معالم فلسفة جديدة في كتابات الصدر

معالم فلسفة جديدة في كتابات الصدر

منذ 0 ساعات

مدرسة الشهيد الصدر


ما تزال الإنجازات الفكريّة الرائدة لشهيد الإسلام المرجع الديني الراحل السيد محمد باقر الصدر قدّس سرّه، محور أبحاث المتعمّقين في الشأن الفلسفي، والفكر التخصّصي عموماً. ويلاحظ أن حركة التأليف في فكر الشهيد تتخذ منحىً تصاعديّاًً يؤسّس لتظهير معالم «مدرسة الشهيد الصدر» التي تمسّ الحاجة إليها في هذا العصر، والعالَم على أبواب استجابة نوعيّة للفكر الإسلامي. 
من الدراسات اللافتة والواعدة حول فكر الشهيد، ما كتبه الدكتور محمّد عبد اللاوي، من جامعة وهران - الجزائر، تحت عنوان: (فلسفة الصدر):
دراسات في المدرسة الفكريّة للإمام الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر ـ طاب ثراه.
وقد اختارت «شعائر» أن تقدّم للقرّاء الكرام، مقتطفاً من هذا الكتاب القيّم.

هل يُمكن القول بوجود فلسفة إسلاميّة معاصرة؟
ما هي المبرّرات المنهجيّة والمفهوميّة التي تسمح بوجود فلسفة إسلاميّة معاصرة؟
إنّ الفكر الإسلامي يسعى إلى تغيير المجتمع، وإعادة بناء الأمّة الإسلاميّة، فهل يقتضي هذا العمل من الفكر الإسلاميّ أن تتمّ مقاربتُه للواقع من خلال مفاهيم فلسفيّة؟
لقد حاول الفكر الإسلاميّ ابتداءً من القرن التاسع عشر، وعن طريق نقد فكر عهد الانحطاط، أن يتكيّف مع متطلّبات المرحلة التاريخيّة الجديدة، فالمفكّرون المسلمون قد استخدموا بعض المفاهيم في مجابهتهم للفكر الغربيّ الجديد، (الردّ على الدهريّين للسيّد جمال الدين، ورسالة التوحيد لمحمّد عبده).

الطرح الجزئيّ للفكر الإسلاميّ

غير أنّ الفكر الإسلاميّ ما زال إلى يومنا هذا في بداية الطرح الفلسفيّ للقضايا. الفكر الإسلاميّ لم يتحرّر بعد تحرّراً كليّاً من الطرح الجزئيّ للقضايا. لا شكّ في أنّ رجال الإصلاح حاولوا منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر أن يستوعبوا أسباب وعوامل تقدّم الغرب، وأن يكشفوا عن الوسائل التي تمكِّن العالم الإسلاميّ من اللّحاق بالحضارة الغربيّة. غير أنّ الفكر الإسلاميّ في تلك المرحلة بقي فكراً دون مستوى التحدّيات، بسبب غياب الأدوات الفلسفيّة. لقد أعطى رجال الإصلاح الثقة للشعوب الإسلاميّة عندما عرّفوهم بتراثهم العريق، لكن لا وجود وراء هذا الموقف العاطفيّ تجاه تاريخ الأمّة لأيّة رؤية اجتماعيّة وسياسيّة. فرجال الإصلاح وكثير من المفكّرين المسلمين إلى يومنا هذا، لم يعيدوا صياغة الفكر الإسلاميّ حسب متطلّبات العصر.

الطرح الفلسفي

لقد كان الفكر الإسلاميّ متمحوراً حول الفقه (فقه الفروع) وعلم الكلام، ولم ينفتح على الطرح الفلسفيّ للقضايا إلّا ابتداءً من السيّد جمال الدين، غير أنّ هذا الانفتاح على البُعد الفلسفيّ كان محتشماً وضمنيّاً، ولم يصبح مباشراً إلّا على يد محمّد إقبال والإمام الخمينيّ قدّس الله روحه، ولم يتّخذ صورته الفلسفيّة الواضحة والمكتملة إلّا على يد السيّد محمّد باقر الصدر.

موقف نقدي لا توفيقي

إنّ الطرح الفلسفي للقضايا عند السيد الصدر هو طرح يعتمد على النقد في الأساس، وهذا يختلف تماماً عن النزعة التوفيقيّة، كما تجلّت في الفلسفة الإسلاميّة قديماً، وكما تتجلّى في الاتجاه المحدث (في العالم الإسلامي) الذي حاول أصحابُه أن يوفّقوا بين الماركسيّة والإسلام، كما حاولوا أن يصيغوا فلسفة وجودية عربيّة (عبد الرحمن بدوي). فالصدر حدّد الإطار المنهجيّ والمعرفيّ لفلسفة إسلاميّة معاصرة حسب متطلّبات المفاهيم الإسلاميّة، كالتوحيد والبعث وخلافة الإنسان. وقد طرح الصدر، انطلاقاً من هذه المفاهيم، مسألة علاقة الفلسفة بالتاريخ وبالمجتمع، ومشكلة الميتافيزيقيا ونقد العقل، كما طرح في هذا السياق مسألة العلوم الإنسانيّة في العالم الإسلامي.
لقد فتح السيد محمد باقر الصدر أُفقاً جديداً للبحث في ميدان الفلسفة خارج الرؤية الغربيّة، وهذا عكس الاتجاه المُحدث الذي استخدم مفاهيم الفلسفة الغربيّة في دراسته للتراث ولتاريخ الأمّة الإسلاميّة، كما يتجلّى ذلك عند كلّ من الطيّب تيزيني، والجابري، وعلي أُمليل، وعبد الله العروي، وفؤاد زكريا، وعبد الرحمن بدوي. فهؤلاء المفكّرون لجأوا إلى مذاهب الفلسفة الغربيّة والماركسيّة والوجوديّة والبنيويّة في دراستهم للفلسفة الإسلاميّة، ودراستهم لتاريخ الأمّة الثقافي والسياسي.

الصدر والغزالي وابن رشد

لقد أعاد الشهيد الصدر صياغه الفكر الإسلامي صياغة فلسفيّة جديدة في أفقٍ نقدي، أقوى من فلسفه كلٍّ من الغزالي وابن رشد. لا شكّ أنّ الصدر قد صاغ المفاهيم حسب متطلّبات الشروط الجديدة للعقلانيّة. فهو كان واعياً بعمق بأنّه لا يُمكن اليوم استخدام مفاهيم مثل العقل والنقل والاجتهاد والانحطاط والتقدّم والأمّة والقوميّة خارج الإطار الفلسفي، فلا يُمكن صياغة حلول للمشاكل السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة للأمّة بدون اجتهاد مُفلسف، ولا يمكن اتّخاذ موقف نقدي من تيّارات الفكر الغربيّ بدون فلسفة.
من إقبال الى الصدر
على الرغم من محاولة الفكر الإسلامي الانفتاح على ثقافة العصر منذ القرن التاسع عشر إلّا أن المفكّرين المسلمين لم يبدأوا في استيعاب الفلسفة الغربية المعاصرة إلا ابتداءً من محمّد إقبال. فالفكر الإسلاميّ ما زال لدى كثير من ممثليه يتّخذ موقفاً اندفاعيّاً وانفعاليّاً تجاه الفلسفة الغربيّة، فلم يحاول الفكر الإسلاميّ اتخاذ موقف من فلسفة كلٍّ من كانط (Kant) وهيغل    (Hegel) وماركس (Marx) ونيتشه (Nietzsche) وبرغسون (Bergsen) إلّا ابتداءً من محمّد إقبال. وهكذا فالفكر الإسلاميّ ما زال إلى يومنا يتجاهل أو يتغافل عن اتجاهات ومذاهب الفلسفة الغربيّة. ويرجع الفضل إلى السيد الصدر في طرحه لمشكلة العلاقة بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي طرحاً علميّاً وفلسفيّاً، بعيداً عن العاطفة العفويّة والانفعال، أو التبعيّة والتقليد. فهو قد حلّل فلسفة كلٍّ من كانط وهيغل وماركس وغيرهم تحليلاً نقديّاً في الشكل والمضمون، فهو لم يكتفِ بنقد محتوى مذاهب هؤلاء الفلاسفة على غرار ما فعله الغزالي في موقفه من الفلسفة اليونانيّة، حيث إنّه انتقد المضمون، ولكنّه تبنّى منهج هذه الفلسفة (المنطق الأرسطيّ).
يجدر القول إنّ نقد الصدر للفلسفة الغربيّة هو نقد جذري شمل مضمون هذه الفلسفة، كما شمل منهجها الذي ارتكزت عليه، فهو قرأ الفلسفة الغربيّة قراءة إسلاميّة، وحلّل فلسفة كلّ من هيغل وكانط وماركس من خلال معايير ومفاهيم الثقافة الإسلاميّة.
وهكذا يرى الصدر أنّه إذا كانت مقولة التوفيق بين الدين والعقل -على طريقة الفلاسفة المسلمين- تختزل كلّاً من الدين والعقل، فإنّ اخضاع العقل لمتطلّبات الدين يفتح أمام العقل إمكانيّات لا نهاية لها. وهو هنا يختلف مع كانط، الذي يجعل نسبيّة العقل نسبيّة محدودة بحدود الظواهر المحسوسة، ولا تتجاوزها إلى ما وراء الظواهر، في حين أنّ ربط العقل بالدين تنشأ عنه عقلانيّة نسبيّة منفتحة على الحركة وعلى التجاوز: تجاوز عجز العقل ونسبيّته بصورة مستمرّة.

كبوة كانط ونهضة الصدر

إنّ التطلّع إلى المطلق هو تعبير عن فطرة الإنسان وخلافته، لذلك يرى السيد الصدر أنّ هذا التطلّع هو عنصر معرفيّ له أهميّة كبرى في المجال الميتافيزيقيّ، حيث إنّ هذا التطلّع هو الذي يجعل العقل قادراً على تجاوز نفسه. فالعقل، من هذا المنظور، هو امتداد للبُعد الغيبي في الإنسان، وليس الأمر كذلك في فلسفة كانط، التي تجعل العقل حبيس المعطيات الحسيّة.
والواقع أنّ كانط لم يستطع تجاوز التناقض الذي طرحته فلسفته، حيث أنّه يرى أنّ العقل لا يستطيع أن يغوص في المجال الميتافيزيقي. فمبادئ العقل تتعدّد وظيفتها المعرفيّة بحدود الظواهر المحسوسة، ويرى في الوقت نفسه أنّ الإنسان يستطيع أن يصل إلى الميتافيزيقيا عن طريق الأخلاق، فالقول بعجز العقل ينفي -في الحقيقة- كلّ إمكانيّة، ما عدا الإمكانيّات المعرفيّة الأخرى كالقلب أو الحدس مثلاً، مع العلم بأنّ كانط لا يؤمن إلّا بالعقل كأداة معرفيّة.

العقلانيّة والفلسفة

في المقابل، فإنّ موقف الشهيد الصدر لا تناقض فيه، لأنّ نسبيّة العقل عنده ليست نسبيّة تحديد وعجز، بل هي نسبيّة الانفتاح على الحركة وعلى التجاوز (تجاوز العجز)، لذلك فهي تؤهّل العقل للقيام بنشاطه المعرفيّ في المجال الميتافيزيقي.
لقد كان الصدر واعياً بأنّ المشاكل والتحدّيات، التي تطرحها الفلسفة الغربيّة على الفكر الإسلاميّ، لا يمكن التغلّب عليها بمجرّد تفسير الإسلام وتأويله تأويلاً عقليّاً على غرار الفلسفة الإسلاميّة. ولا بدّ من القول أنّ نقده لعقلانيّة الفلسفة الإسلاميّة ولعقلانيّة الفلسفة الغربيّة تمَّ من موقع عقلانيّة نوعيّة، تستمدّ وجودها من ربط العقل بمتطلّبات الدين. فالعقلانيّة تتحدّد في إطارعلاقتها بالغيب، وبما أنّ الغيب يتجاوز العقل مهما كانت مفاهيمه وتصوّراته، فإنّها، كما تتجلّى في فلسفة الصدر، هي عقلانيّة تستمدّ قوّتها من نسبيّتها ومن تواضعها أمام الغيب.
لذلك يمكن القول: بأنّ فلسفة الصدر يتحدّد موقعها خارج الصراع بين الواقعيّة والمثاليّة. فالغيب يتطلّب البيان، أي يتطلّب الدين الذي يساعد الإنسان في تطلّعه نحو المطلق، هذا التطلّع لا ينفي العقل، وحجيّة العقل ثابتة شرعاً ولكن لها حدودها في الميدان الميتافيزيقيّ. إنّ قوّة عقلانيّة الفلسفة الصدريّة تكمن في وعيها وعياً تعبّدياً بنسبيّتها أمام إطلاقيّة الدين. هذه الفلسفة تتحدّد معالمها في تحديد العلاقة بين التساؤلات الميتافيزيقيّة والأجوبة الدينيّة. فالصدر حاول في كلّ كتاباته، وحتى في (الأسس المنطقيّة للاستقراء)، الذي اعتمد فيه على المنهج التجريبيّ، حاول أن يبيّن عن طريق التحليل الفلسفيّ والعمليّ، قدرة الإنسان على تقبّل الغيب وتجاوز نسبيّة عقله.

نسبيّة العقل

لا شكّ في أنّ فكرة نسبيّة العقل لم تحلَّل من طرف الفكر الإسلاميّ المعاصر من منظور فلسفي، فأكثر المفكّرين أكّدوا على نسبيّة العقل، ليبرهنوا على إطلاقيّة الإسلام. ومن هنا، فأكثر المفكّرين المسلمين تهرَّبوا من طرح المشكلة الفلسفيّة لعلاقة العقل بما يفوقه، فلجأوا إلى مفهوم الغيب لجوءاً تبريريّاًً، بدلاً من التحليل الفلسفي لعلاقة العقل بالغيب. ويرجع الفضل إلى الشهيد السيد محمد باقر الصدر في تحليل العقل تحليلاً فلسفيّاً، انتهى إلى نقد العقل ونقد نظريّة المعرفة، كما تتجلّى في مذاهب الفلسفة الغربيّة.


اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

04/04/2011

  إصدارت

إصدارت

  إصدارات

إصدارات

نفحات