فكر ونظر

فكر ونظر

16/10/2012

الحجُّ فهمٌ، وشوقٌ، وعزْم

الحجُّ فهمٌ، وشوقٌ، وعزْم
الوظائف القلبيّة للمناسِك
ـــــ إعداد: «شعائر» ـــــ
في شرحه على (نهج البلاغة) تناول المحقّق ابن ميثم البحراني (ت: 679 للهجرة) الوظائفَ القلبيّة الواجب استحضارُها عند كلِّ عملٍ من أعمال الحجّ، مفتَتحاً الحديث عنها بالحثِّ على فهم مقاصد الشّارع المقدّس من تشريع عبادة الحجّ، ومعتبراً إيّاه المدخلَ إلى الشّوق إلى أدائه، ثمّ يخلُصُ منهما إلى جملةٍ من الآداب الجَنانيّة التي يأتي بيانُها في ما يلي:

إعلم أنَّ أوَّل الحجّ فَهْم موقِع الحجّ في الدِّين، ثمَّ الشَّوق إليه، ثمَّ العزم عليه، ثمَّ قطع العلائق المانعة عنه، ثمَّ تهيئة أسباب الوصول إليه من الزَّاد والرَّاحلة، ثمَّ السَّير، ثمّ الإحرام من الميقات بالتَّلبية ".." وفي كلِّ حالةٍ من هذه الحالات تذكِرَةٌ للمُتذكَّر، وعِبْرةٌ للمُعتَبِر، ونِيَّةٌ للمُريدِ الصَّادق، وإشارةٌ للفَطِن الحاذِق، إلى أسرارٍ يَقِف عليها بصفاء قلبه وطهارة باطنه إنْ ساعَدَهُ التَّوفيق.
منازلُ قلبِ الحاجّ
O أمّا الفهم: فاعلم أنّه لا وصول إلى الله إلَّا بتنحية ما عداه عن القصد من المشتهيات البدنيّة واللّذّات الدُّنيويّة والتَّجريد في جميع الحالات والاقتصار على الضَّروريّات، ولهذا انفَرَد الرُّهبان في الأعصار السَّالفة عن الخَلْق في قلَلِ الجبال توحُّشاً من الخَلْق وطَلَباً للأُنس بالخالق، وأَعرَضوا عن جميع ما سواه، ولذلك مدحَهم بقوله: ﴿..ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ ورُهْباناً وأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ المائدة:82.
فلمّا اندرس ذلك وأَقبَل الخَلْقُ على اتّباع الشَّهوات والإقبال على الدُّنيا والالتفات عن الله، بَعَثَ نبيَّه صلّى الله عليه وآله لإحياء طريق الآخرة وتجديد سُنّة المرسَلين في سلوكها. فسأله أهلُ المِلَل عن الرّهبانيّة في دِينه، فقال: «أَبْدَلَنا اللهُ بها الجهاد والتّكبير على كلّ شَرَف» [الشّرَف: المكان المرتفع، ومنه الشُّرفَة]، يعني الحجّ. وسُئل عن السّائحين فقال: «هم الصّائمون»، فجَعَل سبحانه الحجّ رهبانيّةً لهذه الأمّة؛ فشرّف البيت العتيقَ بإضافته إلى نفسه ونَصَبَه مقصداً لعباده، وجعل ما حوله حَرَماً لبيته تفخيماً لِأمره وتعظيماً لِشأنه، وجعل عرفات كالميدان على باب حَرَمه، وأكّد حُرمة المَوْضع بتحريم صيده وشجره، ووضعه على مثال حضرة الملوك يَقصده الزُّوّار من كلّ فجٍّ عميقٍ، شُعثاً غُبراً متواضعين لربّ البيت مستكينين له، خضوعاً بجلاله واستكانةً لعزّته مع الاعتراف بتنزيهه عن أنْ يَحومه مكان، ليكون ذلك أبلغ في رِقِّهم وعبوديّتهم، ولذلك وظَّف عليهم فيها أعمالاً لا تأنس بها النُّفوس ولا تهتدي إلى معانيها العقول كَرَمْي الجمار بالأحجار، والتَّردّد بين الصّفا والمروة على سبيل التِّكرار.
وبمثل هذه الأعمال يظهر كمال الرّقّ والعبوديّة بخلاف سائر العبادات؛ كالزَّكاة الَّتي هي إنفاقٌ في وجه معلوم وللعقل إليه مَيْل، والصَّوم الَّذي هو كَسْر للشهوة -الَّتي هي عدوٌّ لله- وتفرّغٌ للعبادة بالكفّ عن الشّواغل، وكالرّكوع والسّجود في الصّلاة الَّذي هو تواضعٌ لله سبحانه بأفعالٍ على هيئات التّواضع، وللنّفوس أُنسٌ بتعظيم الله تعالى.
وأمّا أمثال هذه الأعمال [أعمال الحج]، فإنّه لا اهتداء للعقل إلى أسرارها، فلا يكون للإقدام عليها باعثٌ إلَّا الأمر المجرّد وقَصْد امتثاله من حيث هو واجب الاتّباع فقط، وفيه عزلٌ للعقل عن تصرُّفه، وصَرْفُ النَّفس والطَّبع عن محلّ أُنسه المعين على الفعل من حيث هو؛ فإنّ كلّّ ما أدرك العقلُ وجهَ الحكمة في فعله مال الطَّبعُ إليه ميلاً تامّاً، فيكون ذلك المَيْل معيناً للأمر وباعِثاً على الفعل، فلا يكاد يَظهر به كمال الرّقّ والانقياد، ولذلك قال صلّى الله عليه وآله في الحجّ على الخصوص: «لبّيك بحجّة حقّاً، تعبّداً ورقّاً»، ولم يَقُل ذلك في الصَّلاة وغيرها.
وإذا اقتضت حكمةُ الله سبحانه ربطَ نجاة الخَلْق بِكَوْن أعمالهم على خلاف أَهْوِيَة طباعهم، وأن يكون أزّمتها بيد الشّارع فيتردّدون في أعمالهم على سُنَنِ الانقياد ومقتضى الاستعباد، كأنَّ ما لا يُهتدَى إلى معانيه أبلغ أنواع التَّعبّدات، وصَرْفها عن مقتضى الطَّبع إلى مقتضى الاسترقاق، ولهذا كان مصدر تعجُّب النُّفوس من الأفعال العجيبة هو الذُّهول عن أسرار التَّعبّدات.
O وأمّا الشّوق: فباعثُه الفهمَ أنّ البيت بيت الله، وأنّه وُضِع على مثال حضرة الملوك؛ فقاصِدُه قاصدُ الله تعالى، ومَن قَصَد حضرة الله تعالى بالمثال المحسوس، فجديرٌ أن يَترقّى منه بحسب سَوْقِ شوقه إلى الحضرة العُلْويّة والكعبة الحقيقيّة الَّتي هي في السّماء، وقد بُنِي هذا البيت على قصدها، فيُشاهد وجه ربّه الأعلى بِحُكم وَعْدِه الكريم.
O وأمّا العزم: فَلْيَستحضر في ذهنه أنّه لعزمه مفارقٌ للأهل والولد، هاجرٌ للشّهوات واللّذّات، مُهاجِرٌ إلى ربِّه، متوجّهٌ إلى زيارة بيته. وليُعظَّم قدر البيت لقدر ربِّ البيت، وليُخلِص عَزْمَه لله ويُبْعِدُه عن شوائب الرِّياء والسُّمعة فإنّ ذلك شِرْكٌ خفيّ، وليتحقّق أنّه لا يُقْبَل مِن عمله وقصده إلَّا الخالص، وأنّ مِن أَقبحِ المقابح أنْ يَقصدَ بيتَ المَلِك وحَرَمَهُ مع اطَّلاع ذلك المَلِك على خائنة الأعين وما تخفي الصُّدور، ويكون قَصْدُهُ غَيْرَه، فإنّ ذلك استبدالٌ للَّذي هو أدنى بالَّذي هو خير.
O أمّا قَطْعُ العلائق: فَحَذْفُ جميع الخواطر عن قلبه غير قصد عبادة الله والتّوبة الخالصة له عن الظُّلم وأنواع المعاصي؛ فكلّ مَظْلَمةٍ علاقة، وكلّ علاقة خصمٌ حاضر متعلَّق به يُنادي عليه ويقول: أَتَقصد بيتَ الملِك، وهو مطَّلعٌ على تضييعك أمرَه في منزله هذا، وتَستهينُ به ولا تَلتفت إلى نَواهيه وزَواجِره، ولا تَستحيي أن تُقْدِمَ عليه قدوم العبد العاصي فيغلق دونك أبواب رحمته ويُلقيكَ في مَهاوي نقمته؟
فإنْ كنت راغباً في قبول زيارتك فابرُزْ إليه من جميع معاصيك، واقْطَع علاقة قلبك عن الالتفات إلى ما وراءك، لتتوجّه إليه بوجه قلبك كما أنت متوجِّهٌ إلى بيته بِوَجه ظاهرك، وليَذْكر عند قطعه العلائق لسفر الحجّ قطعَ العلائق لسفر الآخرة، فإنّ كلّ هذه أمثلة قريبة يترقّى منها إلى أسرارها.
O وأمّا الزَّاد: فليطلبه من موضعٍ حلال، فإذا أحسّ من نفسه بالحرص على استكثاره وطِيبهِ، وطَلب ما يبقى منه على طول السّفر، ولا يَتغيَّر قبل بلوغ المقصد، فليَذكُر أنَّ سَفَرَ الآخرة أطوَل من هذا السَّفر، وأنّ زاده التَّقوى. وأمّا ما عَداه، لا يَصلح زاداً ولا يبقى معه إلَّا ريثما هو في هذا المنزل. وليَحذَر أن يُفسد أعماله الَّتي هي زاده إلى الآخرة بشوائب الرِّياء وكدورات التّقصير فيدخل في قوله تعالى: ﴿هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعا﴾ الكهف:103-104.
وكذلك فليُلاحِظ عند ركوب دابّته تسخيرَ الحيوان له وحمله عنه الأذى، ويتذكَّر منّتَه تعالى لشمول عنايته ورأفته حيث يقول: ﴿وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلَّا بشقّ الأنفس إنّ ربّكم لرؤف رحيم﴾ النحل:7، فيَشكره سبحانه على جزيل هذه النّعمة وعظيم هذه المِنّة، ويَستحضر ".." إلى منازل الآخرة الَّتي لا شكّ فيه ".." وليعلم أنّ هذه أمثلة محسوسة يترقّى منها إلى مراكب النّجاة من الشّقّة الكبرى، وهي عذاب الله سبحانه.
O وأمّا ثوب الإحرام وشراؤه ولبسُه: فليتذكَّر معه الكَفَن ودَرْجه فيه ولعلَّه أقربُ إليه، وليتذكَّر منها التَّسربُل بأنوار الله الَّتي لا مَنجى من عذابه إلَّا بها، فيَجهَد في تحصيلها بقدر إمكانه.
O وأمّا الخروج من البلد: فليَستحضر عنده أنّه يفارق الأهل والولد متوجِّهاً إلى الله سبحانه في سفرٍ غير أسفار الدُّنيا، ويَستحضر أيضاً غايتَه من ذلك السَّفر وأنّه متوجّه إلى ملك الملوك وجبّار الجبابرة في جملة الزائرين الَّذين نودوا فأجابوا، وشُوِّقوا فاشتاقوا، وقَطعوا العلائق، وفارقوا الخلائق، وأَقبلوا على بيتِ الله طَلَباً لِرضى الله تعالى، وطمعاً في النّظر إلى وجهه الكريم. وليُحضِر أيضاً في قلبه رجاء الوصول إلى الملك والقبول له بسعة فضله، وليَعتقد أنّه إنْ مات دون الوصول إلى البيت، لقى اللهَ وافداً عليه، لقوله تعالى: ﴿..وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى الله ورَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله..﴾ النساء:100.
وليَتذكَّر في أثناء طريقه من مشاهدة عَقَبات الطَّريق عَقَبات الآخرة، ومن السّباع والحيّات حشرات القبر، ومن وحشة البراري وحشة القبر وانفراده عن الأنس؛ فإنّ كلّ هذه الأمور جاذبةٌ إلى الله سبحانه ومذكَّرةٌ له أمرَ معاده.
O وأمّا الإحرام والتّلبية من الميقات: فليَستحضر أنّه إجابةُ نداء الله تعالى، وليَكُن في قبول إجابته بين خوفٍ ورجاءٍ، مفوِّضاً أمره إلى الله، مُتوكَّلا على فضله.
قال سفيان بن عيينة حجّ زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السّلام، فلمّا أحرمَ واستَوَت به راحلتُه، اصفَرَّ لونُه، ووقعت عليه الرَّعدة، ولم يستطع أن يُلبّي، فقيل له: ألا تلبّي فقال: «أخشى أن يقول لا لبّيك ولا سَعديك»، فلمّا لبّى غُشِيَ عليه وسقط عن راحلته، فلم يزل يعتريه ذلك حتّى قضى حجَّه.
فانظُر -رحمك الله- إلى هذه النَّفس الطَّاهرة حيثُ بلغ بها الاستعداد لإفاضة أنوار الله، لم تزل الغواشي الإلهيّة والنَّفخات الرّبّانيّة تغشِّيها، فيَغيب عن كلّ شيء سوى جلال الله وعظَمته. فَليتذّكر الحاجُّ عند إجابته نداءَ الله سبحانه إجابة ندائه تعالى عند النَّفخ في الصُّور، وحَشْر الخَلْق من القبور، وازدحامهم في صعيد القيامة مُجيبين لِندائه، منقسمين إلى مُقرَّبين وممقوتين ومقبولين ومردودين ومردَّدين في أوّل الأمر بين الخوف والرَّجاء تردُّد الحاجّ في الميقات، حيث لا يدرون أيتيسّر لهم إتمام الحجّ أم لا.


اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

16/10/2012

دوريات

نفحات