الاستعاذةُ بالله تعالى
اقرارٌ بالعبوديّة، ودفعٌ للشّرور
ـــــ الشّيخ محمّد عليّ الأنصاريّ ـــــ
وَرَد الأمرُ بالاستعاذة بالله سبحانه
في أكثر من موضعٍ في القرآنِ الكريم، وهي في حقيقتِها طلبُ لجوءٍ إلى الله تعالى
في مواطن متعدّدة.
مع
كتاب (الموسوعة الفقهيّة الميسَّرة) للشّيخ محمّد علي الأنصاريّ، وقفةٌ عند مفهوم الاستعاذة
وحكمة تشريعها، وأركانها، والمَواطن.
المُستفادُ
من مجموع الآيات القرآنيّة الواردة في الاستعاذة أنَّها التجاءٌ إلى الله تعالى وتَحصُّنٌ به، وتوكُّلٌ عليه. فهي من جهة،
إقرارٌ بالعبوديّة وإظهارٌ لها، لأنَّ التّوكُّلَ معيارٌ لصدقِ العبوديّة، ومن جهةٍ
أخرى يَستدفعُ العبدُ بالاستعاذة بالله شرَّ كلِّ ذي شرٍّ، ومن أعظم الشُّرور شرُّ
الشّيطان الّذي يوسوسُ في صدور النّاس. قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ
الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ
لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا
سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ النّحل:98-100.
وقد
استفادَ العلّامة السّيّد محمّد حسين الطّباطبائيّ في (تفسير الميزان) من هذه الآيات:
«أنَّ المطلوبَ هو إيجادُ حالةِ الاستعاذة في نفسِ المُستعيذ، وأنَّ التّلفُّظ
بلفظ الاستعاذة إنَّما هو سببٌ لإيجاد هذه الحالة».
أركانُ
الاستعاذة
للاستعاذةِ
أركانٌ ثلاثة:
1-
المُستعيذ: وهو الإنسان، سواء كان مكلَّفاً أو غير
مكلَّف.
2-
المُستَعاذ به: وهو اللهُ تبارك وتعالى، ولا فرقَ في
مقام اللّفظ بين أسمائه وصفاته. وأمّا الاستعاذةُ بغيره تعالى، فلمْ أعثر على مَن
تطرَّق له من الفقهاء، لكن يُمكن أن يُقال: إنْ كان التّعوُّذَ بالجنِّ، فإنّه غيرُ
جائز، لقوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ
مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا﴾ الجنّ:6،
ولدخوله في أنواع السِّحر المَنهيّ عنه. وإنْ كان بغيره، فالظّاهر جوازُه ما لم يَنتهِ
إلى مُحرَّمٍ، كالشِّرك ونحوه. وعلى أيِّ حالٍ، لم تُتداول الاستعاذةُ بغير الله
تعالى عندنا بلفظ الاستعاذة.
3-
المُستَعاذ منه: وهو كثير، وأهمُّ أفرادِه الشّيطانُ
بمعناه العامّ الشّاملِ لكلِّ متمرِّدٍ من الجنِّ والإنسِ والدّوابِّ. وقد مُلئتِ
الأدعيةُ المأثورةُ عن أهل البيت، عليهم السّلام،
بِذِكرِ ما يُستعاذُ منه، ومن جملة ذلك ما وردَ في (الصّحيفة السّجّاديّة) للإمام
عليّ بن الحسين السّجّاد عليه السّلام:
«أَللَّهُمَّ
إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ هَيَجَـانِ الْحِرْصِ، وَسَوْرَةِ الغَضَبِ، وَغَلَبَةِ
الْحَسَدِ، وضَعْفِ الصَّبْرِ، وَقِلَّةِ الْقَنَاعَةِ، وَشَكَاسَةِ الْخُلُقِ،
وَإلْحَاحِ الشَّهْوَةِ، وَمَلَكَةِ الْحَمِيَّةِ، وَمُتَابَعَةِ الْهَوَى،
وَمُخَالَفَةِ الْهُدَى..».
إلى
أن يقول عليه السّلام: «وَنَعُوذُ
بِكَ مِنْ سُوءِ السَّرِيرَةِ، وَاحْتِقَارِ الصَّغِيرَةِ، وَأَنْ يَسْتَحْوِذَ
عَلَيْنَا الشَّيْطَانُ، أَوْ يَنْكُبَنَـا الزَّمَانُ، أَوْ يَتَهَضَّمَنَا
السُّلْطَانُ. وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ تَنَاوُلِ الإسْرَافِ، وَمِنْ فِقْدَانِ
الْكَفَـافِ، وَنَعُوذُ بِـكَ مِنْ شَمَاتَةِ الأعْدَاءِ، وَمِنَ الْفَقْرِ إلَى
الأكْفَاءِ، وَمِنْ مَعِيشَةٍ فِي شِدَّةٍ، وَمَيْتَةٍ عَلَى غَيْـرِ عُدَّةٍ.
وَنَعُـوذُ بِكَ مِنَ الْحَسْرَةِ الْعُظْمى، وَالْمُصِيبَةِ الْكُبْرَى،
وَأَشْقَى الشَّقَاءِ وَسُوءِ الْمَآبِ، وَحِرْمَانِ الثَّوَابِ، وَحُلُولِ
الْعِقَابِ. أللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَأَعِذْنِي مِنْ كُلِّ ذَلِكَ
بِرَحْمَتِكَ وَجَمِيـعَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَا أَرْحَمَ
الرَّاحِمِينَ».
والاستعاذةُ
- بصورةٍ عامّة - مستحبّةٌ بلا خلافٍ ظاهراً، نعم حُكي فيه قولٌ بالوجوبِ في بعض
الموارد لكنّه شاذّ، كما سنُشير إليه. وتختلفُ صِيَغُ الاستعاذة بحسب مواطنها كما سيتَّضح.
مواطنُ
الاستعاذة
v الاستعاذة قبل تلاوة القرآن:
وَردَ الأمرُ بالاستعاذة قبل تلاوة القرآن، في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ
الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ النّحل:98.
والمعروفُ بين الفقهاء والمفسِّرين أنّ الأمر هنا للاستحباب لا اللُّزوم، بل ادُّعِيَ
عدمُ الخلاف فيه. نعم نُقِل عن الشَّيخ أبي عليّ - ولد الشّيخ الطّوسيّ رحمه
الله - القولُ بالوجوب، لكنّه شاذٌّ وإنْ
مالَ إليه العلّامةُ المجلسيّ رحمه الله.
ومحلُّ
الاستعاذة قبل القراءة، وأمّا قولُه تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ..﴾ فمعناه:
إذا أردْتَ القراءة، مثل: إذا أكلْتَ فاغسلْ يدَيك. وأمّا صيغتُها، فالمشهور: «أعُوذُ
باللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيم»، ورُوي: «أعُوذُ باللهِ السَّميعِ العليمِ
مِنَ الشّيطانِ الرَّجيمِ»، واختارَ هذه الصِّيغة الشَّيخُ المفيد، والقاضي [ابن
البرّاج]، ورجّحَها صاحبُ الحدائق [المحقِّق
البحرانيّ]، وكاشفُ الغطاء، وصاحبُ الجواهر [الشّيخ
الجواهريّ]، ورُوِيَت صُوَرٌ أُخَر غير مشهورة.
v الاستعاذة قبل القراءة في الصَّلاة:
الاستعاذةُ قبل القراءة في الصّلاة كالاستعاذة قبل تلاوة القرآن في غير الصَّلاة،
من حيث الحكم التّكليفيّ والصِّيغة. ومحلُّها على المشهور الرّكعة الأولى قبل القراءة،
لكنّ يظهرُ من بعضهم عدمُ اختصاصها بالرّكعة الأولى، كصاحب الحدائق، والفاضل النّراقيّ
[الشّيخ أحمد]،
وصاحب الجواهر.
ويُستحبُّ
الإسرارُ (الإخفات) بها على المشهور، ونُقل عن بعضهم الميلُ إلى القول بالإجهار، لِما
رُوي [من]
الإجهار بها. وتستحبُّ في كلِّ صلاةٍ، فريضةً كانت أو نافلةً. وكلّما سقطت القراءةُ
في الصّلاة سقطت الاستعاذةُ أيضاً، لأنّها تَتبعها، كما في المأموم إذا لم يَقرأ،
وصلاة الميت.
v الاستعاذة عند قراءة آية النّقمة:
تُستحبُّ الاستعاذةُ عند قراءة آيةٍ فيها نقمة، أو عذاب، أو تخويف، بل قيل: إنَّها
تُستَحبُّ للمأموم أيضاً إذا قرأَها الإمامُ، لِما رواه الحلبيّ عن أبي عبد الله عليه
السّلام، قال: «سألتُه عن الرَّجل يكون مع الإمام
فيمرُّ بالمسألةِ، أو بآيةٍ فيها ذكرُ جنّةٍ أو نارٍ؟ قال: لَا بَأْسَ بِأَنْ
يَسْأَلَ عِنْدَ ذَلِكَ، ويَتَعَوَّذَ فِي الصَّلَاةِ مِنَ النَّارِ، ويَسْأَلَ اللهَ
الْجَنَّةَ».
والظّاهر
عدمُ اختصاص الاستحباب بالقراءة في الصَّلاة، وإنْ ذكرَه الفقهاءُ فيها، لِما رواه
سُماعة، قال: «قال أبو عبد الله عليه السّلام:
يَنْبَغِي لِمَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ
فِيهَا مَسْأَلَةٌ أَوْ تَخْوِيفٌ أَنْ يَسْأَلَ اللهَ عِنْدَ ذَلِكَ خَيْرَ مَا
يَرْجُو، ويَسْأَلَه الْعَافِيَةَ مِنَ النَّارِ ومِنَ الْعَذَابِ».
وروى
الرّجاء بن الضّحّاك، قال: «كان الرَّضا عليه
السَّلام في طريق خراسان يُكثِرُ باللّيل في فراشه
من تلاوة القرآن، فإذا مرَّ بآيةٍ فيها ذِكرُ جنَّةٍ أو نارٍ بكى، وسألَ اللهَ
الجنّة، وتعوَّذَ به من النّار».
v
الاستعاذة
عند التّخلِّي: من آداب التّخلِّي الاستعاذة، والدُّعاء
بالمأثور، لِما روى معاوية بن عمّار، قال: «سمعتُ أبا عبد الله عليه
السّلام يقول: إِذَا دَخَلْتَ الْمَخْرَجَ
فَقُلْ: بِسْمِ الله، أللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخَبِيثِ الْمُخْبِثِ
الرِّجْسِ النِّجْسِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ..».
وروى
الصَّدوق مرسلاً، قال: «كان رسولُ الله صلّى الله عليه وآله،
إذا أرادَ دخولَ المتَوَضَّأ، قال: أللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الرِّجْسِ
النِّجْسِ، الْخَبِيثِ الْمُخْبِثِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ..».
وهناك
موارد أُخَر ذُكِرَ استحبابُ الاستعاذة فيها، مثل: الاستعاذة عند دفنِ المَيت، وعند
المخاوف، وغيرهما.