صُوَرٌ من جهاد وارثِ الحسين والنّبيّين
الخطابُ التّاريخي في الشّام، عنوانُ مواقفِه الجهاديّة
ـــــ السيّد محمّد رضا الجلالي ـــــ
في كتابه الذي فاز بالجائزة الأولى في لبنان، حول الإمام السجّاد عليه السلام، يستعرض السيّد الجلالي المواقف الجهاديّة لوارث الحسين والنبيّين سلامُ الله عليهم أجمعين.
وقد اختارت «شعائر» تظهيرَ هذه المواقف في سياقِ واجبِ تغيير الصّورة التي ترسمُها في بعض الأذهان، كَثرةُ التّعبير عن الإمام السجّاد عليه السلام بـ «مريض كربلاء»، من دون الإشارة إلى غير هذا الوصف، من قبيل: «إمام زمان مولاتنا زينب بعد الحسين عليه السلام»، أو من قبيل: «وارث الحسين والنّبيّين»، وغير ذلك. |
من كلامٍ له عليه السلام وهو في أَسْر بني أميّة: «أيّها النّاس! إنّ كلَّ صمتٍ ليس فيه فِكْرٌ فهو عَيّ، وكلَّ كلامٍ ليس فيه ذِكرٌ فهو هباء. ألا، وإنّ الله تعالى أكرمَ أقواماً بآبائهم، فَحفظَ الأبناءَ بالآباء، لقوله تعالى: ﴿..وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا..﴾ الكهف:82، فأَكرمَهما. ونحنُ -واللهِ- عترةُ رسول الله صلّى الله عليه وآله، فَأَكرِمونا لأجلِ رسول الله، لأنّ جدّي رسولَ الله صلّى الله عليه وآله كان يقول في منبرِه: (احفظوني في عترتي وأهلِ بيتي، فمَن حَفِظَني حفظَه الله، ومَن آذاني فَعليه لعنةُ الله. ألا، فلعنةُ الله على مَن آذاني فيهم)، حتّى قالها ثلاث مرّات. ونحن -واللهِ- أهلُ بيتٍ أذهبَ الله عنّا الرّجسَ والفواحشَ؛ ما ظهرَ منها وما بطَن».
بهذه الصّراحة، والقوّة، والبلاغة -في العراق وفي الشّام- عرَّفَ الإمامُ السجّاد عليه السلام للمتفرّجين -ولمن وراءَهم- هذا الرَّكبَ المأسور، الذي نبزوه بأنّه ركبُ الخوارج! ففضحَ الدّعايات، وأعلنَ بذلك أنّه ركبٌ يتألّفُ من أهل بيت الرّسول صلّى الله عليه وآله. وأفصحَ بتلاوة الآياتِ والأحاديث، أنّه ركبٌ يحمل القرآن والسُّنّة، ليعرفَ المخدوعون أنّ هذا الرّكبَ له ارتباطٌ وثيقٌ بالإسلام من خلال مَصدرَيه؛ الكتاب والسُّنَّة.
وهو -من لسان هذين المصدَرين- يصبُّ اللّعنةَ والنّقمةَ على مَن آذى هذا الرّكب، من دون أن يمكِّن الأعداءَ من التعرّض له، لأنّه عليه السلام إنّما يروي اللّعنةَ الصادرةَ من الرّسول صلّى الله عليه وآله، وعلى لسانِه!
كان هذا الموقف، حين أخذَ النّاسَ الوجومُ، من عِظم ما جرى في وقعة كربلاء، وما حلّ بأهل البيت عليهم السلام من التّقتيل والأَسْر، وذُهلوا حينما رأوا الحسين عليه السلام، سبطَ الرّسول صلّى الله عليه وآله، وأهلَه وأصحابَه مجزَّرين! ويرون اليوم ابنَه، وعيالاتِه أسرى، يُساقون في العواصم الإسلاميّة.
هذا، والنّاس يفتخرون بالانتماء إلى دين الرّسول وسنّتِه!
والأنكى من ذلك أنّ الجرائم وقعت ولمّا يمضِ على وفاة الرّسول صلّى الله عليه وآله -جدِّ هؤلاء الأسرى- نصفُ قرنٍ من الزمن!!
وموقفُه الآخر في مجلس يزيد، فقد أوضحَ فيه عن هويّته الشخصيّة، فلم يدَع لجاهلٍ عذراً في الجلوس المريب، وذلك في المجلس الذي أقامَه يزيد، للاحتفال بنشوة الانتصار، ولا بد أنّه جمع فيه الرّؤوس والأعيان، فانبرى الإمامُ السجّاد عليه السلام، في خطبتِه البليغة الرّائعة، التي لم يزل يقول فيها: (أنا.. أنا..)، معرّفاً بنفسه، وذاكراً أمجادَ أسلافه (حتّى ضجّ المجلسُ بالبكاء والنّحيب) حسب تعبير النّصّ.
فأدّى كلامُ الإمام عليه السلام إلى أن تتبخّرَ كلُّ الدّعايات المضلِّلة التي روَّجتها السياسة الأمويّة، والتي تركّزت على: أنّ الأسرى هم من الخوارج! فبدَّلَ نشوةَ الانتصار إلى حشرَجة الموتى في حلوق المحتفلين!
وفي التزام الإمام السجّاد عليه السلام بذكر هوّيته الشخصيّة فقط في هذه الخطبة، حكمةٌ وتدبيرٌ سياسيٌّ واعٍ، إذ لم يكن له في مثل هذا المكان والزّمان، أن يتطرّق إلى شيءٍ من القضايا الهامّة، وإلّا كان يمنَع من الكلام والنُّطق، وأمّا الإعلان عن اسمِه فهي قضيّةٌ شخصيّة، وهو من أبسط الحقوق التي تمنَح للفرد، وإن كان في حالة الأسر.
لكنّ كلام الإمام لم يكن في الحقيقة إلّا مليئاً بالتّذكير والإيماء، بل الكناية التي هي أبلغُ من التّصريح، بنسبِه الشّريف، واتّصالِه بالإسلام، وبرسولِه الكريم صلّى الله عليه وآله.
وقد ذكّرَ الإمام زين العابدين عليه السلام بكلِّ المواقع الجغرافيّة، والمواقف الحاسمة والذّكريات العظيمة في الإسلام، وربطَ نفسَه بكلّ ذلك، فسردَ -وبِلغةٍ شخصيّة- حوادثَ تاريخ الإسلام، معبّراً بذلك عن أنّه يحملُ همومَ ذلك التّاريخ كلِّه على عاتقه، وأنّه حاملُ هذا العبء، بكلِّ ما فيه من قدسيّة، ومع هذا فهو يقفُ (أسيراً) أمامَ أهل المجلس!
وقد فهم النّاسُ مغزى هذا الكلام العميق، فلذلك ضجّوا بالبكاء! فإنّ الحكّامَ الأمويّين إنّما حصلوا على مواقع السّلطة من خلال ربطِ أنفسِهم بالإسلام، فكسبوا لأنفسِهم قدسيّةَ الخلافة!
وكان لجهل النّاسِ الأثرُ الكبير في وصول الأمر إلى هذه الحالة؛ أنْ يروا ابنَ الإسلام أسيراً أمامَهم!
ثمّ إنّ جهلَ أهل الشّام بأهل البيت عليهم السلام، مضافاً إلى حقد الحكّام على أهل البيت عامّة، وعلى الذين كانوا مع الحسين عليه السلام في كربلاء خاصّة، كان يدعو إلى الاحتياط، والحذرَ من أن ينقضّ يزيد على الأسرى! في ما لو أحسَّ بخطرهم، فيُبيدهم!
فكان ما قام به الإمام من تأطير خطبتِه بالإطار الشخصيّ مانعاً من إثارة غضبِه وحقدِه، لكن لم يفت الإمامَ اقتناصُ الفرصةِ السانحةِ لكي يبثّ من خلال التّعريف بشخصِه وهويّته، التّنويهَ بشخصيّته وبقضيّتِه وبهمومِه، ولو بالكناية التي كانت -حقّاً- أبلغَ من التّصريح.
فلذلك لم يتعرّض الإمام عليه السلام لذكر مساوئ الأمويّين، ولم يذكر شيئاً من فضائحِهم، بالرّغم من (توقّع يزيد) نفسِه لذلك.
وبذلك نجا من شرِّ يزيد، وبقِيَ ليواصلَ اتّباعَ الهدف الذي من أجله قُتل الشّهداء بالأمس، وأصبح -هو- يقودُ مسيرةَ الأحياء، اليوم، وغداً.
وموقفٌ آخر: في وسط ذلك الجو الخانق، وفي عاصمة الحاكم المنتصِر، وفي حالة الأَسْر، يرفعُ الإمامُ صوتَه، لِيُسمعَ الآذان التي أصمَّها الضوضاء والصّخب، في ما رواه المنهالُ بن عمرو، قال: دخلتُ على عليِّ بن الحسين، فقلت: كيف أصبحت، أصلحك الله؟!
فقال: ما كنت أرى شيخاً من أهل المصر -مثلَك- لا يدري: كيف أصبحنا!؟ ".." فأمّا إذا لم تَدْرِ -أو تعلم- فأنا أُخبرُك:
أصبحنا -في قومنا- بمنزلةِ بني إسرائيل في آل فرعون، إذ كانوا يذبِّحون أبناءَهم ويَستحيون نساءَهم، وأصبحنا: شيخُنا وسيّدُنا يُتقرَّب إلى عدوِّنا بشتمِه، وبسبِّه، على المنابر.
وأصبحت قريش تعدُّ أنّ لها الفضلَ على العرب، لأنّ محمّداً منها، لا يعدُّ لها فضلٌ إلّا به، وأصبحت العربُ مقرّةً لهم بذلك.
وأصبحت العربُ تعدُّ أنّ لها الفضل على العجم، لأنّ محمّداً منها، لا يعدُّ لها فضلٌ إلّا به، وأصبحت العجمُ مقرّة (لهم بذلك).
فإنْ كانت العربُ صدقتْ أنّ لها الفضلَ على العجم، وصدقت قريش أنّ لها الفضلَ على العرب لأنّ محمّداً منها: إنّ لنا -أهلَ البيت- الفضلَ على قريش، لأنّ محمّداً منّا.
فأضحوا يأخذون بحقّنا، ولا يعرفون لنا حقّاً، فهكذا أصبحنا، إن لم تعلم: كيف أصبحنا؟!
قال المنهال: فظننتُ أنّه أرادَ أن يُسمعَ مَن في البيت!
ويصرّح الإمام عليه السلام في موقفٍ مماثل يُسأَل فيه عن الرّكب الذي هو فيه، فيقول:
«أنا من أهل البيت، الّذين افترضَ اللهُ مودّتَهم على كلِّ مسلم، فقال تبارك وتعالى لنبيّه صلّى الله عليه وآله: ﴿..قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا..﴾ الشورى: 23 ، فاقترافُ الحسنة مودّتُنا أهلَ البيت».
إلى غير ذلك من المواقف التي كان لها أثرٌ حاسمٌ في تغيير سياسة يزيد تجاه هذا الرّكب المأسور، حتّى أرجعَه إلى المدينة!
إنّ هذه المواقف لم تكن تصدر من قلبٍ مُلِئَ رعباً، أو شخصٍ يفضّلُ السّلامة، أو يميلُ إلى الهدوء والرّاحة والمسالمة مع العدوّ، أو الرّكون إلى الظّالمين. إنّما صاحبُ هذه المواقف ذو روحٍ متطلّعة وثّابة هادفة، إذا لم يتَح له -بعد كربلاء- أن يأخذَ بقائمة السّيف، فسنانُ المنطق لا يزالُ في قدرته، يهتكُ به ظلامَ التّعتيم الإعلامي المضلِّل!
***