نظرة في العوائق
محمد سبيلا
اعتبر العالم المسيحي -منذ البداية- ظهور الإسلام وانتشاره السريع في الفضاء المتوسّطي بمثابة تنافُس روحي وحضاري وإمبراطوري قويّ. وقد تنامى هذا الشعور تدريجيّاً في هذا العالم، وجاءت أحداث كبرى كسقوط القسطنطينيّة وانتشار الإسلام في آسيا وإفريقيا ثمّ في أوروبا، لتُرسّخ مشاعر التنافس والعداء، خصوصاً أنّ هذا الانتشار السريع تمّ على حساب الإمبراطوريّة المسيحيّة، وفي مواجهتها بعامّة، وفي مواجهة الإمبراطوريّة الرّومانيّة في شمالي إفريقيا على وجه الخصوص، ابتداءً من القرن الثامن الميلادي، وهو الأمر الذي أدّى إلى استقلال جنوب المتوسَّط عن الإمبراطوريّة الرومانيّة، وقد تعمّق هذا التصوّر مع فتح المسلمين لشبه الجزيرة الإيبيريّة وإقامة دولة الأندلس فيها بين سنَتَي 711 و1492 الميلاديّتين.
وبعبارةٍ أُخرى، فقد شكّل ظهور الإسلام في قلب العالم القديم حدثاً رئيساً فارقاً، أدّى إلى بروز كيان ديني، وحضاري، وإمبراطوري جديد في قلب العالم القديم، حيثُ أصبح غرب المتوسّط بحيرة إسلاميّة لم يعُد يتيسّر فيها بسهولة المرور التَّجاري والانتشار الدّيني نحو الشرق وأعماق إفريقيا، من دون المرور عبر هذه المنطقة الجديدة العازلة بين أوروبا وإفريقيا وآسيا.
وهكذا بدأت فكرة «الخطر الإسلامي» تتبلوَر في العالم المسيحي، ولعلَّها ستكون الفكرة الممهِّدة لِما سُمّيَ بحروب الفرنجة، التي اندلعت بعد نداء البابا أوربان الثاني سنة 1095م، إلى التعبئة لشنَّ الحرب دفاعاً عن الصليب، من حيثُ هي مسعى لفكِّ الحصار، ولاستعادة الأراضي و«الأماكن المقدّسة»، وطرق الحجّ إلى القُدس، والطرق التجاريّة التي استولى عليها المسلمون. وحروب الفرنجة، ربّما هي الوجه الشرقي لحروب الاسترداد Reconquistas)) التي قام بها الأسبان في غرب المتوسط.
لكنّ هذه الحروب لم تستطع إيقاف انتشار الإسلام الذي استوعب العديد من الإمبراطوريّات والحضارات الفرعيّة الفارسيّة، والتركيّة، والآسيويّة؛ بل إنّ التوسُّع الإسلامي طال أوروبا نفسها شرقاً وغرباً، إلى حدود القرن السابع عشر، حيث كانت بلغراد وبودابست محكومة من طرف الباشوات الأتراك، وحيث قامت جيوش السلطان العثماني بمحاصرة «فينّا»، بينما شنّ بعض القراصنة هجمات أو غارات على شواطئ إنكلترا، وإيرلندا، وآيسلندا كما يذكر برنارد لويس في كتابه (الإسلام في أزمة) الطبعة الفرنسيّة، 2003م. لكن ابتداءً من نهاية القرن الثامن عشر، تغيّر الوضع على المستوى الدولي العام، وبدأ العدّ العكسي السريع بالنسبة إلى العالم الإسلامي. ونقطة التحوّل الكبرى كانت –قبل ذلك- مع هزيمة الجيش التركي بعد الحصار الثاني لمدينة فينّا سنة 1683م، التي دشّنت مسلسلاً من الهزائم والتراجعات ما تزال مخاضاتها تتواصل إلى اليوم. ومن أبرز محطّاتها غزو نابليون لمصر سنة 1798، واقتطاع مصر من الدولة العثمانيّة، واحتلال الهولنديّين لأَندونيسيا سنة 1800، والفرنسيّين للجزائر سنة 1830، والبريطانيّين للسودان، ودخول جيوش الحلفاء إلى بيت المقدس سنة 1917، وإنهاء الخلافة العثمانيّة سنة 1924، واحتلال فلسطين لإنشاء «إسرائيل» سنة 1948، والعدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، والهزائم العربيّة المتلاحقة بدعم من الغرب بعامّة، وأميركا على وجه الخصوص «لإسرائيل» منذ سنة 1976، وآخرها شنّ الحرب على العراق بذرائع مختلفة. إلّا أنّ الجديد في المنعطف الجيوستراتيجي الكبير الذي حدث في الغرب الأوروبي –بالتزامن مع تراجع النفوذ الإسلامي في الغرب- هو ظهور حركة تحرُّر من المسيحيّة والتصوّر الديني لدى العديد من النُخب الفكريّة والسياسيّة في أوروبا، كما عبّرت عن ذلك الثورة الفرنسيّة التي سجّلت بداية الفصل بين الدين والسياسة، بموازاة عمليّة تقدُّم في مجال معرفة الطبيعة وازدهار العلوم التجريبيّة في الفيزياء والكيمياء والفلكيّات، وفي تطبيق الرياضيّات في كلّ العلوم، وفي ترافُق مع التوسُّع الجغرافي، واكتشاف فضاءات جديدة، واستقدام ثروات طائلة من المستعمرات، أسهمت في خلق ديناميّة اقتصاديّة وسياسيّة وعلميّة وفكريّة داخليّة.
ولعلّ مفهوم الغرب كما نتداوله اليوم، وبخاصّة في صيغته الأوروبيّة الأصليّة، هو تعبير عن الانتصار الكامل للروح المسيحيّة ضمن رؤية جديدة قوامها التوسُّع الجغرافي والتجاري، والتطوُّر العلمي والمعرفي والتقني الهائل، الذي جعل أوروبا لمدّة ثلاثة قرون تُشكَّل الطليعة الحربيّة والاقتصاديّة والفكريّة للبشريّة برُمّتها، إضافة إلى اكتسابها طابع القوّة الاستعماريّة الأولى في العالم، وهو الدور الإمبراطوري الإمبريالي الذي ستلعبه الولايات المتحدة الأميركيّة بدءاً من منتصف القرن العشرين، وراثةً وامتداداً للدور الأوروبّي، وإنْ دخل مفهوم الغرب اليوم في فترة تشقُّق تدريجي.