مع المجاهدين
ذَلِكَ الفَوْزُ العَظيِم*
ـــــ الشّيخ حسين
كوراني ـــــ
يُحدّثنا تعالى عن فرحِ الشُّهداء:
﴿فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللهُ مِنْ
فَضْلِهِ..﴾ آل عمران 170.
ويبيّنُ لنا أنّ أجرَ الشُّهداء، يشملُ المُجاهدينَ في بعضِ مراتبِه:
﴿..وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ
فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ النّساء 74.
ويمتدُّ هذا الأجرُ ليغطّيَ مساحةَ كلِّ عملٍ يقوم به
المجاهدُ ولو كانَ صغيراً جدّاً، كخطوةٍ أو موطئ قدمٍ هو أصغرُ من الخطوة:
﴿..ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ
ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَطَئُونَ
مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا
كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ..﴾ التّوبة:120.
كما يوضحُ لنا عزَّ وجلَّ أنّ جزاءَ المجاهدين يتناسبُ مع أحسن ما عملوا:
﴿..إِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ
الْمُحْسِنِينَ﴾ التّوبة:120.
﴿..لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ التّوبة:121.
ثمّ يصلُ بنا إلى القِمَّة: الفوزِ العظيمِ:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ
أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ
طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى
تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الصّفّ:10-13.
﴿..فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ
الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ التّوبة:111.
نستنتجُ أنّنا في مجالِ الثّوابِ في الجهادِ أمامَ
توصياتٍ أساس، هي:
* أوّلاً: إخلاصُ النّيّة، ويتحقّق عندما يكونُ مَرْمى العقلِ
والقلبِ والوجدانِ والكيانِ: وجهَ اللهِ والدّارَ الآخرَة...
* ثانياً: البحثُ عن الثّوابِ في مظانِّه، ومنجمُها الأوّلُ حيثُ
يحمى الوطيس. كلّما اشتدَّ الخطرُ تعاظمَ الثّواب؛ وعلامةُ البحثِ عنه: «اسْتَلانُوا
مَا اسْتَوْعَرَهُ المُتْرَفُون».
تَقْصُرُ الهِمَمُ فينا عن ارتيادِ مواطنِ الخَطَرِ،
وتقصرُ موضوعيّتُنا عن الاعترافِ بالفشل، فنصغِّرُ من قَدْرِ الثّوابِ ونبتدعُ له
ما يُشبَّه به لنا فنحسبُه الثّوابَ، وربّما أمضَينا العُمُرَ عُكَّفاً ببابِه، خُشَّعاً
في محرابِه! وكما حَسِبناه الثّواب، نحسبُ أنّنا نُحسِنُ صُنْعَه.
نبحثُ عن الثّوابِ في جلسَة، وأكْلَة، وتقديمِ اليُمنى
على اليُسرى، أو العكس، وفي ذكرٍ أو مديدِ وِرْدٍ، وملءُ الإهابِ الغفلةُ عن أنّ
كلّ ذلك دِين، ولكنّه رهنُ روحِ الجهاد المُتَوَثِّبَة.
ليست تَصْدِيَةُ القاعِدِ كَذِكر المُجاهد.
لم يخلقِ الذِّكرُ والجهادُ إلّا حقيقةً واحدةً لا عِوَجَ
فيها ولا أَمْت.
الذّاكر مُجاهدٌ، والمجاهدُ ذاكرٌ.
ومن هنا كان: «الذّاكِرُ في الغَافِلينَ كَالمُجاهِدِ
في الفارِّينَ».
* ثالثاً: الجنّةُ باطنُ الدّنيا القائمة على سلامةِ النّيّةِ
وطهارةِ الطَّوِيَّة، فبَين الجنّةِ والنّوايا الحَسَنةِ ما يطولُ شَرْحُهُ، هذا
إنْ لم يَستغلقْ فَهْمُه.
الفوزُ العظيمُ هو ما بلغَ بصاحبِه الجنّةَ: ﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ الصّفّ:12.
إنّه المغفرة والزُّلفى تتجلّى بدخول الجنّة، ولها لوازمُ
من المساكنِ الطّيّبةِ وما يحفُّ بها.
الفوزُ العظيمُ، إذاً، فعلُ نيّة، بعضُ ثمراتِها الجنّة،
ورضوانٌ من الله أكبر، ولذلك كان مُرتبطاً بالبَيْعِ الّذي بايعَ المجاهدون إلى حدِّ
التّماهي. إنّه هو نفسُه لا غير. البيعُ هو الفَوْز: ﴿..فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ التّوبة:111.
* رابعاً: ومن كمالِ البيعِ حُسنُ الطّاعة.
ويرتبطُ الاستبشارُ به بطاعةِ القائد، بل هو الطّاعة،
سواء أكانَ القائد الميدانيّ، أو العامّ، فلا بيعَ بلا تسليم.
يعني ذلك التّرابط بين الفوزِ العظيم، ومُخالفةِ هوى النّفس
حيث تجمحُ عمّا يأمرُ به قائدُ الزّحف.
* خامساً: الفاصلُ الزّمنيّ بين تحقّقِ البيع وبين جنّاتِ عَدْنٍ -
مهما كان - يُشبِهُه الفاصلُ الزّمنيُّ ما
بين نهاية المرحلةِ الدّراسيّة، وحفلِ التّخريج. الطّبيبُ طبيبٌ وإنْ لم يبلغْ بعدُ
حفلَ التّخريج، إلّا أنَّ ارتكابَ جُنحةٍ أو جريمةٍ قد يَحولُ بينه وبين ما يأمل.
أيُّها العزيز، هذا الرّصيدُ العظيمُ: الفوزُ العظيم، رَهْنُ
حركةِ القلب، وخفقاتِه. إنّه ثمرتُها فلا غروَ أن يكونَ رهنَها. لا تفرِّطْ به
ليَفْرُطَ عليك الخسران. اِخزن ثوابَك بأفضل ممّا تخزنُ به وَرِقَكَ والجواهِرَ. احفظْ
ثوابَك وحافظْ عليه. لا تتحدّث بُمْنجزاتِك في ميادينِ الجهاد. سرٌّ بينَك وبينَ
الله تعالى، فلا تُطلِعْ عليه أحداً. لا يعشقُ الحبُّ إلّا السّرَّ. الحبُّ سرٌّ.
استَحضِرْ في الفؤاد على الدّوام قصّةَ ذلك المُجاهد المُحمّديّ
يحملُ في القادسيّة تاجَ كسرى تحتَ طرفِ ثوبِه، حتّى لا يراه المجاهدون فيتَداخله
العُجْب، ويمضي به على تلك الحال إلى حيث تُجمَعُ الغنائم.
عندما تستمعُ إلى تكريمِ الشُّهداء ويَتداخلُكَ إحساسُ
التّوقِ لمثله أو اللّهفة، وتكادُ تشعرُ بتجاوُزِ هذا الإحساسِ شروطَ الفوزِ
العظيم: ابتغاءَ وجهِ الله والدّار الآخرة، فاعلَمْ أنّ طائفَ الشّيطانِ يطوفُ،
وقد مسَّ أو شارف. اُذكر اللهَ تعالى، فإذا أنت مُبصِرٌ.
لا تَدَعِ الشّيطانَ يسرق منكَ أدنى درجاتِ هذا الفوز
العظيم.
واللهُ سبحانَه وليُّ
التّوفيق.
* إحدى حلقات برنامج «مع المجاهدين» الذي بثّته «إذاعة
النّور» في بيروت، موجّهاً إلى مجاهدي المقاومة الإسلاميّة أعزّها الله تعالى، سنة
1993 ميلاديّة.