الموقع ما يزال قيد التجربة
إقرأ في هذا الملفّ
استهلال من «الصّلوات الكبرى» عن الإمام العسكري عليه السلام
التّسمِيَة، أهمّيتُها عموماً، وفي الأولياء بالخصوص العلّامة السّيّد محمّد كاظم القوزينيّ
تسعةُ أسماءٍ للصّدّيقة الكبرى عليها السّلام إعداد: أسرة التّحرير
استهلال
الصَّلاة على السّيّدة فاطمة عليها السَّلام
أللَّهمَّ صَلِّ على الصِّدِّيقةِ فاطمة الزَّهراء الزَّكيّة
حبيبةِ نبيِّك، وأمّ أحِبَّائِكَ وأصفِيائِكَ
الّتي انتَجَبْتَها وفَضَّلتَها واخْتَرْتَها على نِسَاءِ العَالَمِين
أللَّهُمَّ كُنِ الطَّالِبَ لها مِمَّن ظَلَمَها، واستَخَفَّ بِحَقِّهَا
أللهمّ وكن الثّائر لها [اللهمّ] بِدَمِ أوْلادِها
أللَّهُمَّ وكمَا جَعلْتَها أمّ أئمّةِ الهُدَى، وحَلِيلةَ صاحبِ اللِّواء، الكَرِيمةَ عند المَلَإ الأعْلَى، فَصَلِّ علَيها وعَلى أمِِّها خَديجةَ الكُبرَى، صلاةً تُكْرِمُ بها وجهَ محمّدٍ صلّى الله عليه وآلِه، وتُقِرّ بها أعْيُنَ ذرِّيَّتِها، وأبْلِغْهمْ عنِّي فِي هذه السَّاعة أفْضَلَ التَحيَة والسَّلام.
هذا الملفّ
من أوائل الكُتب المعاصرة المتميّزة بمنهجيّتها وأصالتها وصِدق الولاء كتاب (فاطمة الزّهراء من المَهد إلى اللّحد) للعلّامة الخطيب الحسينيّ السّيّد محمّد كاظم القزوينيّ رحمه الله، بل لعلّه الكتابُ الأوّل الذي سبقَ بعضَ الكتب النّوعيّة القليلة عن الصّدّيقة الكبرى الشّهيدة بحوالي عقدَين من الزّمن.
تكمنُ فرادةُ الكتاب في أنّه تولّى تظهيرَ ما تناثرَ في المصادر الأمّ وتنضيدها بمنهجيّةٍ سلمتْ من لوثةِ مرض ضعفِ الإيمان بالغيب، وتجريد المعصوم من جوهر حقيقته الغيبيّة، ليُصار إلى التّعامل مع المعصوم على أنّه ﴿بَشَرٌ مثْلُكُم﴾ دون إكمال البيان الذي لا ينعقدُ الظّهورُ بدونه.
وقد صدر هذا الكتاب في مرحلة استشراءِ هذا المرض، وقبلَ أن يوفِّق اللهُ تعالى عبدَه المسدّد المجدِّد الإمام الخمينيّ رضوان الله تعالى عليه لتحذير الأمّة منه، وإنقاذ طيفٍ كبيرٍ منها من أخطبوطه المنتفخ بادّعاء العقلانيّة والوعي والحداثة.
لخصوصيّة هذا الكتاب اختارت «شعائر» أن يكونَ هذا الملفّ وملفّ العدد الآتي - بحوله تعالى - من فصولِه بتصرّف، بعضَ وفاءٍ للصّدّيقة الكبرى الشّهيدة عليها السّلام.
التَّسمِيَة
أهميّتُها عموماً، وفي الأولياء بالخصوص
ـــــ العلّامة السّيّد محمّد كاظم القزوينيّ رحمه الله ـــــ
قالَ رسولُ الله صلّى الله عليه وآله: «وَأَمّا ابْنَتي فاطِمَةُ فَإنَّها سَيِّدَةُ نِساءِ العالَمِينَ مِنَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرينَ، وَهِيَ بِضْعَةٌ مِنّي، وَهِيَ نُورُ عَيْني، وَهِيَ ثَمَرَةُ فُؤادي، وَهِيَ رُوحي الّتي بَيْنَ جَنْبَيَّ، وَهِيَ الحَوْراءُ الإِنْسِيَّةُ، مَتى قامَتْ في مِحْرابِها بَيْنَ يَدَيْ رَبِّها جَلَّ جَلالُهُ زَهِرَ نورُها لِمَلائِكَةِ السَّماءِ كَما يُزْهِرُ نورُ الكَواكِبِ لِأَهْلِ الأَرْضِ..».
«.. تختلفُ أسماءُ البَشر على مرِّ الأجيال والعصور، وعلى اختلافِ لُغاتِها، فقد توجَد هناك مناسبةٌ بين الاسم والمسمَّى، وقد لا توجَد، وقد يكون للاسم معنًى في قاموس اللّغة وقد لا يكون له معنى، بل هو اسمٌ مخترَعٌ، وليس من مادّةٍ لغويّةٍ.
أمّا أولياءُ اللهِ فإنَّ التّسميةَ تُعتبَر عندَهم ذاتَ أهميّةٍ كُبرى، فهذه امرأةُ عمرانَ ولدتْ بنتاً فقالت: ﴿..وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ..﴾ آل عمران:36.
واختارَ اللهُ لنبيّه يَحيى عليه السّلام هذا الاسمَ قبل أن تنعقدَ نطفتُه في رَحِم أُمِّه، لأنَّ زكريا سألَ ربَّه فقال: ﴿..فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا * يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا﴾ مريم:5-7، وأنت إذا أمعنتَ النَّظرَ في قوله تعالى: ﴿..لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا﴾ مريم:7، يتّضحُ لكَ أنَّ تعيينَ أسماءِ أولياءِ اللهِ يكونُ من عنده عزّ وجلّ، وأنَّ اللهَ يتولّى تسميتَهم، ولم يَكِلها إلى الأبوَيْن.
أَستعرضُ في ما يلي، طائفةً كبيرةً من الأحاديث التي تذكرُ اسمَ السّيّدة فاطمة الزّهراء ووجهَ التّسمية، وأنّها إنّما سُمِّيَتْ بفاطمة لأسبابٍ ومناسبات، وليست هذه التّسميةُ ارتجاليّةً، ولا وليدةَ إعجابٍ واستحسانٍ فقط، بل رُوعي فيها مناسبةُ الاسم مع المُسَمّى، بل صِدْقُ الاسمِ على المُسَمَّى».
**
تسعةُ أسماءَ للزّهراء عليها السّلام
إنَّ الله عزّ وجلّ فطمَها وفطمَ مَن أحبَّها من النّار*
ـــــ إعداد: أسرة التّحرير ـــــ
قال الإمام الصّادق عليه السّلام: «لفاطمةَ تسعةُ أسماءٍ عند الله عزّ وجلّ: فاطمة والصّدِّيقة والمبارَكة، والطّاهرة، والزّكيّة، والرّاضيَة والمَرْضيّة، والمحدَّثة، والزّهراء..».
( 1 )
فَاطمَة عليها السّلام
في العاشر من (البحار):
1 - عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السّلام قال: «لمّا وُلدت فاطمة عليها السّلام أوحى اللهُ عزّ وجلّ إلى ملَكٍ فأنطقَ به لسان محمّدٍ صلّى الله عليه وآله فَسمَّاها فاطمة ثمّ قال: إنّي فطمتُكِ بالعلم. وفطمتُك عن الطّمث».
ثمّ قال أبو جعفر عليه السّلام: «واللهِ لقد فطمَها اللهُ تبارك وتعالى بالعِلم وعن الطّمث بالميثاق».
2 - عن الإمامَين: الرّضا والجواد عليهما السّلام قالا: «سمعْنا المأْمون يحدّثُ عن الرّشيد، عن المهديّ، عن المنصور، عن أبيه، عن جدِّه، قال ابنُ عبّاس - لمعاوية: أَتدري لِمَ سُمِّيَت فاطمة؟ قال: لا. قال: لأنّها فُطِمَتْ هي وشيعتها من النّار، سمعتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله يقولُه».
3 - عن الإمام الرّضا عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: يا فاطمة، أتَدرينَ لِمَ سُمِّيتِ فاطمة؟ قال عليٌّ عليه السّلام: لِمَ سُمِّيَتْ؟ قال: لأنّها فُطمت هي وشيعتها من النّار».
4 - قال الإمام الصّادق عليه السّلام: «أتدرون أيُّ شيءٍ تفسيرُ فاطمة؟ قلت: أخبرني يا سيّدي، قال: فُطمتْ من الشّرّ. ثمّ قال: لولا أنّ أمير المؤمنين تزوَّجها لَما كان لها كفؤٌ إلى يوم القيامة على وجه الأرض، آدمُ فمَن دونَه».
وقد روى هذا الحديث من علماء العامّة جماعةٌ. منهم:
* ابن شيرويه الدّيلميّ عن أُمّ سلَمة قالت: «قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: لو لم يخلقِ اللهُ عليّاً لَما كان لفاطمةَ كفؤٌ».
ورواه الخوارزميّ في (مقتل الحسين: ص 65).
والتّرمذيّ في (المناقب). والمنّاويّ في (كنوز الحقائق).
والقندوزيّ في (ينابيع المودّة) عن أُمّ سلَمة، وعن العبّاس عمّ النّبيّ صلّى الله عليه وآله.
5 - وروى الخرگوشي في كتاب (شرف النّبيّ) وابن بطّة في كتاب (الإبانة) عن الإمام الصّادق عليه السّلام قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وآله لعليٍّ عليه السّلام: هل تدري لِمَ سُمِّيَتْ فاطمة؟ قال عليٌّ: لِمَ سُمِّيَتْ؟ قال: لأنَّها فُطمت هي وشيعتها من النّار».
6 - عن الإمام الرّضا عليه السّلام عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السّلام قال: «سمعتُ رسولَ الله يقول: سُمِّيَتْ فاطمةَ لأنّ اللهَ فطمَها وذرّيّتَها من النّار، مَن لقيَ اللهَ منهم بالتّوحيدِ والإيمانِ بما جئتُ به».
وقد روى الأحاديثَ جمعٌ غفيرٌ من علماء العامّة. منهم:
1 - الخوارزميّ في (مقتل الحسين: ص 51) عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، قال: «قال رسولُ الله صلّى الله عليه وآله: إنّما سُمِّيَتْ ابنتي فاطمة لأنَّ اللهَ عزّ وجلّ فطمَها وفَطَمَ مَن أحبَّها من النّار».
في (الوسائل: ج 7) عن السّكونيّ قال: «دخلتُ على أبي عبد الله - الصّادق - عليه السّلام وأنا مغمومٌ مكروبٌ، قال لي: يا سكونيّ ما غمّك؟ فقلت: وُلِدَتْ ليَ ابنةٌ.. فقال: ما سمَّيتَها، قلتُ: فاطمة. قال: آه آه آه، ثمّ قال: أمّا إذا سمّيتَها فاطمة، فلا تَسُبَّها ولا تلعَنْها ولا تضرِبْها».
2 - الطّبريّ في (ذخائر العقبى)، والقندوزيّ في (ينابيع المودة: ص 194)، والصّفوريّ في (نزهة المجالس) عن عليٍّ [عليه السلام]: «قال رسولُ الله صلّى الله عليه وآله: يا فاطمة، أتدرينَ لِمَ سُمِّيتِ فاطمة؟ قال عليّ: يا رسولَ الله لِمَ سُمِّيَت فاطمة؟ قال: إنَّ الله عزّ وجلّ قد فطمَها وذرّيَّتها من النّار يومَ القيامة».
وكان هذا الاسم محبوباً عند أهل البيت عليهم السّلام يحترمونه ويحترمون مَن سُمِّيت به، وسأل الإمام الصّادق عليه السّلام أحدَ أصحابه - وقد رزقَه اللهُ بنتاً - بِمَ سمَّيتها، قال الرّجل: سمّيتُها فاطمة. قال الإمام الصّادق: فاطمة؟ سلامُ الله على فاطمة، أما إنْ سمَّيتَها فاطمة فلا تَلطِمها ولا تشتُمها وأَكرِمْها.
وفي (الوسائل: ج 7) عن السّكونيّ قال: «دخلتُ على أبي عبد الله - الصّادق - عليه السّلام وأنا مغمومٌ مكروبٌ قال لي: يا سكونيّ ما غمّك؟ فقلت: وُلدت لي ابنة.. فقال: ما سمَّيتَها؟ قلت: فاطمة. قال: آه آه آه. ثمّ قال: أمّا إذا سمّيتَها فاطمة فلا تسبّها ولا تلعَنها ولا تضرِبْها».
وفي (سفينة البحار): «عن أبي الحسن (الكاظم) عليه السلام قال: لا يدخلُ الفقرُ بيتاً فيه اسمُ محمّدٍ.. وفاطمة من النّساء».
* معنى «الميثاق»
إنّ الحديث الأوّل الذي مرّ في تسميَتها عليها السّلام بفاطمة، عن الإمام الباقر عليه السّلام قد ذيّلَه الإمامُ بقوله: «واللهِ، لقد فطمَها اللهُ تباركَ وتعالى بالعلم، وعن الطّمث بالميثاق».
إنّ المقصود من كلمة (الميثاق) هنا هو عالم الذّرّ، ذلك العالم الذي أشار إليه قولُه تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى..﴾ الأعراف:172، وملخّصُ القول: إنّ الله تعالى أخرج ذرّيّة آدم من صُلبه كهيئة الذّرّ، فعرضَهم على آدم، وقال: إنّي آخذٌ على ذرّيّتك ميثاقَهم أن يعبدوني ولا يُشركوا بي شيئاً وعليَّ أرزاقُهم، ثمّ قال لهم: ﴿..أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ..﴾ الأعراف:172؟ قالوا: بلى شَهِدنا أنّك ربُّنا، فقال للملائكة: اِشهدوا، فقالوا: شَهِدْنا.
وقيل إنّ اللهَ تعالى جعلَهم فهماءَ عقلاءَ يسمعون خطابَه ويفهمونه ثمّ ردَّهم إلى صُلبِ آدم، والنّاس محبوسون بأجمعِهم حتّى يخرج كلُّ مَن أخرجَه اللهُ في ذلك الوقت، وكلُّ من ثبتَ على الإسلام فهو على الفطرة الأُولى، ومَن كفر وجحدَ فقد تغيَّر عن الفطرة الأُولى.
وهذا القول مستخلَصٌ من طائفةٍ كبيرةٍ من الأحاديث والأخبار المعتبَرة، وهذا العالَم يُسمَّى عالم الذّرّ ويسمّى عالَم الميثاق، والإمام الباقر عليه السّلام يُشير في كلامه إلى أنّ الصّدّيقة الطّاهرة فاطمة الزّهراء كانت طاهرةً ".." من ذلك العالم ومن ذلك الوقت.
وأمّا الأحاديث التي تتحدّث عن عالم الذّرّ فكثيرةٌ جدّاً، ونكتفي هنا بذكر بعضها:
في (تفسير البرهان):
* عن الإمام أبي عبد الله (الصّادق) عليه السّلام قال: «سُئلَ رسولُ الله صلّى اللهُ عليه وآله: بأيّ شيءٍ سبقتَ وُلْدَ آدم؟ قال: إنّني أوّلُ مَن أقرَّ بربّي، إنّ اللهَ أخذَ ميثاقَ النّبيّين وأشهدَهم على أنفسِهم أَلَسْتُ بِربِّكم؟ قالوا: بلى. فكنتُ أوّلَ مَن أجاب».
* عن أبي بصير قال: «قلتُ لأبي عبد الله الصّادق عليه السّلام: كيف أجابوا وهم ذرّ؟ قال: (جعلَ فيهم ما إذا سألَهم أجابوه)، وزاد العيّاشيّ: يعني في الميثاق».
* وعن زُرارة أنّه سُئل الإمام الباقر عليه السّلام عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ..﴾ الأعراف:172، قال: «من ظَهرِ آدم ذرّيّتَه إلى يوم القيامة فخرجوا كالذّرّ، فعرَّفهم وأراهم صُنْعَه، ولولا ذلك لم يعرِفْ أَحَدٌ رَبَّه».
* «ولمّا حجَّ عمر بن الخطّاب واستلمَ الحَجر قال: أما والله إنّي لأَعلمُ أنّك حجرٌ، لا تضرُّ ولا تنفع، ولولا أنّ رسولَ الله استلمَك ما استلمتُكَ.
فقال له عليٌّ عليه السّلام: يا أبا حفص، لا تفعل، فإنّ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله لم يستلِم إلّا لأمرٍ قد علمَه، ولو قرأتَ القرآنَ فعلمتَ من تأْويلِه ما عَلِمَ غيرُك لعلمتَ أنّه يضرُّ وينفع، له عينان وشفتان ولسانٌ ذلِقٌ يشهدُ لمَن وافاه بالموافاة.
فقال له عمر: فَأَوْجِدني ذلكَ في كتابِ الله يا أبا الحسن. فقال عليٌّ عليه السّلام: قولُه تبارك وتعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا..﴾ الأعراف:172، فلمّا أَقرّوا بالطّاعةِ أنّه الرّبُّ وأنّهم العباد، أخذَ عليهم الميثاقَ بالحجِّ إلى بيتِه الحرام، ثمّ خلقَ اللهُ رقّاً أرقَّ من الماء وقال للقَلم: أُكتب موافاةَ خلقي ببَيتيَ الحرام. فكتبَ القلمُ موافاةَ بني آدم في الرّقّ، ثمّ قيلَ للحَجر: اِفتح فاك. ففتحَه فأُلقِمَ الرّقّ. ثمّ قال للحَجر: اِحفَظْه واشهَدْ لعبادي بالموافاة. فهبطَ الحجرُ مطيعاً لله.
يا عمر، أَوَليسَ إذا استلمتَ الحجرَ قلتَ: أمانتي أدَّيتُها، وميثاقي تعاهدتُه لِتَشْهَدَ لي بالموافاة؟
فقال عمر: أللّهمّ نعم.
فقال له عليٌّ عليه السلام: من ذاك». [أي هذا الذي يقوله الحاجّ هو من ذلك الميثاق وبسببه]
وتجدُ طائفةً كبيرةً من الأحاديث التي تتضمّن البحثَ عن عالم الذّرّ في كتاب (الكافي) للكلينيّ و(البحار) للمجلسيّ، وغيرها من موسوعات الأحاديث.
وقد التبسَ الأمرُ على البعض، فلم يفهموا الآيةَ فجعلوا يشكِّكون في تلك الأحاديث - سامحَهم الله - بالرّغم من كثرتها، بل بالرّغم من صريح الآية.
وخلاصةُ الكلام أنّ عالم الذّرّ هو عالَمُ الميثاق، ومن ذلك العالم - بل وقبل ذلك - كانت الأفضليّةُ لرسول الله صلّى الله عليه وآله وأهل بيتِه الطّاهرين، ومن جملتِهم ابنتُه الطّاهرة فاطمة الزّهراء.
ولا يصعبْ عليك قبولُ هذا القول، فإنّ هناك أحاديث كثيرة رواها علماء الفريقَين من الشّيعة والسّنّة، قد بلغت أو تجاوزت حدَّ التّواتر، وهي تؤيِّدُ هذا الموضوع.
أمّا الأحاديث المذكورة في كُتب الشّيعة فيَعسر إحصاؤها وعدُّها، وأمّا في كتب السُّنّة فقد روى الصّفوريّ الشّافعيّ في (نزهة المجالس: ج 2، ص223) قال: «قال الكسائيّ وغيرُه: لمّا خلقَ اللهُ آدم.. إلى أنْ قال: وعليه جارية لها نورٌ وشُعاع، وعلى رأْسِها تاجٌ من الذّهَب، مُرَصَّعٌ بالجواهر لم يرَ آدمُ أحسنَ منها. فقال: يا ربِّ مَن هذه؟ قال: فاطمة بنت محمّد صلّى الله عليه وآله، فقال: يا ربّ مَن يكونُ بعلُها؟ قال: يا جبرئيلُ، افتَحْ له بابَ قصرٍ من الياقوت. ففتحَ له، فرأى فيه قبَّةً من الكافور، فيها سريرٌ من ذَهَب، عليه شابٌّ حُسْنُه كحُسن يوسف، فقال: هذا بعلُها عليُّ بنُ أبي طالب.. الحديث».
روى العسقلانيّ في (لسان الميزان: ج 3، ص 346):
عن الإمام الحسن بن عليّ العسكريّ عليه السّلام، عن آبائه عليهم السّلام، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله صلّى الله عليه وآله: «لمّا خلقَ اللهُ آدمَ وحوَّاءَ تبَخترا في الجنّة وقالا: مَن أحسنُ منَّا؟ فبَينما هما كذلك. إذْ هما بصورة جاريةٍ لم يُرَ مثلها، لها نورٌ شَعْشَعَانِيٌّ يكادُ يُطفِئُ الأبصارَ. قالا: يا ربّ، ما هذه؟ قال: صورةُ فاطمةَ سيّدةِ نساء وُلدِك، قال: ما هذا التّاجُ على رأسِها؟ قال: عليٌّ بعلُها. قال فما القِرطان؟ قال: ابناها، وُجِدَ ذلك في غامضِ علمِي قبلَ أن أخلقَكَ بألفَي عام».
( 2 )
الصِّدِّيقة
من جملة أسمائها عليها السّلام الصّدِّيقة: بكَسر الصّاد والدّال المشدّدة (صيغة المبالغة) في التّصديق، أي الكثيرة الصّدق.
والصِّدِّيقُ أبلغُ من الصّدوق، وقيل: الصّدِّيق: مَن كثُر منه الصِّدق. وقيل: بل مَن لم يكذبْ قطّ. وقيل: الكاملُ في الصِّدق، الذي يصدِّقُ قولَه بالعمل، البارُّ، الدّائمُ التّصديق. وقيل: مَن لم يتأَتَّ منه الكذِبُ لِتَعوِّده الصّدقَ. وقيل: مَن صدقَ بقولِه واعتقاده، وحقّقَ صدقَه بفعلِه. كذا في (تاج العروس).
وقيل: المداومُ على التّصديق بما يُوجبُه الحقّ، وقيل: الذي عادتُه الصّدق. وقيل: إنّه المُصدِّق بكلِّ ما أمرَ اللهُ به، وبأنبيائه، لا يدخلُه في ذلك شكٌّ، ويؤيّدُه قولُه تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ..﴾ الحديد:19.
هذه تعاريفُ في معنى الصّدِّيق، ولكنّ المستفادَ من الآيات الكثيرة والرّوايات المتعدّدة أنّ مرتبة الصِّدِّيقين في عداد مراتب الأنبياء والشّهداء، لهم حسابٌ خاصٌّ بهم ودرجةٌ مخصوصةٌ بهم. اِستمع إلى هذه الآيات ليظهرَ لك ما قلنا:
﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ النّساء:69.
﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾ مريم:41.
﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾ مريم:56.
﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ..﴾ المائدة:75.
وفي تفسير قوله تعالى: ﴿..وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ..﴾ قيل: سُمِّيَتْ صدِّيقةً لأنّها تُصدِّقُ بآياتِ ربّها، ومنزلةِ وَلدِها، وتُصَدِّقُه في ما أخبرها به، بدلالة قوله تعالى: ﴿..وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا..﴾ التّحريم:12، وقيل: لكثرةِ صدقِها، وعِظَمِ منزلتِها في ما تصدِّقُ به من أمرها.
بعد استعراض هذه الآيات والأقوال يُمكن لنا أن نستفيد أنّ التّصديقَ بالله وبالأنبياء والكُتب السّماويّة والأحكام الشّرعيّة تارةً يكون باللّسان دونَ العمل. ففي الوقت الذي يصدّق الإنسان بأنّ الله تعالى يراه، مع ذلك يعصي الله عزّ وجلّ. ويعلمُ بأنّ الله تعالى قد أوجبَ عليه حقوقاً ماليّةً أو غير ماليّةٍ، ومع ذلك لا يؤدّي تلك الحقوق. ويعلمُ بأنّ الله حرَّم الخمرَ والرّبا والزّنا، ومع ذلك لا يرتدع عن تلك المعاصي. فهو مصدِّقٌ باللهِ وبالحلالِ والحرام، والثّوابِ والعقابِ، والجنّةِ والنّار، ولكنّ عملَه لا يطابقُ هذا التّصديقَ، أي لم يبلغ به التّصديقُ درجةَ المطابقةِ بينَ القولِ والفعل، أو بين الاعتقاد والعمل.
ولكنّ الصّدِّيقين هم الذين يعتقدون الحقّ ويؤمنون به، ويعملون على ضوءِ تلك المعتقدات، وهؤلاء عددُهم قليلٌ ونادرٌ في كلّ زمانٍ وفي كلّ مكان.
وأنت إذا قارنتَ بين هذه التّعاريف وبين أعمال النّاس يظهرُ لك بكلّ وضوح أنّ عددَ الصّدِّيقين قليلٌ جدّاً جدّاً، ولعلّ في بعض البلاد لا يوجَد صِدِّيقٌ واحدٌ.
وبعد هذا كلّه سوف يسهلُ عليك أن تعرفَ أنّ السّيّدةَ فاطمةَ الزّهراء عليها السّلام قد بلغتْ مرتبةَ الصّدِّيقين، وسمَّاها رسولُ الله صلّى الله عليه وآله بالصّدِّيقة.
* في (الرّياض النّضرة: ج 2، ص 202)، وفي (شرف النّبوّة) عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أنّه قال لعليٍّ عليه السّلام:
«أُوتيتَ ثلاثاً لم يُؤْتَهُنَّ أحدٌ، ولا أنا:
أُوتيتَ صهراً مثلي، ولم أُوتَ أنا مثلي.
وأُتيتَ زوجةً صدِّيقةً مثلَ ابنَتي، ولم أُوتَ أنا مثلها زوجةً.
وأُوتيتَ الحسنَ والحسين من صُلبِك، ولم أُوتَ من صُلبي مثلهما.
ولكنّكم منّي وأنا منكم».
* وسأل المفضّل بن عمر الإمامَ الصّادق عليه السّلام، قال: «قلتُ: مَن غَسَّلَ فاطمة؟ قال: ذاكَ أميرُ المؤمنين. فكأنّني استعظَمتُ ذلكَ من قوله، فقال: كأنّكَ ضقتَ بما أخبرتُكَ به؟ فقلت: قد كانَ ذلك، جُعِلْتُ فداك!
قال: لا تَضِيْقَنَّ، فإنّها صِدِّيقةٌ، ولم يغسِّلها إلّا صِدِّيق، أما علمتَ أنّ مريمَ لم يغسِّلها إلّا عيسى».
( 3 )
المُبَارَكَة
البَرَكة: النَّماء والسّعادة والزّيادة، كما في (تاج العروس). وقال الرّاغب: «ولمّا كان الخيرُ الإلهيُّ يصدرُ من حيث لا يحبَس، وعلى وجهٍ لا يُحصى ولا يحصَر، قيل - لكلّ ما يشاهَد منه زيادةٌ محسوسة: هو مباركٌ فيه، وفيه بَرَكة».
ولقد باركَ اللهُ في السّيّدة فاطمة أنواعاً من البرَكات، وجعلَ ذرّيّة رسول الله صلّى الله عليه وآله من نسلِها، وجعل الخير الكثير في ذرّيَّتها، فإنّها ماتتْ وتركتْ ولدَين وابنتَين فقط، وهم: الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السّلام، وزينب وأُمّ كلثوم، وجاءت واقعةُ كربلاء، وقُتِلَ فيها أولادُ الحسين، ولم يبقَ من أولادِه إلّا عليُّ بنُ الحسين (زين العابدين).
وقُتِلَ من أولاد الإمام الحسن سبعةٌ (على قول) واثنان من وُلد زينب، وأمّا أُمّ كلثوم فإنّها لم تعقّب.
وبعد واقعة كربلاء، تكرّرت الحوادث، وأُقيمت المذابحُ والمجازرُ في نسلِ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله وذرّيّةِ فاطمة الزّهراء؛ من واقعة الحرَّة، إلى واقعة زيد بن عليّ بن الحسين، إلى واقعة الفخّ، إلى مطاردة العلويّين في عهد الأُمويّين.
وجاء دَورُ بني العبّاس، فضربوا الرّقمَ القياسيّ في مكافحة العلويّين وإبادتهم واستئصال شأْفَتِهم. راجعْ كتاب (مقاتل الطّالبيين) تجدْ بعضَ تلك الحوادث.
واستمرّت المكافحةُ أكثرَ من قرنَين حتّى قُتلَ الإمامُ الحسنُ العسكريّ عليه السّلام، وهو الإمامُ الحادي عشر، مسموماً في مدينة سامرّاء. ولم يكن صلاح الدّين الأيوبيّ بأقلّ من العبّاسيّين في إراقةِ دماءِ آلِ رسولِ الله ودماءِ شيعتِهم، فلقد أقاموا في المغرب العربيّ مجازرَ ومذابحَ جماعيّةً تقشعرُّ منها الجلود.
ومع ذلك كلّه، فقد جعلَ اللهُ البركةَ في نسل فاطمة الزّهراء، وقد جعلَ اللهُ منها الخيرَ الكثير.
وفي تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ الكوثر:1، أقوالٌ للمفسِّرين، وإنْ كان المشهور أنّ الكوثر هو الحوضُ المعروفُ في القيامة، أو النّهرُ المشهورُ في الجنّة ولكنّ الكوثر - على وزن فَوْعَل - هو الشّيءُ الكثيرُ والخيرُ الكثيرُ.
وقد ذكر السّيوطيّ في (الدّرّ المنثور) في تفسير شرح الكوثر: «وأَخرجَ البخاريُّ وابنُ جرير والحاكم، عن طريق أبي بشر، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عبّاس رضيَ اللهُ عنهما أنّه قال: الكوثر: الخيرُ الكثيرُ الذي أعطاهُ اللهُ إيّاه، قال أبو بشر: قلتُ لسَعيد بن جُبَير: فإنّ ناساً يزعمونَ أنَّه نهرٌ في الجنّة. قال: النّهرُ الذي في الجنّةِ هو من الخيرِ الكثيرِ الذي أعطاه».
والأنسبُ بالمقام، وبمقتَضى الحال - كما في التّفسير للرّازيّ - أن يكون المقصود من الكوثر هي الصّدّيقة فاطمة الزّهراء، فقد ذكر الطّبرسيّ في (مجمع البيان) في تفسير سورة الكوثر: قال: «قيل: الكوثر هو الخيرُ الكثيرُ، وقيل: هو كثرةُ النَّسْل والذّرّيّة، وقد ظهرتْ الكثرةُ في نسلِه - رسول الله صلّى الله عليه وآله - من وُلد فاطمة حتّى لا يُحصَى عددُهم، واتّصل إلى يوم القيامة مَددُهم».
وقال الفخر الرّازيّ في تفسيره حول الآية:
«(والقولُ الثّالث): الكوثر أولادُه، قالوا: لأنّ هذه السّورة إنّما نزلت ردَّاً على مَن عابَه عليه السّلام بعدمِ الأولاد، فالمعنى أنّه يُعطيه نسلاً يبقون على مرِّ الزّمان، فانظر كم قُتل من أهل البيت؟ ثمّ العالم ممتلئٌ منهم، ولم يبقَ من بني أُميّة في الدّنيا أحدٌ يُعبَأُ به، ثمّ انظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصّادق والكاظم والرّضا عليهم السّلام والنّفس الزّكيّة وأمثالهم».
* وَوجهُ المناسبة: أنّ الكافر شمت بالنّبيّ حين مات أحدُ أولاده وقال: إنّ محمّداً أبتَر، فإنْ مات، مات ذِكرُه. فأنزلَ اللهُ هذه السّورةَ على نبيّه تسليةً له، كأنّه تعالى يقول: إنْ كان ابنُك قد مات فإنّا أعطيناكَ فاطمة، وهي وإنْ كانت واحدةً وقليلة، ولكنّ اللهَ سيجعلُ هذا الواحد كثيراً.
وتصديقاً لهذا الكلام ترى في العالم (اليوم) ذرّيّةَ فاطمة الزّهراء الذين هم ذريّةُ رسول الله صلّى الله عليه وآله منتَشرين في بقاع العالم، ففي العراق حوالي مليون، وفي إيران حوالي ثلاثة ملايين، وفي مصر خمسة ملايين، وفي الجزائر وفي تونس وليبيا عددٌ كثير، وكذلك في الأردنّ وسوريا ولبنان، والسّودان وبلاد الخليج والحجاز ملايين، وفي اليمن والهند وباكستان والأفغان وجزر إندونيسيا حوالي عشرين مليوناً.
وقلَّ أن تجدَ في البلاد الإسلاميّة بلدةً ليس فيها أحدٌ من نسلِ السّيّدة فاطمة الزّهراء. ويقدَّر مجموعُهم بخمسةٍ وثلاثين مليوناً، ولو أُجريَتْ إحصائياتٌ دقيقةٌ وصحيحةٌ فلعلّ العدد يتجاوز هذا المقدار.
هؤلاء ذرّيّةُ رسول الله صلّى الله عليه وآله، وهم من صُلب عليٍّ وفاطمة، وفيهم الملوكُ والأمراءُ والوزراءُ والعلماءُ والكُتَّابُ والشّخصيّاتُ البارزةُ والعباقرةُ المرموقون.
ومن أعجب العَجب أنّ بعض المسلمين ما كان يعجبُهم أن يعترفوا بهذا الانتساب - أي انتساب ذرّيّة عليٍّ وفاطمة إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله - بل يعتبرون هذا الاعتراف كَذِباً وافتراءً، ويحاربون هذه الفكرة محاربةً شعواء لا هوادةَ فيها، وكانوا يسفكون الدّماء البريئة لأجل هذه الحقيقة.
انظر إلى موقف الحَجّاج السّفَّاك الهتَّاك تجاهَ هذا الأمر، وهكذا المنصور الدّوانيقيّ، وهارون «الرّشيد»، وغيرهم ممّن حذا حَذْوَهم وسلكَ طريقتَهم.
وفي العاشر من (البحار): عن عامر الشّعبيّ أنّه قال: بعثَ إليَّ الحجّاجُ ذاتَ ليلة، فخَشِيتُ فقمتُ فتوضّأْتُ وأوصيتُ، ثمّ دخلتُ عليه، فنظرتُ فإذا نطعٌ منشورٌ والسّيفُ مسلول، فسلَّمتُ عليه فردَّ عليَّ السّلام، فقال: لا تخَف، فقد أمّنتُك اللّيلةَ وغداً إلى الظّهر، وأجلسَني عندَه ثمّ أشار فأُتيَ بِرَجُلٍ مقيَّدٍ بالكبول والأغلال، فوضعوه بين يدَيه فقال: إنّ هذا الشّيخ يقول: إنَّ الحسنَ والحسينَ كانا ابنَي رسول الله، لَيأْتيني بحُجّةٍ من القرآن وإلّا لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَه.
فقلت: يجبُ أن تحلَّ قيدَه، فإنَّه إذا احتجّ فإنَّه لا محالةَ يذهب، وإن لم يحتجّ فإنَّ السّيفَ لا يقطعُ هذا الحديد.
فحَلّوا قيوده وكبوله، فنظرت فإذا هو سعيدُ بنُ جُبَير، فحزنتُ بذلك، وقلت: كيف يجدُ حُجَّةً على ذلك من القرآن؟ فقال الحجّاج: ائتِني بحُجّةٍ من القرآن على ما ادّعيتَ وإلّا أضرب عنقَك.
فقال له: انتظر. فسكتَ ساعةً ثمّ قال له مثلَ ذلك. فقال: انتظر. فسكتَ ساعةً ثمّ قال له مثل ذلك، فقال: أعوذُ بالله من الشّيطان الرّجيم، بسم الله الرّحمن الرّحيم، ثمّ قال: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ الأنعام:84، ثمّ سكتَ وقال للحَجّاج: اقرأْ ما بعدَه. فقرأ: ﴿وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى..﴾ الأنعام:85، فقال سعيد: كيف يليقُ هاهنا عيسى؟ قال: إنَّه كان من ذرّيّته، قال: إنْ كان عيسى من ذرّيّة إبراهيم ولم يكن له أبٌ، بل كان ابنَ ابنتِه، فنُسب إليه مع بُعدِه، فالحسنُ والحسينُ أَولى أن يُنسبا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله مع قُربِهما منه.
فأمر له بعشرةَ آلاف دينار، وأمر أن يحملوه إلى داره، وأَذِنَ له في الرّجوع.
قال الشّعبيّ: فلمّا أصبحتُ قلتُ في نفسي: قد وجبَ عليَّ أن آتي هذا الشّيخَ فأتعلَّم منه معاني القرآن، لأنّي كنتُ أظنّ أنّي أعرفُها، فإذا أنا لا أعرفُها. فأتيتُه فإذا هو في المسجد، وتلك الدّنانيرُ بين يدَيه، يفرِّقُها عشراً عشراً، ويتصدّقُ بها، ثمّ قال: هذا كلُّه ببركة الحَسن والحسَين عليهما السّلام، لَئِنْ أغْمَمْنا واحداً لقد أفرَحنا ألفاً، وأَرْضَينا اللهَ ورسولَه صلّى الله عليه وآله.
* وهاكَ حديثاً آخر يكشفُ لك مدى العناد واللّجاج والإلحاح على نفي هذه الفضيلة وتزييفها من المناوئين.
روى شيخنا المجلسيّ في (البحار)، عن (الاحتجاج)، و(تفسير عليّ بن إبراهيم)، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام، قال: «قال لي أبو جعفر: يا أبا الجارود، ما يقولون في الحَسن والحسَين عليهما السّلام؟ قلتُ: يُنكرون علينا أنّهما ابنا رسول الله صلّى الله عليه وآله، قال: فَبِأَيِّ شيءٍ احتَجَجْتُم عليهم؟
قلتُ: يقولُ اللهُ عزّ وجلّ في عيسى ابنِ مريم: ﴿..وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى..﴾ الأنعام:84-85، وجعلَ عيسى من ذرّيّة إبراهيم.
قال: فأيّ شيءٍ قالوا لكم؟
قلتُ: قالوا: قد يكونُ ولدُ الإبنةِ من الوالد، ولا يكونُ من الصُّلب.
قال: فبأيّ شيءٍ احتَججتُم عليهم؟
قال: قلت: احتجَجنا عليهم بقول الله تعالى: ﴿..فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ..﴾ آل عمران:61، قال: فأيّ شيءٍ قالوا لكم؟
قلتُ: قالوا: قد يكونُ في كلام العرب أَبْنَاءُ رَجُلٍ، وآخَرُ يَقُولُ أَبْنَاؤُنَا.
قال: فقال أبو جعفر عليه السّلام: واللهِ يا أبا الجارود، لَأُعْطِيَنَّكَها من كتاب الله آيةً تسمّى لصُلب رسول الله صلّى الله عليه وآله، لا يردُّها إلّا كافر.
قال: قلتُ: جُعِلْتُ فداكَ، وأين؟
قال: حيثُ قالَ اللهُ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ..﴾ النّساء:23، فَسَلْهُم يا أبا الجارود، هل حلَّ لرسول الله صلّى الله عليه وآله نكاحُ حليلتَيهما؟ [أي زوجتَي الحسن والحسين عليهما السلام].
فإنْ قالوا: نعم، فكذَبوا واللهِ وفَجروا، وإنْ قالوا: لا. فهما واللهِ ابناه لصُلبِه، وما حُرِّمَتا عليه إلّا للصُّلب».
**
* ولقد جرى حوارٌ بين هارون «الرّشيد»، والإمام موسى بن جعفر عليهما السّلام، ذكرَه شيخُنا المجلسيّ في (البحار) نقلاً عن (عيون أخبار الرّضا عليه السّلام) أنّ هارون «الرّشيد» قال للإمام موسى بن جعفر عليهما السّلام:
«لِمَ جوَّزتم للعامّةِ والخاصّةِ أن ينسبوكم إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله، ويقولون لكم يا بَني رسول الله، وأنتم بنو عليّ، وإنّما ينسَبُ المرءُ إلى أبيه، وفاطمة إنّما هي وعاء، والنّبيُّ صلّى الله عليه وآله جدُّكم من قِبَلِ أُمِّكم؟؟
فقال الإمام: لو أنّ النّبيّ نُشِر [أي بُعِثَ حيّاً] فخطب إليك كريمتَك هل كنتَ تُجِيبُه؟
قال الرّشيد: سبحانَ الله! ولِمَ لا أُجيبهُ؟ بل أفتخرُ على العربِ والعجمِ وقريش بذلك.
فقال الإمام: ولكنّه صلّى الله عليه وآله لا يخطب إليَّ ولا أُزوِّجه.
قال الرّشيد: ولِمَ؟
قال الإمام: لأنّي ولدَني ولم يَلِدْكَ.
قال الرّشيد: أحسنتَ يا موسى.
ثمّ قال الرّشيد: كيف قلتُم إنّا ذرّيّةُ النّبيّ، والنّبيُّ صلّى الله عليه وآله لم يعقِّب؟ وإنّما العَقِبُ للذّكر، لا للأنثى، وأنتم وُلدُ الإبنة، ولا يكونُ لها عَقِب؟
فاعتذرَ الإمامُ عن الإجابة على هذا السّؤالِ المُحرج، وطلب من الرّشيد إعفاءَه عن الجواب رعايةً للتّقيّة. فقال الرّشيد: لا، أو تُخبرني بحجّتكم فيه يا وُلدَ عليّ، وأنت يا موسى يعسوبُهم وإمامُ زمانهم، كذا أُنهيَ إليّ، ولستُ أَُعفِيكَ في كلّ ما أسألُك حتّى تأْتيني فيه بحجّةٍ من كتاب الله، فأنتم تدَّعون - معشرَ وُلدِ عليّ - أنَّه لا يسقطُ عنكم منه شيءٌ؛ ألِفٌ ولا واو إلّا وتأْويلُه عندَكم، واحتجَجتم بقوله عزّ وجلّ: ﴿..مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ..﴾ الأنعام:38، وقد استغنيتُم عن رأي العلماء وقياسِهم.
فقال الإمام: تأذنُ لي في الجواب؟
قال الرّشيد: هات.
قال الإمام: أعوذُ باللهِ من الشّيطان الرّجيم، بسم الله الرّحمن الرّحيم ﴿..وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى..﴾ الأنعام:84-85، مَن أبو عيسى؟
قال الرّشيد: ليس لعيسى أب.
قال الإمام: إنّما ألحَقناه بذَراري الأنبياء عليهم السّلام من طريقِ مريمَ عليها السّلام، وكذلك أُلحِقنا بذَراري النّبيّ صلّى الله عليه وآله من قَبِلَ أُمِّنا فاطمة عليها السّلام..». إلى آخر الحديث.
**
هذه هي الآيات التي استدلّ بها الأئمّة عليهم السّلام حول انتسابِهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله عن طريق السّيّدة فاطمة الزّهراء، وأمّا الأحاديث التي تُصرِّحُ بهذا المعنى فكثيرةٌ جدّاً، ونكتفي هنا بما يلي:
1 - الخطيب البغداديّ في (تاريخ بغداد: ج 1، ص 316).
«عن ابن عبّاس قال: كنتُ أنا وأبي: العبّاس بن عبد المطّلب جالِسين عند رسول الله صلّى الله عليه وآله، إذْ دخلَ عليُّ بنُ أبي طالب فسلّمَ، فردَّ عليه رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وبشَّ به، فقال العبّاس: يا رسولَ الله، أَتُحِبُّ هذا؟ فقال النّبيّ صلّى الله عليه وآله: يا عمَّ رسولِ الله! واللهِ، اللهُ أشدُّ حُبَّاً له منّي، إنَّ اللهَ جعلَ ذرّيّةَ كلِّ نبيٍّ في صُلبِه، وجعلَ ذرّيّتي في صُلبِ هذا». ورواه الخوارزميّ في (المناقب: ص 229).
2- عن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: إنَّ اللهَ عزّ وجلّ جعلَ ذرّيّةَ كلِّ نبيٍّ في صُلْبِهِ، وجعلَ ذرّيّتي في صُلبِ عَلِيّ».
ورواه محبّ الدّين الطّبريّ في (ذخائر العُقبى). والحَموينيّ في (فرائد السِّمطَين). والذّهبيّ في (ميزان الاعتدال). وابن حجر في (الصّواعق المحرقة: ص 74). والمتّقي الهنديّ في (منتخَب كنز العمّال). والزّرقانيّ في (شرح المواهب اللّدنيّة). والقندوزيّ في (ينابيع المودّة: ص 183).
3- وذكر النّسائيّ في كتاب (خصائص أمير المؤمنين) عن محمّد بن أسامة بن زيد، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «أمّا أنتَ يا عليّ، فَخَتَنِي [خَتَنُ الرَّجُل: المتزوّجُ بابنتِه] وأبو وُلدي، وأنتَ منّي وأنا منك».
4- وروى أيضاً عن أسامة قال: «طرقتُ بابَ رسول الله صلّى الله عليه وآله ليلةً لبعضِ الحاجة، فخرجَ وهو مشتَمِلٌ على شيءٍ لا أدري ما هو؟ فلمّا فرغتُ من حاجتي قلتُ: ما هذا الذي أنتَ مُشْتَمِلٌ عليه؟ فكشفَه فإذا هو الحسنُ والحسين على وِرْكَيْه، فقال: هذان ابناي، وابنا بنتي، أللّهمّ إنّك تعلمُ أنّي أُحِبُّهما فَأَحِبَّهما».
والأحاديث التي تصرِّحُ بأنّ الحسنَ والحسين عليهما السّلام كانا ابنَي رسول الله صلّى الله عليه وآله كثيرةٌ جدّاً.
( 4 )
الطّاهِرَة
من جملة أسمائها عليها السّلام: «الطّاهرة»، وأحسنُ ما نبحثُ فيه حول هذا الموضوع، آية التّطهير، وهي قولُه تعالى: ﴿..إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ الأحزاب:33. إنّ هذه الآية الكريمة تعتبَر في طليعة الآيات ذات الأهميّة الكبرى، وذلك لعِظَم معناها ومغزاها، لأنّها منبعُ فضائل أهل البيت النّبويّ لاشتمالها على أمورٍ عظيمة، وقد كَثُرت الأقوال، وجالت الأقلام حول هذه الآية.
ولعلّ من الصّحيح أن نقول: إنّ آية التّطهير معترَكُ الآراء المتضاربة والأقوال المختلفة، وخاصّةً حول كلمة: (أهل البيت) والمقصود منهم، ومدى شمول هذه الكلمة.
والأمرُ الذي لا شكّ فيه أنّ آيةَ التّطهير تشملُ الصّدِّيقة الطّاهرة فاطمةَ الزّهراء عليها السّلام قطعاً، وبإجماع المُفسِّرين والمُحدِّثين من الشّيعة والسُّنَّة، إلّا من شذَّ وندَر.
إذ أنّ جميع الأحاديث الواردة حولَ نزول هذه الآية متّفقةٌ على شمولها لعليٍّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السّلام، بالقَدَر المُتَيَقَّن.
وإنْ كان هناك قولٌ يُشعِرُ بشمولِها لزوجاتِ النّبيّ صلّى الله عليه وآله اعتماداً على ظاهر لفظ (أهل البيت)، أو سياق الآية التي سبقَتْها ولَحِقَتْها خطاباتٌ لزَوجاتِ النّبيّ، فإنّ جميعَ الأحاديث تصرِّحُ بأنّ النّبيّ لم يسمح حتّى لزوجتِه السّيّدة أُمّ سلَمة أن تدخلَ تحت الكساء، قبل نزول آية التّطهير. ".."
( 5 )
الزّكِيّة
الزّكاة: النّموّ والزّيادة، وقد ذكرنا اليسيرَ ممّا يتعلّق بهذا الموضوع حول اسمِها عليها السّلام: «المباركة».
( 6 )
الرّاضِيَة
الرّضا بما قدَّر اللهُ تعالى لعبده يُعتبَر من أعلى درجات الإيمان بالله عزّ وجلّ، وقد رَضِيَت السّيّدة فاطمة الزّهراء عليها السّلام بما قُدِّر لها من مرارة الحياة، [من] ".." المصائب والنّوائب التي انصبّتْ عليها منذ نعومة أظفارها إلى أن فارقت الحياة في عنفوان شبابِها، وهي في جميع تلك المراحل راضيةٌ بما كتبَ اللهُ لها من خوف واضطهاد وحِرمان وفقر وأحزان وهموم وغموم ومآسٍ وآلام، ويجدرُ بها أن يشملَها قولُه تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ الفجر:27-28، لأنّها راضيةٌ بثواب الله، راضيةٌ عن الله بما أعدَّ اللهُ لها، راضيةٌ بقضاء الله في الدّنيا حتّى رَضِيَ اللهُ عنها.
( 7 )
المَرْضِيّة
درجةُ المَرْضِيّين عند الله تعالى درجةٌ عالية، ومنزلةٌ ساميةٌ، فهناك القليل من عبادِ الله الذين رَضِيَ اللهُ عنهم فكانوا مَرْضِيّين عندَ الله تعالى بسببِ اعتدالِهم واستقامتِهم. ومن جملة الذين فازوا بتلك المنزلةِ الرّفيعةِ، والدّرجةِ الرّاقيةِ، سيّدتُنا فاطمة الزّهراء عليها السّلام، فإنّ اللهَ تعالى قد رَضِيَ عنها، فكانت مرضيّةً عندَ اللهِ عزّ وجلّ. مرضيّةً أعمالُها التي عَمِلَتْها. مرضيَّةً، رَضِيَ عنها ربُّها، بما عملتْ من طاعتِه.
( 8 )
المُحَدَّثَة
قبل كلِّ شيء ينبغي أن نعلم: هل تتحدّثُ الملائكةُ مع غير النّبيّ؟ وهل يَراهم غيرُ النّبيّ؟ أو يسمعُ أصواتَهم؟
للإجابة على هذه الأسئلة نراجعُ القرآنَ الكريم للتَّحقُّق من الجواب الصّحيح:
1 - قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ آل عمران:42-43.
إنّ صريحَ هذه الآية أنّ الملائكةَ خاطبتْ مريمَ عليها السلام بما مرَّ عليك من كلمات الثّناء والأوامر الإلهيّة، وباليقين أنّها كانت تسمعُ نداءَهم وتفهمُ خطابَهم، وإلّا فما فائدةُ هذا الخطاب؟
2 - ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾ مريم:16-21.
لقد أجمعَ المُفسِّرون أنّ المقصودَ من (روحنا) هو جبرئيل، تمثّلَ لها بصورةِ آدميٍّ صحيحٍ، وجرى بينَهما الكلامُ والحوار.
3 - ﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ﴾ هود:71-73.
إنّ هذه الآيات تتعلّقُ بمَجيء الملائكة إلى دار إبراهيم الخليل عليه السّلام لتُبشِّرَه بالولد، وكانت زوجتُه سارة تخدمُ وتحملُ الطّعامَ إليهم ظنّاً منها أنّهم ضيوف، فلقد تكلّمت مع الملائكة، وخاطبَتْها الملائكةُ بما مرَّ عليك من الآيات.
4 - ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ..﴾ القصص:7. وقد ذكر المفسِّرون معنى (أوحينا) أي ألهَمنا، وقذَفنا في قلبِها، وعلى قول: إنّها نُوديت بهذا الخطاب.
وقد ذكر المنّاويّ في (شرح الجامع الصّغير: ج 2، ص 270) عن القرطبيّ قال: «(محدَّثون)، بفتح الدّال اسمُ مفعول، جمعُ محدَّث أي مُلهَم، أو صادق الظّنّ، وهو مَن أُلقي في نفسِه شيءٌ على وجه الإلهامِ والمكاشفةِ من الملإ الأعلى، أو مَن يجري الصّوابُ على لسانِه بلا قصد، أو تُكلِّمُه الملائكةُ بلا نبوّة، أو مَن إذا رأى رأْياً أو ظنَّ ظنّاً أصابَ كأنّه حُدِّثَ به وأُلقِيَ في رَوْعِه من عالم المَلَكُوت، فيظهر على نحو ما وقعَ له، وهذه كرامةٌ يُكرِمُ اللهُ بها مَن يشاءُ من صالحي عبادِه، وهذه منزلةٌ جليلةٌ من منازل الأولياء».
أقول: بعد هذه المقدّمات سوف لا يصعبُ عليكَ أن تعرفَ أنّ السّيّدة فاطمة الزّهراء عليها السلام كانت محدَّثة، إذ ليست سيّدةُ نساء العالَمين وبنتُ سيّد الأنبياء والمرسلين بأقلّ شأناً من مريم بنت عمران، أو سارة زوجة إبراهيم، أو أُمّ موسى، وليس معنى ذلك أنّ مريم أو سارة أو أُمّ موسى كنَّ من الأنبياء، وهكذا ليس معنى ذلك أنّ السّيّدة فاطمة الزّهراء عليها السّلام كانت نبيّةً.
وقد روى الشّيخُ الصّدوق في (عِلل الشّرائع) عن زيد بن عليّ، قال: «سمعتُ أنّ أبا عبد الله (الصّادق) يقول: إنَّما سُمِّيَت فاطمةُ محدَّثةً [بفتح الدّال] لأنّ الملائكةَ كانت تهبطُ من السّماء فتُناديها كما تُنادي مريمَ بنت عمران، فتقولُ الملائكة: يا فاطمة، إنّ اللهَ اصطَفاكِ وطهَّرَكِ واصطَفاكِ على نساء العالَمين».
( 9 )
الزّهرَاء
في العاشر من (البحار)، عن (أمالي) الصّدوق عليه الرّحمة، عن ابن عبّاس: «قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: وأمّا ابنَتي فاطمة، فإنّها سيّدةُ نساء العالَمينَ من الأوّلينَ والآخرين، وهي بضعةٌ منّي، وهي نورُ عيني، وهي ثمرَةُ فؤادي، وهي روحي التي بينَ جَنْبَيَّ، وهي الحوراءُ الإنسيّة، مَتى قامتْ في محرابِها بين يدَي ربِّها جلّ جلالُه زهرَ نورُها لملائكةِ السّماوات كما يزهرُ نورُ الكواكبِ لأهلِ الأرض..».
وبهذا الحديث اتّضحَ لنا سببُ تسميَتِها عليها السّلام الزّهراء، وهناك أحاديثُ أُخَرَ بهذا المضمون، وفي ما ذكرنا كفاية.
ولسَيّدتنا فاطمة الزّهراء عليها السّلام أسماءٌ غيرُ التي مرّت عليك، وكلُّ اسمٍ يدلُّ على فضيلةٍ ومَزِيّةٍ امتازتْ بها ".." عليها الصّلاةُ والسّلام.
______________________
* (فاطمة الزّهراء من المهد إلى اللّحد للعلّامة السّيّد محمّد كاظم القزوينيّ، رحمه الله، باختصارٍ وتصرّفٍ يسير).
0
أيـــــــــــــــــــــــــن الرَّجبيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــون؟ يستحب في شهر رجب قراءة سورة التوحيد عشرة آلا مرة..
يدعوكم المركز الإسلامي- حسينية الصديقة الكبرى عليها السلام للمشاركة في مجالس ليالي شهر رمضان لعام 1433 هجرية. تبدأ المجالس الساعة التاسعة والنصف مساء ولمدة ساعة ونصف. وفي ليالي الإحياء يستمر المجلس إلى قريب الفجر. نلتمس دعوات المؤمنين.