صفَحاتُ الوجه، وفلَتاتُ اللّسان
لا تُضمِر ما كانَ مستقبَحاً
ـــــ ابن ميثم البحرانيّ ـــــ
قال أمير المؤمنين عليٌّ عليه السلام: «ما أَضْمَرَ أحدُكُم شيئاً إلَّا أظهرَهُ اللهُ في فَلَتاتِ لسانِه وصفحاتِ وجهِه». وقفة مع شرحٍ فريدٍ لهذا الحديث المرويّ عن أمير المؤمنين عليه السلام، كما ورد في كتاب (شرح مائة كلمة لأمير المؤمنين عليه السلام)، لابن ميثم البحرانيّ، من علماء القرن الهجريّ السّابع، وله رحمه الله شروحٌ أُخَر لخُطب الأمير صلوات الله عليه، منها: (اختيار مصباح السّالكين) و(شرح نهج البلاغة) في خمسة أجزاء.
الإضمار:كتمانُ السِّرِّ وغيرِه في الضَّمير؛ وهو الذِّهنُ والعقل.
والفَلَتات:جمعُ فَلْتَة، وهي وقوعُ الأمرِ بغتةً من غيرِ اختيارٍ ولا تَرَوٍّ وتدبُّر.
وصَفَحاتُ الوجه:جوانِبُهُ.والمقصودُ هَهنا بيانُ أنَّ الاعتقادات التي يُضمرُها الإنسان، ويحافظُ عليها، ويراعي سترَها عن اطِّلاع الغَيْر عليها، لِمصالحَ مُتَصَوَّرة ومقاصدَ اختياريّة، سواء كانت نافعة أو ضارَّة، فإنَّها وإنْ بولِغَ في مراعاةِ حفظِها، واجتُهِدَ في عدم اطَّلاع الغير عليها، لا بدَّ وأن تظهَر. ثمَّ إنَّه عليه السلام نَبَّه على سببَين من أسباب الظُّهور، وحَكَم بأنَّه لا بُدَّ وأن تظهر بأحدِهما مع تلك المحافظة:
أحدهما:فلَتاتُ اللّسان، وذلك أنَّ النَّفس وإنْ كان لها عنايةٌ بحفظِ ذلك، لكنَّها قد تنصرفُ إلى مهمٍّ آخر، فتنفعلُ حينئذٍ عن ملاحظةِ وجهِ المصلحة في كتمانِه، وسببِ وجوبِ سترِه، فتَنْفَلتُ المتخيّلةُ من أَسْرِ العقلِ العمليّ، فتبوحُ به، وتبعثُ الشَّهوةُ إلى التّكلُّمِ به من غير أن يكونَ للنّفسِ شعورٌ بشعورِها به، وذلك معنى كونه فَلْتة.وقد يصدرُ الكلامُ فلتةً على وجهٍ آخر، وذلك أن يتلفَّظَ المُضمِرُ بكلامٍ يكون مستلزماً للإيماء أو التّنبيهِ على ذلك المعنى المُضمَر، والمتكلِّمُ غافلٌ عن ذلك الإيماء، وغيرُ عالمٍ بكيفيّة التّنبيه من ذلك الكلام على مُضمَرِه، والسّامعُ ذو حدسٍ قويٍّ، فيقعُ له الاطّلاعُ على ذلك المُضمَر مع شدّة الاعتناء بِستره.
الثّاني:صَفَحاتُ الوجه، وذلك إشارةٌ إلى القرائنِ والأماراتِ المستَلزمة لإظهارِ المكتوم، كما يدلُّ تقطيبُ الوجه والعبوسُ والإعراضُ عن الشَّيء من معتادِ البَشاشة على بُغضِ ذلك الشّيء، وانبساطُ الوجه والفرحُ به والإقبالُ عليه على محبّته، وكما تدلّ الصّفرةُ العارضةُ للوجه حالَ نزول الأمر المَخوف على إضمارِ الوَجَل، والحمرةُ العارضةُ عند نزولِ أسبابِها -كمُشافهة مَن يتستَّر من فعلِ القبيح على حال فعلِه ومواجهتِه به- على الخَجَل، وكدلالة عَرَقِ الوجه وغضِّ الطَّرْف على الحياء، وكدلالة الملاحظةِ بالبَصر على وجهٍ مخصوصٍ على العداوة، وعلى كثيرٍ من الأمور النّفسانيّة، وأمثال ذلك من القرائن التي تكاد لا تتناهى، فهذه الأمورُ وأمثالُها وإن اجتُهد في إخفائها، فلا بدَّ وأن تلوح من السّببَين المذكورَين.
وفي هذه الكلمة تنبيهٌ للعاقل على أنَّه لا ينبغي أن يُضمرَ من الأمور إلَّا ما لو اطُّلِع عليه منه لما كان مُستقبَحاً في العُرف، ولمَا نَفَر طبعُهُ من المواجهة به؛ فإنّه إن أضمرَ أمراً يستقبحُه الخَلْق ويُستنكَرُ فيما بينهم لو اطَّلعوا عليه -ولا بدَّ من الاطّلاع عليه للأسباب المذكورة- لم يسلَم من الافتضاح، وكان وقتُه مشغولاً بالقبيح، إمّا -في مدّة إضمارِه وسترِه- بالمحافظةِ عليه واشتغالِ النّفس به عن السّعي في مصالحِها الكلّيّة الذّاتيّة، وإمّا -بعدَ ظهورِه- بمعاناةِ الخلاصِ من عارِه، والتّألُّمِ من المواجهة به، والنَّدَم والتَّأسُّف على إيقاع ما استلزمَ إظهارَ ذلك، والجزعِ الذي لا يُجدي نَفعاً ولا يعودُ بطائل، وكلُّ ذلك مَنهيٌّ عنه، لأنَّه اشتغالُ الإنسان بما لا يَعنيه.(مختصر بتصّرف بسيط)