وصية
الإمام الصّادق عليه السّلام لعبد الله بن جُنْدَب -1
آهٍ آهٍ على قلوبٍ حُشِيَت نوراً..
الدُّنيا عندهم بمنزلة الشّجاع الأرْقَم
--------
إعداد: أسرة التّحرير----------
·
من
وصايا الإمام الصّادق عليه السّلام وصيّته المبسوطة لأحد أبرز أصحابه، وهو عبد
الله بن جُنْدَب
-بضمّ الكاف، وسكون النّون، وفتح الدّال-
البَجَليّ الكوفيّ، ثقةٌ جليلُ القدرِ من أصحاب الصّادق والكاظم والرّضا عليهم
السّلام، وإنّه من المُخبتين، وكان وكيلاً لأبي
إبراهيم (الكاظم) وأبي الحسن (الرّضا) عليهما
السّلام. كان عابداً رفيع المنزلة لديهما على ما
ورد في الأخبار. ولمّا مات رحمه الله، قام مقامه
عليّ بن مهزيار.
·
تُقدِّم
«شعائر» هذه الوصيّة في حلقتَين متتاليتَين، مع إضافة العناوين الفرعيّة، وتعليقاتٍ
موجزة بين مزدوجات.
مدخل
روي أنَّه عليه السَّلام قال: يا عبد الله، لقد نَصبَ
إبليسُ حبائله في دار الغرور، فما يَقصدُ فيها إلَّا أولياءنا، ولقد حَلَت الآخرةُ
في أعيُنِهم حتّى ما يريدون بها بَدَلاً. ثمَّ قال: آهٍ آهٍ على قلوب حُشِيَت نوراً،
وإنَّما كانت الدُّنيا عندهم بمنزلة الشّجاع الأرقم [الحيّة العظيمة الّتي تواثب الفارس وربّما قلعت رأسه، والأرقم: الحيّة الّتي
فيها سواد وبياض] والعدوّ الأعجم،
أَنِسُوا بالله واستوحشوا ممّا به استَأنَس المُترَفون، أولئك أوليائي حقّاً وبهم تُكشَفُ
كلّ فتنةٍ، وتُرفَع كلّ بليّةٍ.
محاسبة النّفس
يا ابن جُندَب، حقٌّ على كلِّ مسلمٍ يعرفنا أنْ يعرضَ
عملَه في كلِّ يومٍ وليلةٍ على نفسه فيكون محاسبَ نفسه، فإنْ رأى حسنةً اسْتَزاد
منها، وإنْ رأى سيِّئةً استَغفَرَ منها، لئلّا يَخزى يوم القيامة.
منطلقات المحاسبة، والأُسُس
طوبى لعبدٍ لم يُغبِطِ الخاطئين على ما أوتوا من نعيم
الدُّنيا وزهرتها، طوبى لعبدٍ طلَبَ الآخرةَ وسَعى لها، طوبى لِمَن لمْ تُلْهِهِ
الأماني الكاذبة. ثمّ قال عليه السَّلام:
رَحِمَ اللهُ قوماً كانوا سراجاً ومناراً، كانوا دعاةً
إلينا بأعمالهم ومجهودِ طاقتِهم، ليس كَمَن يُذيع أسرارنا.
من هم المؤمنون؟
يا ابن جُندَب، إنَّما المؤمنون الّذين يخافون اللهَ
ويشفِقون أنْ يُسلَبُوا ما أُعطُوا من الهُدى، فإذا ذَكَروا اللهَ ونعماءه وَجلوا
وأَشفقوا. وإذا تُلِيَت عليهم آياتِه زادتهُم إيماناً ممّا أَظْهَرَهُ من نفاذِ
قدرته. وعلى ربِّهم يتوكَّلون.
ومن هم غير المؤمنين؟
يا ابنَ جُندَب، قديماً عَمرَ الجهلُ وقَوِيَ أساسُه،
وذلك لاتِّخاذهم دِين اللهِ لَعِباً، حتّى لقد كان المتقرِّب منهم إلى الله (بعمله) بعلمه يُريد سِواه، أولئك هم الظّالمون.
الاستقامة
يا ابن جُندَب، لو أنَّ شيعتنا استقاموا لصافَحَتْهُم
الملائكةُ، ولأظلَّهم الغمامُ، ولأشرقوا نهاراً، ولأكلوا مِن فوقهم ومِن تحت أرجُلِهم،
ولَمَا سألوا اللهَ شيئاً إلَّا أعطاهُم.
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ
عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا
بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾ فصّلت:30-32.
سلامة العقيدة أهمّ
يا ابن جُندَب، لا تَقُل في المذنبين من أهل دعوتكم إلّا
خيراً. واستَكينوا إلى الله في توفيقهم وسَلُوا التّوبة لهم. فكلُّ مَن قَصَدَنا
ووالانا، ولم يُوالِ عدوَّنا، وقالَ ما يَعلم وسَكَتَ عمّا لا يعلم، أو أشكل عليه،
فهو في الجنّة.
بين الخوف والرجاء
يا ابن جُندَب يهلك المُتَّكِل على عمله. ولا يَنجو المُجترئ
على الذُّنوب الواثق برحمة الله. قلت: فمَن يَنجو؟ قال: الّذين هم بين الرَّجاء والخوف، كأنَّ قلوبهم في
مَخْلَبِ طائرٍ شوقاً إلى الثّواب وخوفاً من العذاب.
خدمة المؤمنين
يا ابن جُنْدَب، مَن سرَّه أن يزوِّجَه اللهُ الحور
العين، ويُتَوِّجَه بالنّور، فليُدْخِل على أخيه المؤمن السُّرور.".."
خدمة الفقراء كالجهاد والشَّهادة
يا ابن جُندَب، الماشي في حاجةِ أخيه كالسَّاعي بين الصَّفا
والمروة، وقاضي حاجته كَالمتشحِّط بِدمه في سبيل الله يوم بدرٍ وأُحُد. وما عذَّب
اللهُ أمّةً إلَّا عند استهانتهم بحقوق فقراء إخوانهم.
قلّة النّوم والكلام
يا ابن جُندَب، أَقِلّ النّوم باللّيل، والكلام بالنّهار.
فما في الجسد شيءٌ أقلّ شكراً من العين واللّسان، فإنّ أمّ سليمان قالت لسليمان عليه السّلام: يا بنيّ، إيَّاك والنَّوم، فإنَّه يُفقرك يوم يحتاجُ
النّاسُ إلى أعمالهم.
معرفة الإمام
·
يا ابن جُندَب، أحبِب في الله، واستمسِك بالعُروةِ
الوثقى، واعتَصِم بالهُدى يُقبَلْ عملكَ، فإنَّ اللهَ يقول: ﴿..لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾
طه:82، فلا يقبل إلَّا الإيمان، ولا إيمان إلَّا بعملٍ، ولا عمل
إلَّا بيقين، ولا يقين إلَّا بالخُشوع، وملاكُها كلُّها الهُدى، فمَنِ اهتَدى يُقبَلُ
عملهُ وصَعدَ إلى الملكوت مُتَقَبَّلاً ﴿..وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
البقرة:213.
فلتَهُن عليك الدُّنيا، واجْعَلِ الموتَ نصْبَ عيْنِكَ
·
يا ابن جُندَب، إنْ أحبَبْتَ أنْ تُجاوِرَ الجليلَ في
دارِه، وتَسْكُنَ الفرْدَوْسَ في جوارِه، فلتَهُنْ عليكَ الدُّنيا، واجْعَلِ الموتَ
نصبَ عَينكَ. ولا تَدَّخِرْ شيئاً لغدٍ. واعلَم أنَّ لك ما قدَّمْتَ وعليكَ ما أخَّرْتَ.
مَن حَرَم نفسه كَسْبَه
·
يا ابن جُندَب، من حَرم نفسَه كَسبه فإنَّما يجمعُ لِغيرِه.
ومَن أطاعَ هَواه فقد أطاعَ عدوَّه. مَن يَثِق باللهِ يَكْفِهِ ما أهمَّهُ مِن أمرِ
دُنياه وآخرِتِه، ويَحفظ له ما غابَ عنه.
عَجزَ مَن لمْ يُعدّ لكلِّ بلاءٍ صبراً، ولكلِّ نعمةٍ شكراً
·
وقد عَجزَ مَن لمْ يُعدّ لكلِّ بلاءٍ صبراً ولكلِّ نعمةٍ
شكراً، ولكلِّ عُسرٍ يسراً. صَبِّر نفسَك عند كلِّ بليَّةٍ في ولدٍ أو مالٍ أو رَزِيّةٍ، فإنّما يَقبضُ عاريتَهُ ويأخذُ هِبَتَهُ لِيَبْلُوَ
فيهما صبرَكَ وشُكرَكَ. وارْجُ اللهَ رجاءً لا يُجريكَ على معصيَتِهِ، وخُفْهُ
خوفاً لا يؤيِسكَ من رحمتِه.
إيّاك والتَّكبُّر
·
ولا تغترَّ بقولِ الجاهلِ ولا بِمدحِه فتَكبر وتجبر وتُعجَب
بِعملِك، فإنَّ أفضلَ العمل العبادة والتّواضع. فلا تُضَيِّعْ مالَك وتُصلح مال غيرك ما خلفته وراء ظهرك. واقنَع بما قسَمَهُ
اللهُ لك. ولا تنظُر إلَّا إلى ما عَندَك. ولا تَتَمَنَّ ما لستَ تَنالُه. فإنَّ مَن
قَنعَ شَبِعَ، ومَن لم يَقنعْ لم يَشبَعْ. وخُذْ حَظَّكَ من آخرتِكَ. ولا تَكُن بَطِراً
في الغِنى، ولا جَزِعاً في الفقر. ولا تَكُنْ فظّاً غليظاً يَكرهُ النَّاسُ قُربَكَ،
ولا تَكُنْ واهِناً يُحقِّرُك مَن عَرَفَك. ولا تشارِّ مَن فوقَكَ ولا تَسخَر بِمَن
هو دُونَك. ولا تُنازِع الأمرَ أهله.
لا تشارّ:
لا تُخاصِم ".." ولا
تفعل به شرّاً ".." ويروى
بالتّخفيف.
[لسان العرب، مادة شرر].