أوقاتُ الصَّلاة
ميقاتُ المُناجاة، وميعادُ المُلاقاة
-----الإمام
الخمينيّ قدّس سرّه-----
في هذا النّصّ المستعاد للإمام الرّاحل روح الله
الموسويّ الخمينيّ قدّس
سرّه، سوف يجد القارئ العزيز نفسَه في
أجواء الأبعاد الرّوحيّة والمعنويّة للصّلاة، فضلاً عن أبعادها العباديّة. ونظراً إلى
أهمّيّة النّصّ في البناء النّفسيّ والتّربويّ والرّوحانيّ من خلال الالتزام
الدّقيق بأوقات الصّلاة، تعيد «شعائر» نشره وتقديمه لقرّائها الأعزّاء.
اِعلم أنَّ لِأهل المعرفة وأصحاب
القلوب، على قدر قوّة معرفتهم للمقام المقدَّس الرُّبوبيّ، واشتياقهم إلى مناجاة
حضرة الباري عزَّ اسمُه، مراقبةً ومواظبةً لأوقات الصَّلاة الّتي هي ميقاتُ
المناجاةِ وميعادُ الملاقاة مع الحقّ، ولا يزالون يراقبون ذلك.
فالمجذوبون لجمال الجميل، والعاشقون
للحُسن الأزليّ، والمشغوفون به والسُّكارى من كأس المحبّة، والمصعوقون من قدح أَلَسْتُ
[المقصود
آية: ألستُ بربّكم]،
الّذين فرغوا عن الكونَين وأعرَضوا عن جميع أقاليم الوجود، وتعلَّقوا بعزِّ قُدسِ
جمال الله، لهم دوام الحضور وليسوا مهجورين عن الذِّكر والفِكر والمشاهدة والمراقبة
لحظةً واحدة.
أصحاب المعارف، وأرباب الفضائل
والّذين هم أصحاب المعارف وأرباب
الفضائل والفواضل، وهم شرفاء النّفس وكرماء الطِّينة، فلا يختارون على المناجاة مع
الحقِّ شيئاً، ويطلبون من الخلوة مع الحقّ ومن مناجاته نفسَ الحقّ، ويَرْون أنّ
العزّة والشّرف والفضيلة والمعرفة كلّها في تذكُّر الحقّ ومناجاته؛ فهم إذا توجَّهوا
إلى العالَم ونظروا إلى الكونَين، يكون توجُّههم ونظرُهم إليها توجُّه العارفين
لها ونظرهم، ويتطلَّبون الحقّ في العالم ويطلبونه ويرون جميع الموجودات جلوةً للحقّ
ولجمال الجميل.
فهم يواظبون على أوقات الصّلاة بتمام
أرواحهم وقلوبهم، وينتظرون وقتَ المناجاة مع الحقّ، ويحضِّرون أنفسهم ويهيِّئونها
لميقات الحقّ؛ فقلوبُهم حاضرة ويطلبون من المحضر الحاضر، ويحترمون المحضر لأجل
الحاضر. ويرون أنَّ العبوديّة هي المراودة والمعاشرة مع الكامل المطلَق؛ فاشتياقهم
إلى العبادة من هذا الباب. والّذين يؤمنون بالغيب وعالم الآخرة ويعشقون كرامات
الحقّ جلَّ جلاله، ولا يستبدلون النّعم الأبديّة الجنانيّة، واللّذات والبهجات الدّائمة
السّرمديّة، بالحظوظ الدّاثرة الدّنيويّة واللّذائذ النّاقصة المؤقّتة المشوبة.
فهؤلاء أيضاً في وقت العبادة، التي هي بذور النِّعم الأخرويّة، يُحضِرون قلوبهم
ويقومون بالأمر بإقبالٍ واشتياقٍ، وينتظرون أوقات الصّلاة؛ فإنَّها وقت حصول النّتائج
واكتساب الذّخائر. ولا يختارون على النّعم الدّائمة شيئاً فهؤلاء أيضاً، حيث أنّ
قلوبهم خبيرة بعالم الغيب وقد آمنت قلوبهم بالنّعم الأبديّة واللّذائذ الدّائمة
لعالم الآخرة، يغتنمون أوقاتهم ولا يضيّعونها، أولئك أصحاب الجنّة وأرباب النّعمة
هم فيها خالدون.
هذه الطّوائف الّتي ذُكِرَت،
وبعضها الّتي لم يُذْكَر، لهم من العبادة أيضاً لذائذ على حَسَبِ مراتبهم ومعارفهم
وليس لهم كلفة وتكليف فيها أصلاً.
...وأمّا نحن المساكين
وأمّا نحن المساكين المبتلين بالآمال
والأماني، والمقيَّدين بسلاسل الهوى والهوَس، والمنغمرين في البحر المسجور الظُّلمانيّ
للطّبيعة، الّذين ما وصَلَت إلى شامّة أرواحنا رائحةٌ من المحبّة والعشق، وما ذاقت
ذائقةُ قلوبنا لذَّةً من العرفان والفضيلة، فلسنا لا من أصحاب العرفان والعيان،
ولا من أرباب الإيمان والاطمئنان، نرى العبادات الإلهيّة تكليفاً وكلفة والمناجاة
مع قاضي الحاجات تحميلاً وتكلّفاً لا نركن إلى شيء غير الدُّنيا الّتي هي معلف
للحيوانات، ولا نتعلَّق بسوى دار الطّبيعة الّتي هي مُعتكفٌ للظّالمين قد عميت
أبصار قلوبنا عن جمال الجميل وهجرت ذائقة أرواحنا ذوقَ العرفان.
نعم إنَّ رئيس سلسلة أهل الحقّ وخلاصة
أصحاب المحبّة والحقيقة يترنَّم بقوله: أَبيتُ عند ربِّي يطعمني ويسقيني؛ فيا ربِّ
ما هذه البيتوتة الّتي كانت لمحمَّد صلّى الله عليه وآله معك في دار الخلوة والأنس؟
وما هذا الطّعام والشّراب الّذي أذَقْتَه بيدك هذا الموجود الشّريف وأخلصتَهُ من
جميع العوالم، ففي شأن ذلك السّيّد العظيم أن يقول: «لي مع الله وقتٌ لا يَسَعه
ملكٌ مقرّبٌ ولا نبيٌّ مُرسَل»، فهل هذا الوقت من أوقات عالم الدّنيا والآخرة،
أو أنَّه وقتُ الخلوة في قاب قوسَين وطرح الكَونَين؟!
إنَّ موسى عليه السّلام صام صوماً
موسويّاً أربعين يوماً ونال إلى ميقات الحقّ، وقال تعالى: ﴿..فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ
لَيْلَةً..﴾
الأعراف:142، ومع ذلك أين هذا الميقات من الميقات
المحمَّديّ، ولا نسبة بينه وبين الوقت الأحمديّ.
إنَّ موسى في الميعاد خوطب بخطابِ ﴿..فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ..﴾ طه:12، وقد فُسِّر بمحبّة الأهل، والرّسول
الخاتم قد أُمِرَ في ميعاده بأنْ يحبَّ عليّاً، وفي القلب من هذا السّرّ جذوةٌ..".