت مقاصل محاكم التفتيش ومشانقها.
إذا كانت سُنّةُ الله تعالى في الكون أنّ لكلِّ فعلٍ ردّ فعلٍ مساوياً له في القوّة ومضادّاً له في الاتّجاه، فلقد وقع الصراع، صراعَ المجتمع مع الكنيسة، وانتهى بإعلان العلمانيّة التي تعني فصلَ الدّين عن الدّولة، وتُقلّص سلطان الكنيسة داخل جدرانها.
وليس غريباً بعد ذلك أن يكون اليهود وراء فَصْل الدِّين عن الدولة، كما صرَّح بذلك كاتب أمريكي (وليام غاي، في كتابه أحجار على رقعة الشطرنج)، بغيةَ القضاء على بقايا الدِّين الذي حرَّفوه بتعطيلِه وحبْسِه عن المجتمع داخل جدران الكنيسة
.
تصديرُ العلمانيّة إلى الشّرق
وحين أُريدَ نقلُ العلمانيّة إلى الشّرق الإسلامي، فاتَ المسخَّرين لهذه المهمّة من بني جلدتِنا، أنَّه ليس في تاريخ الشّرق الإسلامي ما يبرِّرُ فصلَ الدِّين عن الدّولة، فلم يكن ثمّة اضطهادٌ من علماء الدّين المسلمين للعلم أو للعلماء المشتغلين بالعلوم الأرضيّة، ولم يكن في تاريخِنا الإسلاميّ محاكمُ تفتيش، وصُكوكُ غفران، وقراراتُ حرمان.
والذين انحرفوا من العلماء عن جادّة السّبيل إلى مُمالَأة الحكّام، لَفَظَتهم الأمّةُ وجَعلَتهم وراء ظهورها، والّذين كانوا لسانَ صدْقٍ، حَملَتهم في حنايا صدورها وقدّمتهُم في أوَّل صفوفها. كذلك لم تكن الديانة الإسلاميّة لِتَسمح بالفصل بين الدِّين والدولة، لأنّ الدولة في فقه الإسلام قِسمٌ للدّين لا قَسِيم.
كذلك لم تكن الدّيانة الإسلاميّة لتسمحَ بقيام العلمانيّة إلى جوار الإسلام، بمقولة أنّ الإسلام يبقى داخل دائرة العقيدة والشّعيرة، وتعمل العلمانيّة في دائرة الشّريعة، لأنّ الإسلام عقيدةٌ وشعيرةٌ وشريعةٌ، وهو في هذا لا يقبل التجزئة ولا التفرقة، ولا يرضى أن يكون مع الله تعالى أربابٌ آخَرون، أو قياصرةٌ آخرون يَدينُ لهم النّاسُ في مجال الشريعة، كما يدينون لله تعالى في مجال العقيدة.
وعلى فرضِ أنّ ما في الغرب من مدنيّة، ومن تقدُّمٍ على الصعيد التقني، جاء نتيجةَ الفصل بين الكنيسة والدّولة، فإنّ الشرقَ الإسلاميّ لم يجنِ من تنكُّره للإسلام غيرَ حرمان الدّنيا والدّين معاً، ليقنعَ من ثمّ بقشورٍ تُورثُه التّرَف والدَّعة لا غير، وتُبْعِدُه عن الإبداع، وعن تأدية الدّور الرّسالي الذي انتدبَه إليه اللهُ تعالى بنصّ القرآن الكريم: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ..﴾ آل عمران:110.
(بتصرّف)
___________________
* أستاذ جامعي من الحجاز