مفهومُ الاستقلال السّياسيّ
آليّاتُ إنجازِه في الأقطار الإسلاميّة
ـــــ الشيخ الدكتور عبد الهادي الفضلي ـــــ
يتناولُ هذا البحث للشّيخ الدكتور عبد الهادي الفضلي مفهومَ «الاستقلال السياسيّ»، وحداثتَه في مجتمعاتنا، ومن ثمّ في المعاجم اللّغويّة والعلميّة العربيّة، ويختمُ بالكلام على واقعه الرّاهن في بلدانِنا، والسُّبُل الكفيلة بتحقيقِه في الأقطار الإسلاميّة التي لم يتحقّق أو يكتمل فيها بأبعادِه كافّة.
|
كلمةُ «استقلال» بمعناها الشّائع والمتداوَل ترجمةٌ لكلمة «Independence» الإنجليزيّة، وهذه الأخيرة مأخوذة عن كلمة «dependace» اللّاتينيّة، وهي تعني «التّبعيّة» أو «التّعلُّق»، ثمّ دخلت عليها السّالبة «In» فصار معناها الحرفيّ، غيابُهما أو انتفاؤهما. وفي العلوم السياسيّة استُعير اللّفظُ، وقُرِن بكلمة «Political»، أي «سياسيّ»، ومن اجتماعِ اللّفظَين معاً تولَّدَ المعنى الذي نحن بصَددِه.
هذا، ويُستخدَم معنى «الاستقلال السّياسيّ» في الواقعَين التّاليَين:
1- تحرُّر البلاد المستعمَرة من نير الاستعمار، يُقال مثلاً: «هذه بلادٌ كانت مُستعمَرةً للإمبراطوريّة البريطانيّة، ثمّ تحرَّرت عنها ونالت استقلالَها».
2- عدم خضوعُ البلاد لأيّ استعمارٍ على الإطلاق، يُقال: «إنّ هذه البلاد لم تخضَع في يومٍ من الأيّام لسلطة الاستعمار، فهي مستقلّة منذ القديم وحتّى الآن».
ولم يكن هذا المعنى معروفاً في مجتمعاتنا العربيّة، ولذلك لم يُدْرِجه علماء اللّغة، ولا أربابُ المعاجم العربيّة في الموسوعات التي دُوِّنت قبل عصرنا هذا، ذلك أنّ هذا المفهوم لكلمة «استقلال» لم يدخل حضارتَنا إلّا بعد سقوطِ الدّولة العثمانيّة، واستعمارِ أكثر البلدان العربيّة من قِبَل الدُّول الأوروبيّة، وسَعي الشّعوب العربيّة -من ثمّ- إلى التّخلُّص من سلطة الاستعمار الأوروبّي.
في هذا الجوّ المُفعَم بالحوادث السِّياسيّة، وما نتجَ عنها من هزّاتٍ عنيفة في واقع مجتمعاتنا، وترتّبَ عليها من اتّساعِ آفاق التّفكير، وبُعدِ النّظَر في حقيقة الصّراعات العسكريّة والسِّياسيّة الدّائرة في البلاد العربيّة المُستعمَرة -في هذا الجوّ- استعارت حضارتُنا هذا المعنى السِّياسيّ من أوروبا؛ من صحافتِها، ومن العلوم الإنسانيّة فيها، لا سيّما السّياسيّة منها.
وبعد أن انتَشر استعمالُ هذا المعنى الجديد في مجتمعاتنا، أَدرَجَه المُعجم العربيّ في قائمةِ معاني كلمة «استقلال»، كيف وشيوعُ الاستعمال رافدٌ مهمٌّ من روافد اللّغة، لا سيّما في عالمنا الحديث الذي تيسَّرت فيه المواصلات، ومن ثمَّ الاتّصالات الاجتماعيّة، وانتَشَر فيه التّواصل الإعلاميّ، وبسرعةٍ فائقة. وهذا يعني أنّ المعنى اللّغويّ الجديد لكلمة «استقلال» أُخذ من المصطلح العلميّ السّياسيّ، بعد أن شاعَ في الأوساط الاجتماعيّة العربيّة؛ الثّقافيّة منها وغير الثّقافيّة.
«الاستقلال» في معاجم اللّغة
في (لسان العرب) لابن منظور -وهو من المعاجم القديمة- يذكرُ لكلمة «استقلال» المعاني التّالية:
1- استقلالُ الطّائر، يُقال: استقلَّ الطّائرُ في طيرانِه: نهضَ للطّيران، وارتفعَ في الهواء.
2- استقلالُ النّبات، يُقال: استقلَّ النّبات: أناف. [أي كان نباتُه سريعاً]
3- استقلالُ القَوْم، يُقال: استقلّ القَوْم: ذهبوا، واحتملوا سائرين، وارتحلوا، قال الله عزَّ وجلَّ ﴿..حتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا..﴾ الأعراف:57، أي حَمَلَت.
4- استقلالُ السَّماء، يُقال: استقلّتِ السّماء: ارتفعتْ، وفي الحديث: «حتّى تقالتِ الشّمس»، أي استقلّت في السّماء، وارتفعت وتعالت.
وهذه المعاني الأربعة التي ذكرَها (لسان العرب) لكلمة «استقلال» ترجع إلى معنيَين، هما:
1- الارتفاع، ويصدقُ على استقلال الطّائر، واستقلال النّبات، واستقلال السّماء.
2- الارتحال، وينطبقُ على استقلال القوم.
ولهذا، حَصَر المعجمُ الحديثُ دلالةَ الكلمة قديماً في هذَين المعنيَين، وأضاف إليهما معنيَين جديدَين ممّا أفادته الحياةُ المعاصرة. جاء في (المعجم الوسيط) لـ «مجمع اللّغة العربيّة» بالقاهرة ما نصُّه: «استقلّ: ارتفع، يُقال: استقلّ الطّائرُ في طَيَرانه، واستقلّ النّبات، واستقلّت الشّمس. واستقلّ القومُ: مضوا وارتحلوا. واستقلَّ فلانٌ: انفردَ بتدبيرِ أمرِه، يُقال: استقلَّ بأَمرِه. واستقلّت الدّولةُ: استكمَلت سيادتَها، وانفردَتْ بإدارة شؤونِها الدّاخليّة والخارجيّة، لا تخضعُ في ذلك لرقابةِ دولةٍ أخرى..».
«الاستقلال» كمُصطَلح قانونيّ، واجتماعيّ، وسياسيّ
1- المعنى القانونيّ: «الاستقلال: هو وضعُ جماعةٍ غيرِ تابعةٍ لجماعةٍ أجنبيّة ".." وفي ما يتعلّق بدولةٍ ما، تُستعمل الكلمة كمرادفٍ للسّيادة، وحقّ الدّولة في أن تمارسَ بنفسِها مجموعَ صلاحيّاتِها الدّاخليّة والخارجيّة، من دون تبعيّةٍ لدولةٍ أخرى أو لسُلطةٍ دُوليّة، مع وجوب مراعاة القانون الدّوليّ واحترام التزاماتها بموجب الاتّفاقات المعقودة مع الدّوَل». (معجم المصطلحات القانونيّة، ج. كورنو، ترجمة م. القاضي)
2- المعنى الاجتماعيّ: «الاستقلال: حرّيّةُ الشّخص الطّبيعيّ أو الاعتياديّ من تدخُّل الغير في شؤونه الخاصّة، أو إشرافِه، أو نفوذِه المباشر أو غير المباشر». (معجم مصطلحات العلوم الاجتماعيّة، بدوي)
3- المعنى السياسيّ: «..ينطوي الاستقلالُ السِّياسيّ على تمتُّعِ الدّولة بالسّيادة، أي ما لها من سلطانٍ تواجهُ به الأفرادَ داخلَ إقليمِها، وتواجهُ به الدُّولَ الأخرى في الخارج». (مُعجم المصطلحات السِّياسيّة والدّوليّة، بدوي)
وفي المجال التّطبيقيّ، لا بدَّ من الإشارة إلى واقع الوضع السّياسيّ لأَنظمة الحُكم في ما نعرفه من بلدان، وهو وضعٌ يرتبطُ بوضع الاستعمار وانقسامه إلى استعمارٍ قديمٍ وآخَر جديد. ويُرادُ بالأوّل التّسلُّطَ المباشر، وهو يتحقَّق عن طريق الغزو العسكريّ، وبالثّاني التسلُّطَ غير المباشر، وهو أحدُ أشكال السّيطرة الاستعماريّة التي لا تَعتمد على التحكّم السِّياسيّ المباشر، أو التّواجد العسكريّ الواضح، ولكنّه يقوم على السّيطرة الاقتصاديّة والاجتماعيّة.
على خطى الاستقلال الحقيقيّ
وعلى أساسٍ من هذا التّقسيم للاستعمار، ينقسم الاستقلالُ إلى قسمَين، ويُمكننا أن نطلقَ عليهما عنوان «الاستقلال الحقيقيّ» و«الاستقلال الظاهريّ».
وأريدُ من الاستقلال الحقيقيّ: التّحرُّرَ الكاملَ من الاستعمار بنوعَيه: المباشر وغير المباشر.
ومن الاستقلال الظّاهريّ: التّخلُّصَ من الاستعمار العسكريّ فقط، بأنْ تبقى البلادُ من جانبٍ آخَر راضخةً تحت نِير الاستعمار غير المباشر.
وفي هَدْيِ هذا، وفي ضوء تقسيم الاستقلال السياسيّ الذي ألمحتُ إليه في أوّل البحث، نستطيعُ أن نقسّم الدّول المعاصرة إلى الأقسام التّالية:
1- الدّولة المستقلّة منذ البدء، وهي تلك الدّولة التي لم تخضع من أوّل وجودها لأيّ استعمارٍ، وبقيت مستمرّةً على ذلك.
2- الدّولة المستقلّة بعد الاستعمار، استقلالاً حقيقيّاً.
3- الدّولة المستقلّة بعد الاستعمار استقلالاً ظاهريّاً، أي أنّ استقلالها استقلالٌ مزعومٌ أو موهوم. وقد يُقال عن مثل هذه الدّولة: إنّها دولةٌ لا تمتلكُ الاستقلاليّة، لأنّها لا تزالُ تابعةً للغَير.
وهذا التّقسيم الثلاثيُّ ينطبقُ على بلدان المسلمين المعاصرة. فَفيها البلادُ المستقلّةُ منذ البدء، وفيها البلادُ المستقلّة بعد الاستعمار استقلالاً حقيقيّاً، وفيها البلادُ المستقلّة بعد الاستعمار استقلالاً ظاهريّاً.
وفي ضوئه: ما هو العمل من أجل مستَقبلٍ يكونُ فيه الاستقلالُ كاملاً لجميع بلدان المسلمين؟
1- لا بدّ -في البدء- من وضع دراساتٍ ميدانيّة لواقع أوضاع بلاد المسلمين من النّاحية السياسيّة.
2- توعية المسلمين ليكونوا في حالة استعدادٍ دائمٍ للعملِ من أجل التّخلُّص من النُّفوذ الأجنبيّ.
3- مساعدةُ البلدان الإسلاميّة غير المستقلّة استقلالاً كاملاً، بما يدفعُها إلى العمل على التّخلُّص من الاستعمار الذي تعاني منه.
4- ابتداءُ العملِ باتّباع الوسائل والأساليب المدنيّة، ومن بعدُ لا مناصَّ من الجهاد.
5- وفي الوقت نفسه: على البلدان الإسلاميّة المستقلّة استقلالاً كاملاً العملُ على رفع مستواها تقنيّاً، لتكون في مصافِّ الدّول الأخرى المتقدّمة تكنولوجيّاً.
6- الإكثار من إنشاء مراكزَ للبحث العلميّ، تعملُ على شرح العقيدة الإسلاميّة، كإيديولوجيّة للفكر والعمل الإسلاميَّين، وعلى استنباط وشرحِ التّشريعات الإسلاميّة لتنظيم الحياة، وترجمة ذلك إلى مختلف اللّغات الحيّة.
7- القيام عن طريق مراكز البحث بدراساتٍ مقارنة بين التّشريع الإسلاميّ والتّشريعات الأخرى المعاصرة، لنصلَ عند ذلك إلى أن يسترجعَ الإسلامُ سيادتَهُ على العالم، من أجل تحقيق السّعادة والسّلامِ المنشودَين. (مختصَر)