شرحُ خطبةٍ لأمير
المؤمنين عليه السلام في
التّحذير من الدّنيا
النّظر
بها، بدلاً من النّظر إليها
ـــــ ابن ميثم
البحرانيّ ـــــ
«حُفَّت
الجنّةُ بالمكاره، وحُفَّت النَّارُ بالشَّهوات». قال أصحابُ المعاني: «وفي
ذلك تنبيهٌ على أنّ النّار هي الدُّنيا، ومحبّتُها بعد المفارقة هو سببُ عذابِها..».
أوردَ
هذه الخطبة الشّيخ كمال الدّين ميثم بن عليّ بن ميثم البحرانيّ (ت:
679 للهجرة) في الجزء الثّالث من شرحه على (نهج
البلاغة)، فشرحَ مفرداتها ثمّ استخلص منها اثني عشر درساً..
ومن
خطبةٍ له عليه السّلام:
أَمَّا
بَعْدُ، فَإِنِّي أُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، حُفَّتْ
بِالشَّهَوَاتِ وتَحَبَّبَتْ بِالْعَاجِلَةِ، ورَاقَتْ بِالْقَلِيلِ وتَحَلَّتْ
بِالآمَالِ، وتَزَيَّنَتْ بِالْغُرُورِ، لَا تَدُومُ حَبْرَتُهَا، ولَا تُؤْمَنُ
فَجْعَتُهَا، غَرَّارَةٌ ضَرَّارَةٌ حَائِلَةٌ زَائِلَةٌ، نَافِدَةٌ بَائِدَةٌ
أَكَّالَةٌ غَوَّالَةٌ. لَا تَعْدُو - إِذَا تَنَاهَتْ إِلَى أُمْنِيَّةِ أَهْلِ
الرَّغْبَةِ فِيهَا والرِّضَاءِ بِهَا - أَنْ تَكُونَ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى
سُبْحَانَهُ: ﴿..كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ
الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ مُقْتَدِرًا﴾ الكهف:45.
لَمْ يَكُنِ امْرُؤٌ مِنْهَا فِي حَبْرَةٍ إِلَّا أَعْقَبَتْهُ بَعْدَهَا عَبْرَةً،
ولَمْ يَلْقَ فِي سَرَّائِهَا بَطْناً إِلَّا مَنَحَتْهُ مِنْ ضَرَّائِهَا ظَهْراً،
ولَمْ تَطُلَّهُ فِيهَا دِيمَةُ رَخَاءٍ إِلَّا هَتَنَتْ عَلَيْهِ مُزْنَةُ
بَلَاءٍ، وحَرِيٌّ إِذَا أَصْبَحَتْ لَهُ مُنْتَصِرَةً أَنْ تُمْسِيَ لَهُ
مُتَنَكِّرَةً، وإِنْ جَانِبٌ مِنْهَا اعْذَوْذَبَ واحْلَوْلَى أَمَرَّ مِنْهَا
جَانِبٌ فَأَوْبَى. لَا يَنَالُ امْرُؤٌ مِنْ غَضَارَتِهَا رَغَباً إِلَّا
أَرْهَقَتْهُ مِنْ نَوَائِبِهَا تَعَباً، ولَا يُمْسِي مِنْهَا فِي جَنَاحِ أَمْنٍ
إِلَّا أَصْبَحَ عَلَى قَوَادِمِ خَوْفٍ. غَرَّارَةٌ غُرُورٌ مَا فِيهَا، فَانِيَةٌ
فَانٍ مَنْ عَلَيْهَا. لَا خَيْرَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَزْوَادِهَا إِلَّا التَّقْوَى،
مَنْ أَقَلَّ مِنْهَا اسْتَكْثَرَ مِمَّا يُؤْمِنُهُ، ومَنِ اسْتَكْثَرَ مِنْهَا
اسْتَكْثَرَ مِمَّا يُوبِقُهُ، وزَالَ عَمَّا قَلِيلٍ عَنْهُ. كَمْ مِنْ وَاثِقٍ
بِهَا قَدْ فَجَعَتْهُ، وذِي طُمَأْنِينَةٍ إِلَيْهَا قَدْ صَرَعَتْهُ، وذِي
أُبَّهَةٍ قَدْ جَعَلَتْهُ حَقِيراً، وذِي نَخْوَةٍ قَدْ رَدَّتْهُ ذَلِيلًا. سُلْطَانُهَا
دُوَّلٌ وعَيْشُهَا رَنِقٌ، وعَذْبُهَا أُجَاجٌ وحُلْوُهَا صَبِرٌ، وغِذَاؤُهَا
سِمَامٌ وأَسْبَابُهَا رِمَامٌ. حَيُّهَا بِعَرَضِ مَوْتٍ، وصَحِيحُهَا بِعَرَضِ
سُقْمٍ. مُلْكُهَا مَسْلُوبٌ، وعَزِيزُهَا مَغْلُوبٌ، ومَوْفُورُهَا مَنْكُوبٌ، وجَارُهَا
مَحْرُوبٌ. أَلَسْتُمْ فِي مَسَاكِنِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَطْوَلَ أَعْمَاراً، وأَبْقَى
آثَاراً وأَبْعَدَ آمَالًا، وأَعَدَّ عَدِيداً وأَكْثَفَ جُنُوداً؟ تَعَبَّدُوا
لِلدُّنْيَا أَيَّ تَعَبُّدٍ، وآثَرُوهَا أَيَّ إِيْثَارٍ، ثُمَّ ظَعَنُوا عَنْهَا
بِغَيْرِ زَادٍ مُبَلِّغٍ، ولَا ظَهْرٍ قَاطِعٍ، فَهَلْ بَلَغَكُمْ أَنَّ
الدُّنْيَا سَخَتْ لَهُمْ نَفْساً بِفِدْيَةٍ، أَوْ أَعَانَتْهُمْ بِمَعُونَةٍ، أَوْ
أَحْسَنَتْ لَهُمْ صُحْبَةً؟ بَلْ أَرْهَقَتْهُمْ بِالْقَوَادِحِ، وأَوْهَنَتْهُمْ
بِالْقَوَارِعِ، وضَعْضَعَتْهُمْ بِالنَّوَائِبِ، وعَفَّرَتْهُمْ لِلْمَنَاخِرِ
ووَطِئَتْهُمْ بِالْمَنَاسِمِ، وأَعَانَتْ عَلَيْهِمْ رَيْبَ الْمَنُونِ. فَقَدْ رَأَيْتُمْ
تَنَكُّرَهَا لِمَنْ دَانَ لَهَا، وآثَرَهَا وأَخْلَدَ لَهَا، حَتَّى ظَعَنُوا
عَنْهَا لِفِرَاقِ الأَبَدِ. وهَلْ زَوَّدَتْهُمْ إِلَّا السَّغَبَ، أَوْ
أَحَلَّتْهُمْ إِلَّا الضَّنْكَ، أَوْ نَوَّرَتْ لَهُمْ إِلَّا الظُّلْمَةَ، أَوْ
أَعْقَبَتْهُمْ إِلَّا النَّدَامَةَ، أَفَهَذِهِ تُؤْثِرُونَ أَمْ إِلَيْهَا تَطْمَئِنُّونَ،
أَمْ عَلَيْهَا تَحْرِصُونَ؟ فَبِئْسَتِ الدَّارُ لِمَنْ لَمْ يَتَّهِمْهَا، ولَمْ
يَكُنْ فِيهَا عَلَى وَجَلٍ مِنْهَا، فَاعْلَمُوا وأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
بِأَنَّكُمْ تَارِكُوهَا وظَاعِنُونَ عَنْهَا، واتَّعِظُوا فِيهَا بِالَّذِينَ
قَالُوا: ﴿..مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً..﴾ فصّلت:15،
حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ، فَلَا يُدْعَوْنَ رُكْبَاناً، وأُنْزِلُوا
الأَجْدَاثَ فَلَا يُدْعَوْنَ ضِيفَاناً، وجُعِلَ لَهُمْ مِنَ الصَّفِيحِ
أَجْنَانٌ، ومِنَ التُّرَابِ أَكْفَانٌ، ومِنَ الرُّفَاتِ جِيرَانٌ، فَهُمْ
جِيرَةٌ لَا يُجِيبُونَ دَاعِياً، ولَا يَمْنَعُونَ ضَيْماً ولَا يُبَالُونَ
مَنْدَبَةً، إِنْ جِيدُوا لَمْ يَفْرَحُوا، وإِنْ قُحِطُوا لَمْ يَقْنَطُوا، جَمِيعٌ
وهُمْ آحَادٌ وجِيرَةٌ وهُمْ أَبْعَادٌ، مُتَدَانُونَ لَا يَتَزَاوَرُونَ، وقَرِيبُونَ
لَا يَتَقَارَبُونَ، حُلَمَاءُ قَدْ ذَهَبَتْ أَضْغَانُهُمْ، وجُهَلَاءُ قَدْ
مَاتَتْ أَحْقَادُهُمْ، لَا يُخْشَى فَجْعُهُمْ، ولَا يُرْجَى دَفْعُهُمْ، اسْتَبْدَلُوا
بِظَهْرِ الأَرْضِ بَطْناً، وبِالسَّعَةِ ضِيقاً وبِالأَهْلِ غُرْبَةً، وبِالنُّورِ
ظُلْمَةً. فَجَاءُوهَا كَمَا فَارَقُوهَا، حُفَاةً عُرَاةً، قَدْ ظَعَنُوا عَنْهَا
بِأَعْمَالِهِمْ إِلَى الْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ والدَّارِ الْبَاقِيَةِ كَمَا
قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿..كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا
إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ الأنبياء:104.
***
أقول:
الحَبْرة: السُّرور. والفَجْعَة: الرّزيّة. وغوّالة: أي تأخذُ
على غرّة.
وأَوْبَى:
أَمْرَضَ. والغَضارة: طِيبُ العَيش. وقَوادِمُ الطَّير: مقاديمُ ريشِ
جناحِه. وأَوْبَقَه: أَهْلَكَه. والأُبَّهَة: العَظَمَة. ورَنِق:
كَدر. ورِمَام: بالِيَة مُنقطعة. والمَحْروب: مسلوبُ المال. وأَرْهَقَتْهُم:
غَشيَتهم. وفَدَحَهُ الأمرُ: اغتالَه وأَثْقَلَه. والقارِعةُ: الدّاهيةُ
الشّديدة. وضَعْضَعَتْهُم: أذلَّتهم. والمَناسِم: أخفافُ الإبِل. والسَّغَب:
الجوع. والأجنان: جمع جنن، جمع جُنّة وهي السِّتر.
واعلَم
أنّ مدارَ هذا الفصل على التّحذير من الدّنيا والتّنفير عنها بذكر مَعايبها، وفيه
نُكَتٌ:
فالأُولى:
استَعار لفظَ الحلاوةِ والخُضرةِ المتعلِّقَين بحسَيّ الذَّوق والبصر لِما يروقُ
النّفس منها ويلذّ، ووجهُ المشابهةِ المشاركةُ في الالتذاذ به، وإنّما خصَّ متعلّق
هذَين الحسَّين لأكثريّة تأديتِهما إلى النّفس، والالتذاذ بواسطتِهما دونَ سائر
الحواسّ.
الثّانية:
وصفَ الدّنيا بكونها محفوفةً بالشّهوات.
وفي الخبر: «حُفَّتِ الجنّةُ بالمكاره، وحُفَّت النَّارُ بالشَّهوات». قال
أصحابُ المعاني: وفي ذلك تنبيهٌ على أنّ النّار هي الدُّنيا، ومحبّتُها بعد
المفارقة هو سببُ عذابها.
قلتُ
[الشّارح ابن ميثم]: إنّ ذلك غير مفهوم
من كلامه عليه السّلام، وأمّا معنى الخبر فجازَ أنْ يُرادَ فيه النّارُ المعقولةُ
فيكون قريباً ممّا قالوا، وجاز أنّ يُراد بالنّار المحسوسةَ، ويكون المعنى على التّقديرين
أنّ النّار إنّما تُدخَلُ بالانهماك في مشتَهيات الدّنيا ولذّاتها، والخروج في
استعمالها عمّا ينبغي إلى ما لا ينبغي، فكأنّها لذلك محفوفةٌ ومحاطةٌ بالشّهوات،
لا يُدخَل إليها إلَّا منها. وأراد بالعاجلة اللّذّاتِ الحاضرةَ الَّتي مالتْ
القلوبُ إلى الحياة الدُّنيا بسببِها، فأشبَهَت المرأةَ المُتحبّبة بمالِها وجمالِها،
فاستُعير لها لفظُ التَّحبُّب، وكذلك قولُه: «راقتْ بالقَليل»: أي أعجبت
بزينتِها القليلة بالنّسبة إلى متاعِ الآخرة كمّيّةً وكيفيّةً، وكذلك تجلِّيها
بالآمال الكاذبة المنقطعة وبزينتِها، ممّا هو في نفس الأمر غرورٌ وباطلٌ، فإنّه
لولا الغرورُ والغفلةُ عن عاقبتِها لَما زانت في عيون طالبيها.
الثّالثة:
استعار لها أوصافَ المُحتالة الخَدُوع؛
وهي كونها غرّارة وغوّالة: أي كثيرةُ الاستغفال لأهلها والخِداع لهم، ووَصْفُ السّبع
العقور لكونها أكَّالةً لهم، وكنّى بالأوّلَين عن كونها كالمخادع في كَونها سبباً
لغفلتِهم عمّا خُلِقوا لأجله، بالاشتغال بها والانهماكِ في لذّاتِها، وبالأكَّالة
عن كَونها كَالسَّبُع في إفنائهم بالموت، وطَحْنِهم تحت التُّراب.
الرّابعة:
معنى قوله: لا تَعْدُو، إلى قوله [تعالى]:
مقتدراً؛ أنّ غايةَ صفائها للرّاغبين فيها والرّاضين بها وموافقتها لهم لا
يتجاوزُ المَثَل. وهو: أنْ تزهرَ في عيونهم وتروقهم محاسنُها، ثمّ عن قليلٍ تزولُ
عنهم فكأنّها لم تَكُن. كما هو معنى المثل المضروب لها في القرآن الكريم ﴿وَاضْرِبْ
لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ..﴾ الكهف:45.
الخامسة:
كنّى بالعَبْرَةِ عن الحُزنِ المعاقبِ للسُّرور، وتخصيصُه البطنَ بالسَّرّاء والظّهرَ
بالضَّرّاء، يحتملُ أمرَين:
أحدهما:
أن يريدَ بطنَ المِجَنِّ [المِجَنَ
هو التّرس] وظهرَه، وذلك من العادة في حال الحرب
أن يَلقى الإنسانُ ظهرَ المجنّ، وفي حال السِّلْم أنْ يلقى المِجَنّ فيكون بطنُه
ظاهراً. فجرى المثلُ به في حقّ المتنكِّرين والمخاصمين بعد سِلْمٍ. فقيل: قلَّبَ
له ظهرَ المِجَنّ. كما قال عليٌّ عليه السّلام لابن عبّاس في بعض كُتبِه إليه: «قلَّبتَ
لابنِ عمِّكَ ظهرَ المِجَنِّ». فكذلك استعملَ هاهنا لقاءَها للمرء ببطنِها في
إقبالها عليه، ولقاءه منها ظهراً في إدبارها عنه، ومحاربتها له.
الثّاني:
يحتمل أن يريدَ بطنَها وظهرَها؛ وذلك أنّ العادةَ في مَن يلقى صاحبَه بالبِشْرِ
والسُّرور، أن يلقاه بوجهه وبطنِه، وفي مَن يلقاه بالتَّنكير والإدبار، أن يلقى
بظهرِه مولِّياً عنه، فاستُعير ذلك للدُّنيا، وعُبِّر به عن إقبالها وإدبارها.
السّادسة:
وإنّما خصّ منها بالجناح لأنّ الجناح محلُّ التّغيُّر بسرعة، فنَبَّه به على سرعة
تغيُّراتها، وإنّما خصّ الخوفَ بالقَوادم من الجناح لأنّ القوادمَ هي رأسُ الجَناح،
وهي الأصلُ في سرعة حركتِه وتغيُّره، وهو في مساقِ ذمِّها والتّخويف منها، فَحَسُنَ
ذلك التّخصيص، ومرادُه أنّه وإنْ حصلَ فيها أمنٌ، فهو في محلِّ التغيُّر السّريع،
والخوفُ إليه أسرعُ، لتخصيصِه بالقوادم.
السّابعة:
«لَا خَيْرَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَزْوَادِها إِلَّا التَّقْوَى»: استَثنى ما
هو المقصودُ من خلقِ الدُّنيا، وأشارَ إلى وجود هذا النَّوع فيها وهو التَّقوى المُوصِلُ
إلى الله سبحانه، وإنّما كانَ من أزوادِ الدُّنيا لأنّه لا يُمكن تحصيلُه إلَّا
فيها، وقد سبقتْ الإشارةُ إليه في قوله: «فَتَزَوَّدُوا مِنَ الدُّنيا ما تُحْرِزُوْنَ
بِهِ أَنْفُسَكُم غَدَاً». وظاهرُ أنّه لا خيرَ فيها، عداه من أزوادها، لفنائه
ومضرّته في الآخرة.
الثّامنة:
«مَنْ أَقَلَّ مِنْهَا اسْتَكْثَرَ مِمَّا يُؤْمِنُه»: أي من الزُّهد فيها،
وقد عرفْتَ كيفيّةَ الأمانِ من عذاب الله. «وَمَنِ استَكثَر منها استَكثَرَ
ممّا يُوْبِقُه»: وهو مَلَكاتُ السُّوءِ الحاصلةُ عن حبِّ قَيْنَاتها
وملذّاتها الفانية، الموجِبة للهلاكِ بعد مفارقتِها وزوالِها.
التّاسعة:
استعارَ لفظَ «العذب» و«الحلو» للذّاتها؛ ولفظَي «الأجاج» -
وهو المالح – و«الصَّبِر»، لِما يشوبُ لذّاتها من الكدرِ بالأمراض والتّغيّرات،
ووجهُ الاستعارات الاشتراكُ في الالتذاذ والإيلام.
العاشرة:
استعار لفظ «الغذاء»، وكنّى به عن لذّاتها أيضاً، ولفظ «السِّمام»
له. ووجهُ الاستعارة ما يَستعقبُ الانهماكَ في لذّاتها من الهلاك في الآخرة، كما يَستعقبُه
شربُ السُّمّ، و«السّمام»: جمعُ سمّ. ثمّ أعقب التّحذير منها بالتّنبيه على مصارع
السّابقين فيها، ممَّن كان أطولَ أعماراً وأشدَّ بأساً، من تغيّراتها وتنكُّراتها
لهم، مع شدّة محبّتِهم وتعبُّدِهم لها. والسُّؤالُ على سبيل الإنكار عن دوامِ
سرورها لهم وحُسنِ صُحبتِها إيّاهم، وصرّحَ بعدَه بالإنكار بقوله: «بَلْ أَرْهَقَتْهُم
بِالقَوَادِح»، واستَعارَ لها لفظَ «الإرهاق»، و«التَّضعْضُع»،
و«التّعفير»، و«الوطء»، و«إعانة رَيبِ المَنونِ عليهم»، وأَسندَ
إليها أفعال الأحياء، ملاحظةَ تشبُّهها بالمرأة المتزيّنة لخداعِ الرّجال عن أنفسِهم
وأموالِهم ونحو ذلك.
الحادية عشر: لمّا فرغ من ذَمِّها
والتّنفير عنها بتعديد مذامّها، استَفهمَ السَّامعينَ على سبيل التَّقريعِ لهم عن
إيثارهم لها بهذه المذامّ [بعد هذا الذّمّ]،
واطمئنانِهم إليها، وحرصِهم عليها. ثمّ عاد إلى ذمِّها مُجمِلاً بقوله: «فَبِئْسَتِ
الدَّارُ لِمَنْ لَمْ يَتَّهِمْهَا»: أي لِمَن اعتَقَدَ بصُحبتِها، وأنّها
مقصودةٌ بالذّات فرَكنَ إليها، فإنّها بذلك الاعتبار مذمومةٌ في حقّه إذ كانت سببَ
هلاكِه في الآخرة. فأمّا المتَّهِم لها بالخديعةِ والغرور، فإنّه يكونُ فيها على وَجَلٍ
منها عاملاً لِمَا بعدها، فكانت محمودةً له، إذ كانت سببَ سعادتِه في الآخرة. ثمّ
شرعَ في الأمر بالعمل على وفق العلمِ بمفارقتِها، وذلك أنّ تَرْكَ العمل للآخرة
إنّما يكونُ للاشتغال بالدُّنيا؛ فالعالِمُ بضرورة مفارقتِها له، وما أُعِدَّ لِتاركي
العمل من العذاب الأليم، إذا نُبِّه على تلك الحال، كان ذلك صارفاً له عنها
ومستلزماً للعمل لغيرها، وأكَّد التّنبيهَ على مفارقتها بالتّذكُّر بأحوال المُفارقين
لها بعد مفارقتِها المضادّة للأحوال المعتادة للأحياء الَّتي ألِفوها واستراحوا
إليها. إذ كان من عادتِهم إذا حُمِلوا أن يُسَمُّوا ركباناً، وإذا نزلوا أن يُسَمُّوا
ضِيفاناً، وإذا تجاوروا أنْ يُجيبوا داعيَهُم ويمنعوا عنه الضَّيم، وأن يفرحوا إنْ
جادَهُم الغيثُ، ويَقنطوا إنْ قُحِطوا منه، وأنْ يَتزاوروا في التّداني، ويَحلموا
عند وجود الأضغان، ويَجهلوا عند قيام الأحقاد، ويخشوا ويرجوا. فسُلِبَت عنهم تلك
الصّفات وعُرِفوا بأضداد تلك السِّمات.
الثّانية عشر:
«فَجَاؤوها كَما فَارقوها»: أي أَشْبَهَ مجيئُهم إليها ووجودُهم فيها وخروجُهم
منها يومَ مفارقتِهم لها، ووجهُ الشّبه كونهم حفاةً عراةً، وهو كنايةٌ عن النّفر
منها، ودلّ على ذلك استشهادُه بالآية الكريمة.
وموضعُ
قوله: «قَدْ ظَعَنُوا عَنْهَا»: النّصبُ على الحال. كما انتصبَ «حفاةً عراةً»،
والعامل: «فارقوها». ولا يقدّر مثله بعد «جاؤوها» وإن قدّر مثل الحالَين السّابقين.
قال الإمام الوبريّ رحمة الله عليه: «فراقُهم من الدُّنيا إنْ خُلِقوا منها، ومجيئُهم
إليها إنْ دُفنوا فيها، قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ..﴾ غافر:67».
ثمّ
قلتُ: وكان الحاملُ لهذا الإمام [الوبريّ]
على هذا التّأويل أنّه لو كان مرادُه [أي مُراد الأمير
عليه السلام] مجيئُهم إليها هو دخولُهم فيها حين
الولادة، مع أنّه في ظاهرِ الأمرِ هو المشبَّه ومفارقتُهم هي المشبَّه به، لانعَكَس
الفرضُ. إذ المقصود تشبيهُ المفارقة بالمجيء، وذلك يستلزم كون المشبَّه هو
المفارقة، والمشبَّه به هو المجيء. لكن ينبغي أن يعلم أنَّ المشابهة إذا حصلت بين
الشّيئَين في نفس الأمر جاز أن يجعلَ أحدهما أصلاً والآخَر فرعاً، وجاز أن يقصدَ
أصل المساواة بينهما من دون ذلك. فحمْلُه هنا على الوجه الثّاني أَوْلى من التَّعسُّف
الَّذي ذَكَرَه [الوبريّ].
فأمّا الآية فإنّ «مِنْ» فيها لبيان الجنس، فلا تدلُّ على المفارقة والانفعال. وبالله
التوفيق.