إيمان ما بعد الحداثة*
الغرب محكوماً
بهواجس المسيحيّة
_____محمود حيدر**_____
جرى سؤالُ الدّين على لسان الغرب مجرى خطاب الحداثة برمّته. فلو عاينَّا
قليلاً، شيئاً منه، لا سيّما الفلسفيّ والسّوسيوتاريخيّ، لَعثرنا بيُسرٍ على أصله الدّينيّ،
كما لو كان أمر الحداثة في حقيقته أمراً دينيّاً. حتّى أنّ هناك مَن مضى إلى أنَّ للحداثة
صفةَ التّعالي، فرأى إليها، رغم دنيويّتها الصّارمة، بوصفها ميتافيزيقا، أو هي على
قاب قوسين أو أدنى لتغدو كذلك. فالحداثة قبل أن تشرِّع سيوفَها شرَّعت أسئلتَها؛ وهي
أوّل ما سألت، ساءلت المسيحيّة المؤسّسيّة كخصيمٍ بلا هوادة. لكنّها حين مضت في السّؤال
لتمنح نفسها بعض اليقين، هبطت إلى عمق الزّمان الدّينيّ. كانت الحداثة حين فعلت هذا،
ميتافيزيقيّة، لأنّها بحثت عن اعتلائها الأرضيّ في تاريخ الدّين، أرادت أن تحتلَّه
لتقوم مقامه، حتّى وإن قُضي الأمرُ على أبحرٍ من الموتى.
كان سؤال الحداثة
في الغرب إذن، ميتافيزيقيّاً. فإنّ كلّ سؤالٍ على هذا النّحو يحيط دائماً بمجمل إشكاليّة
الفضاء الّذي منه جاء، ويكون في كلّ مرّة هو هذا المجمل نفسه. وإذاً -كما يقول «مارتن
هايدغر» Martin
Heidegger - لا يمكن لأيّ سؤالٍ ميتافيزيقيٍّ
أن يُطرح، من دون أن يكون السّائل، بما هو سائل -مُتَضَّمناً- هو نفسه في السّؤال،
أي عالقاً في هذا السّؤال. هكذا لم تغادر المسيحيّة هواجس الغرب، لا في حداثتها الأولى،
ولا في طـورها الما بعد حداثيّ، ظلّت الكنيسة باعث الحراك الفكريّ، والفلسفيّ، والاجتماعيّ.
دائماً ظلّ كلُّ تجاوزٍ يتأسّس عليها، كما لو كانت المؤسّسة الدّينيّة هي الضّدّ الّذي
يظهر على صفحاته الملساء حُسنُ الحداثة المزعوم. فالدّين -على ما يبيِّن فلاسفة التّنوير-
لم يكُفّ عن كونه وظيفة أبديّة للرّوح الإنسانيّ، وعليه، سوف ينبّه هؤلاء إلى ضرورة
ألَّا تتنازل الفلسـفة يوماً عن حقِّها في بحث المشكلات الدّينيّة الأساسيّة وحلِّها.
كان «برديائيف»
Berdyaev،
مثلاً، يبيِّن أنَّ لليقظات الفلسفيّة دائماً مصدراً دينيّاً، وهو يميل إلى الاعتقاد
أنّ الفلسفة الحديثة عموماً، والفلسفة الألمانيّة خصوصاً، هي أشدّ مسيحيّةً في جوهرها
من فلسفة العصر الوسيط؛ فلقد نفذت المسيحيّة إلى ماهيّة الفكر نفسه ابتداءً من فجر
العصور الحديثة.
حطَّت المنازعةُ
بين الحداثة والكنيسة على أرض الفصل بين الدّين واللَّاهوت، بين جوهر المسيحيّة وسلطان
الكنيسة. لم تتوقّف غاية الحداثة، إذ نازعت الكنيسة مقامها، على وقف تدخّلها في السّياسة
والاجتماع وأمر الدّولة، فإذا بها وهي ترى أغراضها بأمِّ عينها، ستمضي إلى نهاية الرّحلة
لتطيح الكنيسة بما هي مصدر الحقيقة. بل هي ستمضي لتطيح ما أنجزته الفلسفة الحديثة في
صعيدها المتعالي. لقد تحوّلت مقولةُ الواجب عند «كانط» Immanuel Kantإلى مجرّد طاعة
مطلقة «للأمير الحديث». ذلك الأمير الّذي نزع من الحداثة أخلاقها حين نزع جوهرها المسيحيّ،
ثمّ راح بعيداً في «ضراوته» إلى أن لم يُبقِ من الكنيسة إلّا حجارتها الصمّاء..
***
لقد انتصرت الحداثة
على اللَّاهوت، ابتنت علمانيّتها الحادّة بعقلٍ بارد، ونظرت إلى الكنيسة بوصفها نابض
إرجاعٍ للزّمن، وللمؤمنين بوصفهم كائنات أسطوريّة تُغرِقُ العالمَ بالظّلمات. انتصرت
الحداثة على اللَّاهوت، لكنّها لم تستيقظ من نوام انتصارها بعد..
ثمّة مَن رأى من
الفرنسيّين، أنَّ الجمهوريّة لم تنتصر إلّا بدَحر الكنيسة، لكنّ انتصارها كان أشبه
بانتصار فرنسا على نصفها الآخر.
حين نُقِدت الحداثةُ
من أهلها، قيل يومئذٍ إنّها عادت إلى جاهليّة من نوعٍ آخَر؛ جاهليّة الهوَس بعالمٍ
صار عبداً لأوهامه وأشيائه. لقد صوّر اللّاهوتيّ «ديتريش بونهوفر» Dietrich
Bonhoeffer هذا الهوَس الحداثيّ بقوله: صار سيّدُ الآلةِ عبداً لها. ثارت الخليقةُ
ضدّ بارئها. لقد انتهى تحرُّر الجماهير إلى رعب المقصلة، والقوميّة أدّت إلى الحرب.
وتفتّحت مع الحداثة أبواب العدميّة. هكذا يبدو غرب ما بعد الحداثة على أحرِّ من الجمر
بالنّسبة إلى المسيحيّة المعاصرة.
* مختصر من افتتاحية العدد الثّالث من مجلّة (مدارات غربيّة)
** باحث في الفلسفة السياسيّة