علاقةُ الأخلاق بالعمل
﴿..رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾
ـــــ المرجع الدِّينيّ الشّيخ ناصر مكارم الشّيرازيّ*
ـــــ
يُلفتُ المرجع الدّينيّ الشّيخ ناصر
مكارم الشّيرازيّ إلى مسألةٍ بالغة الأهميّة هي خلافُ المرتكز في الأذهان غالباً،
من أنّ أعمال الإنسان لا تَعدو كَونها نتاجَ أخلاقه، مبيّناً أنّ للأعمال أيضاً
دوراً أساسيّاً في صياغة الأخلاق، وأنّ بينَهما علاقة تبادليّة؛ فسلوكُ الإنسان
يحكي صفاته الباطنيّة، وفي الوقت نفسه يؤدّي تكرارُ سلوكٍ بعينِه إلى صيرورته
ملكةً أخلاقيّةً راسخة، وعلى ذلك شواهدُ قرآنيّة كثيرة.
لا ريب في أنّ أعمالَ الإنسان تَتبعُ
أخلاقَهُ الظّاهريّة والباطنيّة، بُحيث يمكن القول إنّ الإنسان يَتأثَّر في سلوكه
العمليّ بأخلاقِه الباطنيّة الكامنة في عالَمِ اللَّاشُعور. ولكن من جهةٍ أُخرى، يُمكن
لأعمال الشّخص أن تؤثِّر في أخلاقه، من خلالِ صياغتها لمضمون الصّفات الأخلاقيّة
في واقعه وفي مُحتواه الباطنيّ.
معنى ذلك، أنّ الممارسة المستمرَّة لعملٍ
ما، حَسَناً كان أم قبيحاً، ستؤثِّر في نفسيّة الإنسان، وتُحوِّل ذلك العمل إلى
حالةٍ باطنيّةٍ، ومن ثمَّ إلى مَلَكةٍ أخلاقيّةٍ حسنةٍ أو قبيحة. وبناءً عليه،
فإنّ من الطُّرُق المؤثِّرة في تهذيب النّفْس، هي تهذيبُ الأعمال في حَركةِ الواقع
الخارجيّ؛ فمَن مارَسَ الأعمالَ القبيحة، فسوف تتحوَّل على إثرِ التّكرار إلى مَلَكَةٍ
سيّئةٍ في أعماق رُوحه، وتكون السّببَ في ظهورِ الرّذائل الأخلاقيّة في دائرة
السّلوك والممارسة.
ولأجل ذلك، نلحظُ الحثَّ الشّديد، في
الرّوايات، على المباردة السّريعة إلى الاستغفار عند ارتكاب المعاصي، لِمَحو
أدرانِها وآثارها بماء التّوبة، حذرَ تراكُم هذه الآثار السّلبيّة على القلب، وصولاً
إلى حيث تصير ملكاتٍ أخلاقيّةً رذيلة.
وفي المقابل، نَجِدُ التّرغيب والدّعوة
إلى المداومة على الأعمال الصّالحة، كي تُصبح عادةً عند الإنسان، في واقعه النّفسيّ
والرّوحيّ.
شواهد قرآنيّة
بعد هذه الإشارة، نستعرض عدداً من الآيات القرآنيّة المباركة الّتي تُشير إلى هذا المعنى:
1- ﴿كَلاَّ
بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ المطففّين:14.
في هذه الآية، نَجِد إشارةً إلى التّأثيراتِ
السّلبيّة للذّنوب في قلبِ الإنسان وروحِه، فهي تسلبُه الصّفاء والنّورانيّة، وتستبدلهما
بالظُّلمة والشّقاء.
وفي قوله تعالى: ﴿..مَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ﴾ المطففّين:14، الذي وردَ بِصيغة الفعل المضارع، دلالةٌ على
الاستمرار، بمعنى أنّ المداومة على القبائح يُنتجُ الرَّينَ -وهو الصَّدَأَ- الذي
يُغلِّف مرآة القلب ويكدِّرُها، سالباً إيّاها النّور والشّفافيّة والصّفاء.
2-
﴿..كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ يونس:12.
تُشير هذه الآية إلى ما يتعدَّى مرحلة
الرَّين، وتتحدَّث عن مرحلة «التّزيين». وبناءً عليه، فالتّكرار لعملٍ مّا، يبعثُ
على تزيينه في عينِ الإنسانِ ونَظَرِه، فتَألَفُه نفسُه، حتّى أنّه يَعدّه من
المواهب والافتخارات الّتي يمتازُ بها عن الآخَرين.
وقوله تعالى: ﴿..مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾،
وكذلك قولُه: ﴿لِلمُسْرِفِينَ﴾ دليلٌ واضحٌ على تكرارِ الذّنوب من قِبَلِهم، بل
والإسراف والمبالغة في ذلك، فالتّكرار لها لا يمحو قُبحَها فقط، بل وبالتّدريج ستتحوَّل الخطيئةُ إلى فضيلةٍ في نَظَرهم،
وهذا يعني -في الحقيقة- المَسْخَ لشخصيّة الإنسان، وهو من النّتائج المشؤومة لِتكرار
الذّنوب.
وإلى هذا المعنى أيضاً تشير الآيتان
الكريمتان: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً..﴾ فاطر:8، و﴿وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ
لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ..﴾ النمل:24.
3- ﴿قُلْ
هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾ الكهف:103-104.
تعدّدت أقوال المفسّرين في مصداق هذه الآية،
فقيل إنّ «الأخسرين أعمالاً» هم المُنكرون لولاية أمير المؤمنين عليه السلام، وقيل إنّهم رُهبان النّصارى، زعموا
أنّ الصّواب في تحريم ما أحلّ الله تعالى، وقيل إنّهم أهلُ البِدع من هذه الأمّة
ومن الأمم السّابقة، أو أنّهم خوارجُ النّهروان. والحقّ أنّ كُلّاً من هؤلاء يجوز
أن يكون مصداق الآية، فهم يجمعُهم العُجب واتّباعُ هوى النّفس وتجنُّبُ التّعبُّد
بما أمر به المولى. لقد أدمنَ هؤلاء ارتكاب المعاصي، وتجاوزوا مرحلة الإعجاب بها،
فصاروا يعتقدون بأنّها الصّوابُ الذي لا صواب بعدَه.
وفي الآية التي تليها، يبيّن اللهُ تعالى جزاء
هذه الفئة الموصوفة بـ «الأخسرين أعمالا»: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ
رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ..﴾ الكهف:105. ومن المعاني اللّغويّة المعروفة لـ
«الحَبَط» هو أنّ تأكل البعيرُ حتّى تنتفخ بطونُها، فلا تمتنع عن الأكل حتّى تموت،
ويحسبُه الجهّال دليلاً على قوّتها، ولكنّه في الواقع مقدّمة لهلاكها، وإنْ كانت
تستمتعُ به.
4- ﴿إِنَّمَا
التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَة ثُمَّ
يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيب فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ
عَلِيماً حَكِيماً﴾ النساء:17.
تتناول هذه الآية مسألة قبول التّوبة
من قِبَل الله تعالى، لِمَن تتوفَّر فيهم بعض الشّرائط:
أ-
الّذين يعملون السّوء بجهالةٍ ولا يعرفون عواقب الذّنوب على نحوِ الحقيقة.
ب-
الّذين يُسارعون إلى التّوبة من أعمالهم القبيحة، ولا يُسوّفونها، فهؤلاء هم الّذين تشملهم الرّحمة الإلهيّة، ويقبلُ اللهُ
تعالى توبتَهم.
والمُراد من كلمة «الجهالة»، الّتي وَرَدت
في الآية ليس هو الجهلُ المُطلَق الّذي يوجبُ العُذرَ، لأنّ العمل في حالاتِ الجهلِ
المُطلَق لا يُعَدُّ من الذَّنب، بل هو الجهلُ النّسبيّ الّذي لا يُعلَم معه عواقب
الذّنوب وتبعاتُها في حركةِ الواقع والحياة.
وأمّا جملة: ﴿..يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيب..﴾،
فقال البعضُ إنّها قبل الموت، ولكن إطلاق كلمة «قريب» على فترة ما قبل الموت، الّتي
ربّما تستغرق خمسين سنة وأكثر، لا تؤيّد هذا التّفسير.
وقال البعضُ الآخَر، إنّها الزّمان المقارب
لارتكاب الذّنب، حتّى تمسحَ التّوبةُ الآثارَ السّيّئة للذّنب في رُوح الإنسان
ونفسِه، وفي غير هذه الصّورة، فستَبقى الآثارُ في القلب، وهذا التّفسير هو ما
يناسب كلمة «القريب» عُرفاً ولغةً.
5-
﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا..﴾ التوبة:103.
هذه الآية تناوَلَت «قضيّة الزّكاة» ومترتّباتها
الأخلاقيّة والمعنويّة في خطّ التّربية وتهذيب النّفس، ولأجل ذلك ورد الأمرُ من
الله تعالى إلى مولانا رسول الله صلّى الله عليه وآله باستيفائها من النّاس. وليُلاحَظ هنا،
أنّ إخراج الزّكاة يحدّ من الرّكون إلى الدّنيا وزخارفها، ويَقمع البُخلَ في واقعِ
النّفس البشريّة، ويحثّ الإنسان على مراعاة حقوق الآخرين، ويغرس فيه حبّ السّخاء
والإنسانيّة.
وعلاوةً على ذلك، فإنَّ دفعَ الزّكاة
يقفُ بوجه المفاسد النّاشئة عن الفقر والحرمان، وبأداء تلك الفريضة الإلهيّة، نكون
قد شاركنا في إزالتها نهائيّاً من واقع المجتمع، لذلك فإنّ الزّكاة تُسهمُ في رفع
الرّذيلة والفقر في حركة الإنسان والحياة، وتُحلّي الإنسان بالفضائل الأخلاقيّة. وقد
علمتَ أنّ موضوع بحثنا هو دور العمل الصّالح والطّالح في تحريك عناصر الخير
والشّر، والفضائل والرّذائل الأخلاقيّة، في واقع الإنسان والمجتمع.
وقد جاء نظيرُ هذا التّعيبر -في آيةِ
الحجاب، يقول تعالى: ﴿..وَإِذَا سَألُتمُوُهُنَّ مَتاعاً فَاسأَلُوهُنَّ مِنْ
وَرَاءِ حِجابِ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لَقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ..﴾ الأحزاب:53. فهذه الآية الشّريفة، تُبيِّن بوضوحٍ
أنّ التّعفُّف في العمل يَبعثُ على طهارةِ القلب ونظافتِه، وبالعكس فإنّ الجرأة
على ارتكاب المُنكر وعدم الحياء يلوِّث روحَ الإنسان وقلبَه، ويُعمِّقُ في نفسِه
المَيلَ إلى الرَّذائل الأخلاقيّة.
* مقتطف بتصرّف من كتابه (مقدّمات في الأخلاق)