بين المعرفة
وثقافة الغزو
كيف نواجه الاستشراق الجديد؟
_____د.
وفاء مرزوق*______
لم
يتغيّر الاستشراق الجديد عن نظيره القديم سوى بالأساليب وترتيب المصالح الجديدة
والأولويّات. كما أنَّ الولايات المتّحدة، ومنذ بروزها كقوّةٍ عالميّةٍ بُعيد
الحرب العالميّة الثّانية، سَعَت إلى استلام دفّة الدّراسات الاستشراقيّة ومنافسة
أوروبّا في هذا المجال؛ بَيْدَ أنّها ما لبثت أن أخضعت هذه الدّراسات لسياساتها
الاستراتيجيّة، بل سَعَت إلى أكثر من ذلك من خلال إعادة تفكيك صورة الإسلام وإعادة
تركيبها ببراغماتيّة تتّفق ومصالِحها وقِيَمها الرّأسماليّة وتوسُّعها في العالم،
وبخاصّة في الشرق الأوسط من الهند إلى الأطلسيّ.
والواضح
أنَّ أزمة الاستشراق الّتي تحدَّث عنها أنور عبد الملك وإدوارد سعيد، تمثِّل
وجهة نظرٍ عربيّة تنشد حوار الحضارات وردم الهوّة بين الشّرق والغرب، من خلال
تغيير المناهج والمضامين والأهداف الّتي اعتمَدَها الاستشراق الكلاسيكيّ لِفهمِ
الشّرق واستيعابِه، وبالتّالي نقل ما يمكن نقله، ودراسة ما يمكن دراسته. أمّا
الأزمة الّتي رآها الغربُ، فكانت تَكمُن في تطوير الأساليب وتوسيع الأهداف،
بما يخدم مصالحه الرّأسماليّة البراغماتيّة، فهو لا ينظر للشّرق كأساسٍ وإنّما
كهدفٍ، فهل وقع الاستشراق في أزمتَين؟
الاستشراق
الجديد والسّياسة الأميركيّة
بعد
الحرب العالميّة الثّانية، حاولت الولايات المتّحدة الأميركيّة الاستيلاء
على معظم المخطوطات العربيّة وضمّها إلى مكتباتها، وإنشاء عديد من الكراسي
المختصّة بالدّراسات الشّرقيّة على غرار أوروبّا، كما عَمدَت إلى دعم الحملات
التّبشيريّة للإحاطة بكلّ تراث الشَّرق وعلومه، إلى جانب نشر الدّيانة المسيحيّة؛
وقد أنفقت أموالاً ضخمة في دعم مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام من أجل مشروعها للدّراسات
الشّرق أوسطيّة، حيث أظهرت منذ البداية اهتماماً بمنطقة الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا، عبّرت
عنه سياستها اللّاحقة تجاه هذه المناطق الّتي تمثِّل العالم العربيّ والإسلاميّ،
وهي سياسة لا تختلف كثيراً عن السّياسة الأوروبّيّة، عدا عن جهة ترتيب المصالح
والأولويّات.
لقد
كان لأحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 أثرٌ بالغٌ على السّياسة الأميركيّة
تجاه العرب والمسلمين. فكلُّ أصابع الاتّهام حينها كانت موجهة ضد «الإسلاميّين
المتشدِّدين»، وعبارة متشدِّدين تأتي هنا كَصِفةٍ وليس استثناء، فالمقصود هو
العالم الإسلاميّ بِرُمَّتِه وعدائيّته لأميركا. لماذا افترَض المستشرقون الأميركيّون
هذه العدائيّة إذا لم يكونوا يضمرون عدائيّةً كبيرة للإسلام كَدِينٍ، وللفكر
الإسلاميّ كَتَوجُّهٍ وخيارٍ؟ لماذا جوبِهَ الإسلامُ بشراسةٍ وتمَّ وَصلُه
بالأطروحات الاستشراقيّة القديمة؟ ولماذا كان يُنْظَر دائماً للعربيّ أو المسلم
على أنَّه حاملٌ لِجِينات الإرهاب؟ وحتّى الّذين نبّهوا إلى أنَّ الإرهاب ليس من
صميم الإسلام، راحوا يبحثون عن عوامل بروز هذه الظّاهرة في العالم العربيّ
والإسلاميّ، وينظرون إليها وكأنَّ المسألة لا تخرج عن نطاق هذا الشّرق المُسلِم
المغلوب على أمره.
سَعَت أميركا منذ
بروزها كقوّةٍ عالميّةٍ بُعيد الحرب العالميّة الثّانية إلى استلام دفّة الدّراسات
الاستشراقّية ومنافسة أوروبا في هذا المجال، بيد أنَّها ما لبثت أنْ أَخضعت
هذه الدّراسات لسياستِها، بل سَعَت إلى أكثر من ذلك من خلال إعادة تفكيك الإسلام
وتركيبه بطريقةٍ براغماتيّةٍ تتّفق ومصالحها وقِيَمِها الرّأسماليّة؛ فليس على
سبيل المصادفة أن هوجمت دراسات الشّرق الأوسط في عقرِ دارها، حين انتقد
المستشرق الأميركيّ مارتن كريمر ذلك في كتابه (بروج عاجيّة على الرّمال:
فشل الدّراسات الشّرق أوسطيّة في أميركا)، وإنّما قصد كريمر بناءَ
دراساتٍ مشروطةٍ بخدمتها للسّياسة
الأميركيّة في الشّرق الأوسط، وكذلك فعل دانييل بايبس عبر موقعه
الإلكترونيّ «مرصد الجامعات».
بهذا
المنطق سيبقى العالم العربيّ والإسلاميّ مفعولاً به ومفعولاً فيه، ما لم يُغيِّر
من نهجه كَمُتَلَقٍّ لِيُصبح صاحب الكلمة، وبغير العلوم والفكر الرّاشد والسّياسة
الحكيمة الّتي تعكس ديمقراطيّة مجتمعاته وحضارتها، لن يتسنّى له أن يكون فاعلاً
دوليّاً له موقعه على الخارطة السّياسيّة.
_______________________
*
أستاذة في كلّية الحقوق، جامعة قسنطينة-الجزائر