فكر و نظر

فكر و نظر

11/04/2013

إجازةُالإمامِ الخمينيّ لتلميذِه قبل 80 عاماً

إجازةُالإمامِ الخمينيّ لتلميذِه قبل 80 عاماً:
أدعياءُ التّمدُّن والتّجدّد، أضلُّ سبيلاً..
إنِ استَشرقوا استغربَ التّمدُّن، وإنِ استَغربوا استشرَقَ
ــــ إعداد: «شعائر» ــــ


إجازةٌ تضمّنت منهجاً ووصيّةً علميّةً وأخلاقيّةً معمّقة، كتبَها الإمامُ الخمينيّقدّس سرّه (باللّغة العربية) للشّيخ جواد الهمدانيّ، أحدِ تلامذتِه في الفلسفةِ والعرفان.تقدّم «شعائر» هذا النّصَّ نقلاً عن (صحيفة الإمام أو صحيفه نور: ج 1، ص 36 - 38) على أملِ أن تَحظى هذه الوثيقة الخمينيّة النّادرة من السّادة العلماء والمفكّرين بما تستحقّه من الدّراسة والتّحليل.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سبحانك اللّهمّ وبحمدِك، يا مَنْ لا يرتقي إلى ذروةِ كمالِ أحديّته آمالُ العارفين، ويقصرُ دونَ بلوغِ قُدسِ كبريائه أفكارُ
الخائضين. جَلَّتْ عَظَمتُك من أن تكونَ شريعةً للواردين، وتقدّست أسماؤك من أن تصيرَ طُعمةً لأوهامِ المتفكّرين. لك الأحديّةُ الذّاتيّةُ في الحضرةِ الجمعيّة والغَيبيّة، والواحديّةُ الفرديّةُ في التّجلّيّات الأسمائيّة والأعيانيّة، فأنت المعبودُ في عينِ العابديّة، والمحمودُ في حال الحامديّة. ونحمدُك اللّهمّ بأَلسِنَتك الذّاتيّة في عينِ الجمع والوجود على آلائك المتجلّية في مَرائي الغيب والشّهود، يا ظاهراً في بطونِه وباطناً في ظهوره.

ونَستعينُك ونعوذُ بك من شرّ الوسواس الخَنّاس، القاطعِ طريقَ الإنسانيّة، السّالكِ بأوليائه في مَهوى جِهنام [جِهنام: الحفرة عميقة القعر، قِيل إنّها أيضاً من أسماء جهنّم]الطّبيعة الظّلمانيّة، اهدنا الصّراطَ المستقيمَ الذي هو البَرزخيّةُ الكبرى، ومقامُ أَحَدِيّة جَمعِ الأسماء الحُسنى
.
وَصَلِّ اللّهمَّ على مبدأ الظّهورِ وغايتِه، وصورةِ أصلِ النّور ومادّتِه -الهَيولى الأولى- والبرزخِ الكُبرى، الذي دَنا فرفضَ التّعيُّنات فتَدّلى فكان قابَ قوسَي الوجود، وتمام دائرة الغيب والشّهود، أو أدنى الذي هو مقامُ العَماء، بل لا مقامَ هنا على الرّأي الأسنى (عَنقا شِكارِ كَس نَشَوَد دام بازگير = صدر بيت لحافظ الشّيرازي، ومعناه: طائرُ العنقاء لا يكون صيداً لأَحد، فَلَملِم الشَّرَك)، وعلى آلِه مفاتيحِ الظّهور ومصابيحِ النّور، بل نورٌ على نورٍ، غصنِ الشّجرةِ المباركةِ الزّيتونة، والسّدرةِ المنتهى، وأصلِهما، وجنسِ الكون الجامع والحقيقةِ الكليّة، وفصلِهما، لا سيّما خاتم الولاية المحمّديّة، ومُقبِض فيوضاتِ الأحمديّة، الذي يظهرُ بالرّبوبيّة بعدما ظهرَ آباؤه عليهم السلام بالعبوديّة، فإنَّ العبوديّةَ جوهرةٌ كُنهُها الرّبوبيّة، خليفة الله في المُلك والملكوت، وإمام أئمّة قُطّان الجبروت [قُطّان: سُكّان، جمع قاطن]، جامع أحديّة الأسماء الإلهيّة، ومظهر تجلّيات الأوّليّة والآخريّة، الحجَّة الغائب المنتظَر، ونتيجة مَنْ سلفَ وغَبَر -أرواحنا له الفداء وجعلَنا اللهُ من أنصاره- والعنِ اللّهمّ أعداءَهم، قُطّاعَ طريقِ الهداية، السّالكين بالأُمم مسلكَ الضّلالة والغواية.

***

وبعد، فإنّ الإنسان ممتازٌ عن ساير الموجودات باللّطيفة الرّبانيّة والفطرة الإلهيّة ﴿..فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا..﴾ الروم:30، وهذه -بِوَجهٍ- هي الأمانةُ المشارُ إليها في الكتابِ العزيز الإلهيّ ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ..﴾ الأحزاب:72، وهذه الفطرة هي فطرةُ توحيدِ الله في المقامات الثّلاثة، بل رفضُ التّعيّنات وإرجاعُ الكُلِّ إليه، وإسقاطُ الإضافات، حتّى الأسمائيّة، وإفناءُ الجُلِّ لديه. ومَنْ لم يَصل إلى هذا المقام، فهو خارجٌ عن فطرةِ الله، وخائنٌ في أمانةِ الله، وجاهلٌ بمقام الإنسانيّة والرّبوبيّة، وظالمٌ (لنفسِه) والحضرةِ الإلهيّة.ومعلومٌ عندَ أصحابِ القلوب من أهل السّابقة الحُسنى أنّ حصولَ هذه المنزلةِ الرّفيعة والدّرجةِ العَليّة؛ لا يُمكن إلّا بالرّياضاتِ الرّوحيّة والعقليّة، والخواطرِ القُدسيّة القلبيّة، بعدَ طهارة النّفسِ عن أرجاسِ عالَم الطّبيعة وتزكيتِها، فإنّ هذا مقامٌ لا يَمسُّه إلّا المُطَهَّرون، وصرفِ الهَمِّ إلى المعارف الإلهيّة، وقَصْرِ الطّرْف إلى الآيات والأسماء الرّبوبيّة عقيبَ صيرورتِه إنساناً شرعيّاً بعدما كان إنساناً بشريّاً بل طبيعيّاً. فَاخرُجي أيّتها النّفسُ –(المُخلِدةُ) إلى الإرضِ لاتّباعِ هَواكِ- من بين الطّبيعةِ المظلمةِ المدهشةِ الهيولانيّة، وهاجري إلى اللهِ مقامِ الجَمع، وإلى رسولِه مظهرِ أحديّةِ الجَمع، حتّى يُدركَك الموتُ بتأييد الله تعالى، (فيَقعَ) أجرُك عليه، وهذا هو الفوزُ العظيم، والجَنّة الذّاتيّة اللّقائيّة التي لا عينٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَت، ولا خطرَ على قلبِ بشر.واعلمي (يا نفسُ) أنّكِ ظهرتِ من مقامِ جامعيّة الأسماء والبرزخيّة الكُبرى، وأنتِ «غريبٌ» في هذه الدّار، ولا بدّ لكِ من الرّجوعِ إلى الوطن؛ فَأَحْبِبي وطنَكِ، فإنّه من الإيمان، كما أخبرَ به سيّدُ الإنس والجانّ.إيّاكِ ثمّ إيّاكِ -واللهُ تعالى معينُكِ في أُولاكِ وأُخراكِ- أن تَصرفي همَّكِ إلى حصولِ الملاذِّ الحيوانيّة الشَّهَويّة، فإنّ هذا شأن البهائم، أو الغَلَبَةِ على أقرانِكِ وأشباهِك، حتّى في العلوم والمعارف، فإنّ هذا شأنُ السِّباع، أو الرّياساتِ الدّنيويّة الظّاهريّة، وصرفِ الفكرِ والتّدبيرِ إليها، فإنّ هذا مقامُ الشّياطين، بَل ولا تجعلي نُصْبَ عينِك صورةَ النُّسْكِ وقشورَها، ولا اعتدالَ الخُلق وجُودتَها، ولا الفلسفةَ الكلّيّةَ والمفاهيمَ المُبهمة، ولا تنسيقَ كلماتِ أربابِ التّصوّف والعرفان القشريّة وتنظيمَها، وإرعادَ أهلِ الخُرقة وإبراقَها، فإنّ كلَّ ذلك حجابٌ في حجاب، وظلماتٌ بعضُها فوقَ بعض، وصرفُ الهمِّ إليها اخترامٌ[موتٌ]وهَلاك، وذلك خسرانٌ مبين، وحرمانٌ أبديّ، وظلماتٌ لا نهايةَ لها؛ بل يكون همُّكِ التّوجّهُ إلى الله تعالى، وإلى ملكوتِه في كلِّ حركاتِك وسَكَناتِك، وأنظارِك وأفكارِك؛ فإنّكِ «مسافرٌ» إلى الله تعالى، ولا يُمكن لكِ هذا المُسافَرة بقَدَم النَّفْس، بلْ لا بدّ وأن يكون بِقَدَمِ اللهِ ورسولِه؛ فإنّ المهاجرةَ من بيتِ النَّفْسِ لا يُمكن بِقَدَمِها. فكلّما كان قَدَمُكِ قَدَمَ النَّفْس، ما خرجتِ بعدُ من بيتِك، فَلَسْتِ «مسافراً»؛ وقد عرفتِ أنّكِ «غريبٌ مسافِر»
.

وهَذه وصيّتي إلى نَفسي القاسية المُظلمة البَطّالة، وإلى صاحبي الموفَّق ذي الفكر الثّاقب في العلوم الظّاهرة والباطنة، والنَّظَرِ الدّقيقِ في المعارف الإلهيّة، العالمِ الفاضلِ النّقّادِ، والرّوحانيّ، الآقا ميرزا جواد الهَمِدانيّ -بَلَّغَه اللهُ غايةَ الأماني-فإنّي -وَلَعَمر الحبيبِ- مع أنّه (أنّي) لستُ من أهلِ العلم وطُلّابِه، قد ألقيتُ إليه ما عندي من مهمّاتِ أصولِ الفلسفةِ الإلهيّة المُتعالية، وشَطراً ممّا استفدتُ من المشايخ العِظام أدامَ اللهُ ظِلَّهم، وَكُتُبِ أربابِ المعرفةِ وأصحابِ القلوب رضوانُ الله عليهم، وقد بلغَ بحمدِ الله تعالى مرتبةَ العلمِ والعرفان، وسلكَ مسلكَ العقلِ والإيمان، وهو سلَّمه الله لطيفُ السِّرِّ والقريحة، نقيُّ القلب، سليمُ الفِطرة، جَيِّدُ الرَويّة، مُتَرَدٍّ[تردّى وارتدى، بمعنى]
برداءِ العِلمِ والسَّداد، وعلى الله التّوكُّلُ في المبدأ والمعاد.

ولقد أُوصيه -بما وصّانا أساطينُ الحكمة والمشايخُ العِظام من أربابِ المعرفة- أن يَضِنَّ بأسرارِ المعارفِ كلَّ الضَنِّ على غير أهلِه من ذَوي الجُحد والاعتساف، والضّالّين عن طريق الحقّ والإنصاف؛ فإنّ هؤلاء السُّفَهاء قرائحُهم مُظلمة، وعقولُهم مُكدَّرة، ولا يزيدُهم العلمُ والحكمةُ إلّا جهالةً وضلالة، ولا المعارفُ الحقّةُ إلّا خسراناً وَحَيرة، وقد قال تعالى شأنُه: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً﴾ الإسراء:82.وإيّاكَ ثمّ إيّاكَ -أيّها الأخُ الرّوحانيّ، والصَّديقُ العقلانيّ- وهذه الأشباحِ المنكوسة، المُدَّعين للتّمدُّن والتّجدُّد، وهم الحُمُر المُسْتَنْفِرة، والسِّباعُ المفتَرِسَة، والشّياطينُ في صورةِ الإنسان، وهم أضلُّ من الحيوان، وأرذلُ من الشّيطان، وبينَهم -ولَعَمْر الحقيقة- والتّمدّن بونٌ بعيد؛ إنِ استَشرقوا استغربَ التّمدُّن، وإنِ استَغربوا استشرَقَ، فرَّ منهم فرارَك من الأسد، فإنّهم أضرُّ على الإنسانِ من الآكلةِ للأبدان.وأُكرِّرُ التِماسي ووصيّتي أن تذكرَني عندَ ربّك تعالى شأنُه ذِكراً جميلاً. ﴿رَبَّنا آتِنَا فِي الدُّنْيا حَسَنةً وفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النّارِ﴾ البقرة:201، وجَنِّبنا عن مخالطةِ السَّفَلةِ الأشرار، بحقِّ محمّدٍ وآلِه الأطهار صلواتُ الله عليهم.حرّره العبدُ العاصي المُذنب السّيّد روح الله بنُ السّيّد مصطفى الخمينيّ، غفرَ اللهُ تعالى لهما، وجزاهما والإخوان المؤمنين جزاءً حسناً، في صبيحة يوم السّبت، لثلاثٍ بَقينَ من ربيعِ المولود، سنة الأربع والخمسين وثلاثمأة بعد الألف من الهجرة القُدسيّة النّبويّة صلّى الله عليه وآله.

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

منذ يومين

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

  إصدارات عربية

إصدارات عربية

منذ يومين

إصدارات عربية

نفحات