خاتميّةُ النّبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله
عالميّة الإسلام وخلودُه
------ د. عبد الله نصري* ------
إنَّ الدِّينَ الخاتم لا بدَّ من أن يكون خالداً، فالدِّينُ
العالميُّ والخالد ينبغي أن يستوفيَ خصائص معيَّنة، منها تلبية جميع متطلِّبات
الإنسان في مختلف عصوره.
ولكي ندخل إلى البحث في خلود الدِّين علينا أن نتعرَّف
إلى أسبابه أوَّلاً، تلك الأسباب الّتي تجعل هذا الدِّين عامّاً لأفراد الجنس
البشريّ كافّة، وليس خاصّاً بقومٍ أو شعبٍ معيَّنَين. إنَّ القولَ بخلود الدِّين
يعني أنَّ الإسلامَ لم يأتِ للعربِ وحدهم أو لأولئك الّذين عاصروا نزول القرآن. ثمَّ
إنَّ عالميّةَ الإسلام وخلوده دليلان أيضاً على خاتميّة نبيِّه، إذ لو بُعِث دينٌ
مِن بعدِه لم يبقَ ديناً خاتماً، وانتهت صلاحيّة الالتزام بفرائضه والعمل
بتعالميه.
في هذه المقالة إضاءةٌ على مفهوم الخاتميّة والخلود
للباحث والمفكِّر الإسلاميّ الإيرانيّ الدّكتور عبد الله نصري.
لأجل إثباتِ عالميّة الإسلام وخلودِه علينا أنْ نعتمد،
في استدلالِنا، على الكتاب الكريم، حيث نستطيع تصنيف الآيات المرتبطة بهذا البحث
إلى عدّة طوائف على النّحو
التالي:
1 – ما يُصرِّح منها بِكَون
الإسلام جاء لهداية النّاس جميعاً. وهذه الآيات تؤكِّد أنَّ القرآنَ والنّبيَّ قد
بُعِثا للعالمِين: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾ التّكوير:27. ﴿تَبَارَكَ
الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ الفرقان:1.
2- آياتٌ تعمِّمُ
الخطابَ للنّاس جميعاً، ولا تَخصُّه بقومٍ معيَّنين أو نفرٍ محدَّد. ولو كان
القرآنُ نازلاً لِقومٍ معيَّنين، لَلَزمَ أنْ يوجِّهَ الخطابَ إليهم وحدهم، ولا
يوسِّع دائرته بالشّمول الّذي يستعمله. ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ
إِلَيْكُمْ جَمِيعًا..﴾ الأعراف:158. ﴿قُلْ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ..﴾ يونس:108.
3- آياتٌ تتحدَّث عن
عموميّة رسالةِ النّبيِّ وشمولِها، ويؤكِّد القرآنُ في بعض آياته أنَّه إنذارٌ لكلِّ
مَن بَلَغَه. ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ
بَشِيرًا وَنَذِيرًا..﴾ سبأ:28. ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ الأنبياء:107. ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ
شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ
بِهِ وَمَنْ بَلَغَ..﴾ الأنعام:19.
4- الآيات الّتي تتحدّث
عن ظهورِ الإسلام على سائرِ الأديان. أي أنَّ الإسلام سيكونُ الغالب لها والمُهيمن
عليها جميعاً. ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى
وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ التّوبة:33، الفتح:28، الصّف:9. ﴿وَأَنزَلْنَا
إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ..﴾ المائدة:48.
وعلاوة على هذا الكمّ
من آياتِ الكتابِ العزيز الدالّة على عالميّة الإسلام، هناك الشّموليّة الّتي تميَّزت
بها أحكام الشّريعة الإسلاميّة، إذ لو كانت أحكامُ الشّريعة خاصّة بقومٍ وشعبٍ
معيَّنين لَمَا وجّه الخطاب فيها للجميع، ولَوَرَد التَّنويهُ باختصاصها بقومٍ أو
فئةٍ محدودةٍ، ولم يحدث ذلك أبداً، ففي الحالات المختصَّة بفئةٍ معيّنةٍ كان الحكمُ
فيها يقيَّدُ بذكرِهم، كَحُكمِ الجِزْية المقرَّر على أهل الكتاب.
وقد حاول بعضُهم التّشكيكَ
في عموميّة الرّسالة بالاستناد إلى جملةٍ من الأدلَّة، أهمُّها:
1- ورود الإشارة، في
بعض الآيات، إلى اختصاص دعوة النّبيّ بِذَوي قُرباه وقومه: ﴿وَهَذَا
كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ
أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا..﴾ الأنعام:92. ﴿وَأَنذِرْ
عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾ الشّعراء:214.
وللجواب على هذا الإشكال، ينبغي القول: إنّ هذه
الآيات نزلت في أوَّل دعوةِ النّبيّ، حيث كان من الطّبيعيّ أنْ يبدأَ النّبيُّ
دعوتَه بِذَوِي قُرباه وقومِه، ثمّ يوسِّعها مع مرور الوقت لِتَشملَ النّاسَ كافّة.
والتّاريخُ شاهدٌ على أنَّ النّبيَّ بقيَ مدّةً من الزّمن مُقتصراً في دعوتِه على
ذَوي قُرباه ومُقَرَّبيه، لكنّه صلّى الله عليه وآله، ما إنْ واتَتْهُ الظُّروف حتّى
شَرعَ بتعميمِها وتوسيعِ دائرتِها.
2- تأكيدُ بعض الآيات
أنّ النّبيَّ مأمورٌ بتوجيه الخطاب لِنَمَطٍ محدودٍ من النّاس، وهم أولئك الّذين
يعيشون الغفلة أو العناد، أو الّذين لم يُبعَث فيهم نبيّ. ﴿لِتُنذِرَ
قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ﴾
يس:6. ﴿..بَلْ
هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم من نَّذِيرٍ من
قَبْلِكَ..﴾ السّجدة:3.
لكنَّ الآيات المتقدِّمة
لم تَقصد تَضييق نطاق دعوة النّبيّ، لأنَّ نزولَ بعض الآيات في شأن ظروف ومواقف
وأحداث خاصّة، ومخاطبتها لنمطٍ معنيٍّ بذلك الظّرف أو الموقف أو الحدث، لا يعني
اقتصارُ الهدايةِ على هذا النَّمط أو الشّريحة من النّاس، وهذا هو شأنُ آياتِ
الإنذار لا شكّ.
3- تأكيدُ عددٍ من
الآيات ثلاثةَ مقاييسٍ لِسعادةِ الإنسان: الإيمان بالله، والإيمان بالآخرة، والعمل
الصّالح، من دون التّطرُّق إلى ضرورة التزام الإسلام بوصفه ديناً خاتماً وعالميّاً،
فللنّاس أن يختاروا ما شاؤوا من الأديان، شريطة أن يعملوا الصّالحات ويؤمنوا بالله
واليوم الآخِر. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ
وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ
صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ المائدة:69. ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا
وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ
يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ الحجّ:17.
غير أنَّ هذه الآيات
وأمثالها نزلت في مقام الرّدّ على مواقف اليهود والنّصارى وسواها من الدّيانات، إذ
كان كلٌّ منهم يعتقدُ بأنّ الجنّة وقفٌ له ولا مكانَ لِغيرِه فيها. فأجابهم
القرآن: إنَّ معيارَ الفوزِ ليس مجرَّد الانتساب إلى الدِّين، بل لا بدَّ من أنْ
يكونَ ذلك مشفوعاً بالتزامٍ عمليٍّ بالدّين، نابعٍ من الإيمانِ باللهِ واليومِ
الآخِر، وعلى المؤمن بهذه الأديان أنْ يعلمَ أنَّ المناطَ الأخير هو الدِّينُ
الخاتم. فالقرآنُ لم يكُن في صدَدِ إقرارِ الأديان كافّة، إنَّما أراد تثبيتَ
معايير الإيمان الأساسيّة، وعلى مَن يؤمنُ بالله أنْ يؤمنَ بالأنبياءِ وكُتُبِهم،
لا سيَّما النّبيّ الخاتم صلّى الله عليه وآله، والقرآن الّذي بُعِث به، وأنْ يَستقصيَ
مصادرَ سعادتِه في دِينه الّذي جاء به.
خصائص الدِّين العامّ الخالد
يتميَّزُ الدِّينُ
العامُّ الخالدُ بخصائص كثيرة، منها:
1- الاهتمام بحقيقة الإنسان:
فالدِّين الشّامل ينبغي له أنْ تتوفَّر فيه معرفة عميقة بحقيقة الإنسان، أي لا بدَّ
من وجودِ إحاطةٍ في دين مثل هذا بالإنسان بجميع أبعاده، أي أنْ:
-
يتحدَّث
عن سرِّ وجود الإنسان.
-
يُبيِّن
حقيقةَ الإنسان بِنَحوٍ دقيقٍ.
-
يبيِّن
موقعَ الإنسان في عالَم الوجود.
-
يقدِّم
للإنسان عواملَ تكامُله وعناصرَ هذا التَّكامل.
-
يُشخِّص
عقبات مسيرة الإنسان التّكامليّة.
-
يحدِّد
متطلِّبات الإنسان وسُبُلَ تلبيتِها.
-
يحدِّد
أساليبَ نضجِ الإنسان وسُبُله.
-
يعطي
تصوُّراً وافياً في شأن العلاقات الأربع، وهي: علاقةُ الإنسان بنفسِه، وبربِّه،
وبالكَونِ، وبالآخرين.
-
يؤشِّر
على السُّنن الإلهيّة الّتي تخضع لها حياة الإنسان الفرديّة والاجتماعيّة.
2- الانسجام مع الفطرة:
فالدِّينُ الّذي يوجِّه خطابَه للإنسان، في أيِّ عصرٍ وُجِد، لا بدَّ من أنْ يكونَ
مُتطابقاً مع الفطرة، لأنَّ الفطرةَ تُمثِّل البُعدَ الثّابت في حياة الإنسان،
والقاسمَ المُشترَك بين بَنِي البشر، حاضراً وغابراً، والإنسانُ إنسانٌ بفطرته،
وهي أساسُ حاجةِ الإنسان إلى أحكامٍ خالدةٍ وثابتةٍ.
والإسلامُ دينُ
الفطرة، بمعنى أنَّ جميعَ تعاليمِه جاءت منسجمة مع فطرةِ الإنسان، وهذا هو سرٌّ من
أسرارِ خلودِه، يقول تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ
الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ
الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾
الرّوم:30.
فاشتراكُ النَّاسِ في طبيعةٍ واحدةٍ، يُشكِّلُ أساساً مهمّاً
للاعتراف بوجود دينٍ خالدٍ، لأنَّ ذلك يجعل من الممكنِ تقديم تعاليم وأحكام عامّة
لجميع البشر طوال التّاريخ. فلو أنَّ أحداً رفض هذا المبدأ، لعجز عن الدِّفاع
دفاعاً منطقيّاً عن مبادئ الدِّين الثّابتة.
3- التّعاليم المتكاملة:
يتوجَّب على الدّين العامّ والخالد أن يكون متكاملاً قياساً بأهدافه؛ فالدّين الّذي
يحمل هدفاً بالمستوى الفرديّ، ينبغي أن تكون تعاليمُه مستوفية لذلك الهدف، أمّا
الدّين الّذي يَتصدَّى لتلبية أهداف الإنسان على المستوى الاجتماعيّ أيضاً، فعليه
أن يقدّم للبشريّة أحكاماً وتعاليم تستوعب الحياة الاجتماعيّة، وتَفي بمتطلّباتها.
والدِّينُ الأمثل، من بين الأديان، هو ذلك الدّين الّذي يسوق
الإنسان باتّجاه غاية وجوده، المتمثِّلة في تكامله ورقيِّه، وذلك من خلال رفده
ببرامج تصل به إلى غايته.
وقد طرح الإسلام نفسه بوصفه الدّين الّذي يحيي النّاس ويَهب
لهم سعادتهم في الدّنيا وفي الآخرة: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لله وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم
لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ الأنفال:24.
4- المرونة:
كما ينبغي للدّين الخالد أيضاً أن يتمتّع
بالمرونة، ليكون قادراً على مواكبة متطلِّبات جميع العصور، لأنَّ الدِّين الّذي لا
يُبيِّن سوى عددٍ من الأحكام والتّعاليم الثّابتة، ولا يخطِّط لمتغيِّرات العهود
المتعاقبة من حياة الإنسانيّة، فذلك دينٌ محلّيٌّ لا قدرةَ له على البقاء، بل هو
خاصٌّ بظرف نزوله، ومحدودٌ بعصر ظهوره. كذلك فإنَّ الدّين الفاقد لمبدأٍ ثابتِ لا
حظَّ له من الخلود، لأنّه سرعان ما يفقد أصالته مع توالي القرون وتتابُع العصور.
5-
العقلانيّة: فلا بدَّ من أن تقوم تعاليم الدّين العامّ على
أساس العقل والمنطق، فليس في تعالميه وأحكامه ما هو غير عقلانيّ، فالأحكام جميعاً
قائمةٌ على المصالح الّتي تُعِدّ للإنسان ظروف تكامله.
لكنّ
عقلانيّة الدّين لا تعني أنَّ البشر قادرون على اكتشاف فلسفة جميع أحكامه، بل
المقصود منها عرضُ الدّين على النّاس بنحوٍ ينفي اشتماله على حكمٍ غير عقليّ، بغضِّ
النّظر عن قدرة الإنسان على اكتشاف مقاصده أو عجزه عن ذلك. كما لا بدَّ من أن تكون
أحكام الدِّين العامّ والخالد وفرائضه قابلة للتّفسير والتّعليل المنطقيّ، أي يجب
أن تتوافر أسباب معقولة لقبولها، كي يكون التزامُ الإنسانِ بها نابعاً من ضرورةٍ عقليّة.
مثال ذلك، أنّ مسألة الإيثار والشّهادة من المفاهيم الّتي عجزت الكثيرُ من المذاهب
عن تقديم تعليلٍ عقلانيٍّ لها، في حين يستطيع الإسلام أنْ يُضفيَ عليها توجيهاً
مقنعاً وفق متبنّياته العقيديّة.
6-
انسجام أركان الدِّين: والدِّين الشّامل العامّ يجب أن تكون أجزاؤه
منسجمةً بعضها مع بعض. فالدِّينُ الكاملُ والخالدُ هو ذلك الدِّينُ القادرُ على
تحقيق الانسجام الكامل بين تعاليمه وأحكامه. فلو أنَّ ديناً أكَّد الجانب
الاجتماعيّ للإنسان، لكنّه دعا في الوقت نفسه إلى الرّهبنة ورَغَّب فيها، لَوَقَع
التَّنافرُ بين أجزائه وانخرَمَ انسجامُ بعضها مع بعض. وعلى الدّين الخالد أن يتمتّع
بالقدرة على التّكيُّف مع جميع التّحوُّلات والتّطوُّرات الاجتماعيّة، وهذا يتطلَّب
السّعة في مضامينه من جهة، والانسجام بين أجزائه وأركانه من جهةٍ ثانية.