خاض الخائب الحرب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقتل عدداً من حملة لواء الكافرين، من أشداء بني عبد الدار، وأصيب في المعركة على أيدي الكفار ولا يكون شهيداً! إن في الأمر إذاً ما يجب أن يطول فيه التأمل. سرعان ما نكتشف حقيقة أمر قزمان، ليتركز بعد ذلك التأمل في هذه النفس، للنفاذ إلى تلك الدقائق التي منها ماهو أخفى من دبيب النملة على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء!
السلام على المجاهدين في سبيل الله وعلى جميع المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
* مقاتل أم شهيد:
السائد في أوساطنا أن كل من قُتل على يد الأعداء فهو شهيد.
هذا الأمر ينبغي أن ندقق فيه بعض الشيء.
في الإطلالة السابقة ذكرت خطر الغرور، وأن الشيطان قد يدخل من بابه ليُسقط المجاهد ويلقي به في مهاوي الردى.
وطبيعي أن هذا الكلام لا يعني أدنى مس بكرامة الشهيد، ولكن أليس من الممكن أن يُقتل شخص في مواقع الجهاد ثم لا يكون شهيداً؟
* قُزمان:
إذاً ما هي دلالات قصة قُزمان، العبد الأسود الذي بقي في المدينة. لم يخرج إلى الحرب في أحد. عيّرته النساء بذلك فخرج، اشترك في الحرب وجُرح. مر به شخص وهو جريح يحتضر فقال له: هنيئاً لك الجنة يا قُزمان. قال: يا هذا والله ما لهذا قاتلت وإنما قاتلت دفاعاً عن أحساب قومي!
وقد أخبر المصطفى الحبيب الرؤوف والرحيم، بأن قزمان من أهل النار!
خاض الخائب الحرب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقتل عدداً من حملة لواء الكافرين، من أشداء بني عبد الدار، وأصيب في المعركة على أيدي الكفار ولا يكون شهيداً!
إن في الأمر إذاً ما يجب أن يطول فيه التأمل.[i]
سرعان ما نكتشف حقيقة أمر قزمان، ليتركز بعد ذلك التأمل في هذه النفس، للنفاذ إلى تلك الدقائق التي منها ماهو أخفى من دبيب النملة على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء!
قال النباطي، في الصراط المستقيم:
"وقد جاهد قزمان يوم أحد فاثني عليه بحضرة النبي صلى الله عليه وآله فقال : إنه من أهل النار، فكشف عن حاله فلم يجدوه قاتل إلا لأحساب قومه أقر بذلك قبل موته".[ii]
وقال غيره: " فلما اشتد به ألم الجراح حبا إلى كنانته فاخذ منها مشقصا فقتل نفسه" [iii]
ليس المقياس في الآخرة- إذاً- الإسم العسكري، والرقم العسكري، ولا "البوستر" الذي يُطبع! ولا كيف قاتل، وكم كان شديد البأس، ولا كم قتل من جلاوزة الطواغيت أو الطواغيت أنفسهم.
المقياس القتال في سبيل الله، لتكون كلمة الله هي العليا، وسبيل الله هو خدمة الناس لوجه الله لايرد منهم جزاء ولاشكوراً، وتأبى خدمة المرء للناس أن تكون عين خدمة الناس له.
يمسخ التباهي والتمايز والإستعلاء، حقيقة الخدمة فيختلط المخدوم بالخادم والحابل بالنابل وسوء العاقبة وبئس المصير.
* بين الجهاد الأكبر والشهادة:
وصلنا بيسر وبكل وضوح إلى أن حسن العاقبة مرتبط جذرياً بالجهاد الأكبر، بترويض النفس باستمرار لتتساقط أدرانها وتصفو وتشذَّب، فتكون النفس المطمئنة التي ترجع إلى الله عز وجل راضية مرضية.
حسن العاقبة مرتبط برصيد الطاعات وسوء العاقبة مرتبط ب" رصيد" المعاصي.
وفي حالات الإحتضار يبرز رصيد الطاعات فإذا كان أكبر، استحق اللقلب التسديد والتثبيت
" يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة " فلا يموت على ضلال،ً أما إذا كان " رصيد" السيئات أكبر، فإنه يغطي الحسنات، ويستحق صاحبه الخذلان، فلا يُثَبَّت، ويسقط.
لكل عمل نعمله- إذاً - مدخلية في النتيجة، وربما كان هذا العمل أوذاك هو الذي يتحكم بها وبالتالي بالعاقبة، إما سوءً أو حسنا.
من هنا ندرك كم هو المجاهد - بشكل خاص- مدعو إلى مراقبة عمله.
لماذا: بشكل خاص؟
من لا بجاهد وقرر أن يحيد عن خط الجهاد وانحرف، يشكل خسارة بالتأكيد، لكن الخسارة بانحراف من جاهد أشد فداحة وأعظم خطراً، وأدهى وأمرّ.
كلما ارتفعت مرتبة القلب في آفاق الطاعة، أصبح متعيناً عليه أن يشتد حذره من السقوط لأن سقوطه سيكون مدوّياً أكثر.
* وجوب الطاعة:
وكما يجب أن يتنبه المسؤول إلى حسن علاقته بالمسؤول عنهم، يجب أن يلتفت المجاهد إلى علاقته بالمسؤول لأن معصية أمره خطيرة، فالتعبد بالتكليف من سمات المؤمن، خصوصاً في الجبهة.
لقد امتحن بنوإسرائيل بعدم الشرب من نهر، إلا بغرفة واحدة، وسقط أكثرهم في الإمتحان!
تدبر في آيات الكتاب العزيز حولهم تجد أن مشكلتهم الأساس، تكمن في عدم التعبد.
أمرهم الله تعالى بذبح بقرة، فحملهم عدم التعبد على المماطلة وتبريرها باستيضاح الأمر، ثم المماطلة والسؤال، ثم نفذوا وملء إهابهم التثاقل: فذبحوها وماكادوا يفعلون!
وما ثغرة خالد بن الوليد، التتي فتحها طمع الحراس بالغنائم في أُحد، عن مرمى عين القلب المحمدي ببعيدة.
لابد للحريص على بناء نفسه، أن يقف عند طاعة المسؤول، فيتعبد به.وأي خلل في هذا المجال ينبغي أن ينظر إليه على أساس أنه خلل في جهاده الأكبر، وتديُّنه.
وبديهي أن هذا يلقي على المسؤول من واجب الإحساس بالمسؤولية، وبذل أقصى الجهد في تصويب قرراراته، مالا يمكن تصوره إلا من خلال الحديث التالي:
عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : لا يؤمَّر رجل على عشرة فما فوقهم إلا جئ به يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه، فإن كان محسناً فُكَّ عنه، وان كان مسيئاً زيد غُلاَّ إلى غُله .[iv]
إن الخلل المترتب على عدم طاعة المسؤول كبير جداً، ولكن الأخطر منه بمراتب هو ما ينتج عن تقصير المسؤول في حسن الإدارة، وجميع مقدمات القرار.
ولايجوز إطلاقاً أن يعمد المسؤول إلى تغطية عجزه وقصوره بوجوب الطاعة، والتعبد للتكليف. إن عليه حين يضطر إلى التذكير بوجوب الطاعة أن يكون موقناً بينه وبين الله تعالى بصوابية مايأمر به، ويتوقف ذلك عادة على التأمل والتدقيق والتشاور والتمحيص.
* أذى المجاهدين:
من مخاطر الجهاد الأصغر، التي تضرب مسار الجهاد الأكبر، أن يؤذي "المجاهد" مجاهداً آخر.
عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إتقوا أذى المجاهدين في سبيل الله، فإن الله يغضب لهم كما يغضب للرسل، ويستجيب لهم كما يستجيب لهم.[v]
صحيح أن مصب الحديث أذى سائر الناس للمجاهدين، ولكنه يشمل ما لو آذى مجاهد مجاهداً.
ينبغي على المجاهد أن يراقب عمله مع إخوته المجاهدين، هل يؤذي أحداً؟
رب أذى بدَّد حصيلة أتعب نفسه في الحصول عليها.
ورب تراكم أذى استحق بسببه الطرد من ساجات الجهاد، والحرمان من فيض الشهادة.
وخلاصة القول: بعد تسليم الأمر لله تعالى والتوكل عليه سبحانه، فإن الحذر الدائم وحده، هو سبيل إلى حسن العاقبة.
أسأل الله عز وجل أن يوفقنا لمراضيه ويجعل عواقب أمورنا خيراً.
والحمد لله رب العـالمين.،.
--------------------------------------------------------------------------------
[i] جاء في المصادر: 1- (قزمان خرج مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد وهو مشرك فقتل ثلاثة من بني عبد الدار حملة لواء المشركين حتى قال صلى الله عليه وآله وسلم : أن الله ليأزر هذا الدين بالرجل الفاجر كما ثبت ذلك عند أهل السير). الشوكاني، نيل الأوطار8/44.
2- وفي الفصول المختارة) وقد أطبق أهل النقل على (..)أن رجلا من الأنصار كان يقال له قزمان قاتل في يوم أحد قتالاً شديداً حتى قتل ستة نفر من المشركين أو سبعة فأثبته الجراح، فاحتمل إلى بيته وجاء المسلمون إلى رسول ( ص ) فأخبروه بخبره، وذكروه عنده بحسن معونته وزكَّوْه ومدحوه، فقال رسول الله ( ص ) : إنه من أهل النار فأتي النبي ( ص ) بعد ذلك فقيل له : يارسول الله إن قزمان قد استشهد فقال ( ص ) يفعل الله ما يشاء ثم أتي فقيل : يا رسول الله إنه قتل نفسه، فقال: اشهدوا أني رسول الله. وذكروا أنه لما احتمل وبه الجراح نزل في دور بني ظفر فقال له المسلمون: أبشر فقد أبليت اليوم، فقال: بم تبشروني فوالله ماقاتلت إلا على أحساب قومي ولولا ذلك ما قاتلت، فلما اشتد به ألم الجراح حبا إلى كنانته فاخذ منها مشقصا فقتل نفسه). الفصول المختارة،الشيخ المفيد؟145
[ii] الشيخ الجليل علي بن يونس العاملي البياضي النباطي، الصراط المستقيم3/174
[iii] أنظر الهامش رقم 1
[iv] الشيخ الطوسي، الأمالي264.